رغم الظلمة .. رغم النوم

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

قصة : طارق إمـام *

لا نذكر أي شيء عن اللحظة التي داهموا فيها منازلنا ، و انتزعونا من فوق أسرتنا بينما كنا نغوص في منامات عميقة ، أشبه بموتى لا تربطهم بالحياة سوى أنفاس مضطربة .. لنجد أنفسنا في ذلك المكان الفسيح المظلم ، مقيدين في مقاعدنا ، فيما يشبه قاعة عرض مهجورة ، قبالة شاشة ضخمة مضاءة .

كنا قد بدأنا بالكاد نشعر بالألم ، الآن ، في مناطق مختلفة بامتداد أجسادنا ، استشعرناها تدريجياً تتعالى ، دون أن نتمكن من تحسسها . كانت هذه هي اللحظة التي عرفنا فيها أن أيادينا مقيدة إلى الكراسي ، و كذلك أرجلنا . ألسنتنا فقط كانت تتحرك ، مستشعرة لزوجة الدماء التي تسيل من أنوفنا و أفواهنا .

نعم .. كنا وقتها نسبح في أحلام أكيدة ، و لابد أنهم حين اقتحموا غرفنا لينتزعونا من الأسرة لم يواجهوا مقاومة تذكر .

كانت وجوههم ــ التي تعرفنا عليها رغم الظلمة ، رغم النوم ــ مألوفة لكل شخص في المدينة ، و خطاهم المنتظمة التي تدك الأرض تكفي لكي يفتح الجميع الأبواب قبل أن يطرقوها .

كل ما نذكره عن أنفسنا أننا أفراد فرقة موسيقية ، تعزف في مسارح مرتجلة بامتداد المدينة . نستخدم آلات نحاسية و كهربائية ، و لا مكان لدينا للموسيقى الشرقية . انه شجن مفتعل ، شخص ينكفيء على عود ، آخر ينتصب رافعاً نايه لأعلى .ليست لدينا ذكريات بعد . نحن صاخبون . الرجال عندنا يشبهون الفتيات ، ربما تماما .. كذلك من يحضرون إلينا من أقاصي المدينة ، يصعب أن تفرق بينهم .إحدى أشهر أغنياتنا نؤديها و نحن نمارس الجنس ، من أصوات التأوهات ، و الشهقات ، و اللهاث .. من أصوات اللعق المنهمكة الخفيضة ، و تقلبات الأجساد على خشب المسرح المؤلم ، تخرج الأغنية .ربما نهدد الأمن العام ، لكن ليس بسبب إباحيتنا ، في هذه المدينة لا تمثل هذه الأشياء تهديداً . هناك أشخاص يقتلون ، يحدث ذلك كلما دندنوا بأغنية لنا .كل من يغني أغانينا خارج  قاعاتنا المغلقة ، يقتل ، بطعنة في حنجرته .

كان لابد أن يقتادونا ، في المنامات تحديداً ، لأن ذلك كان يحدث دائماً و نحن نائمون .

في لحظة ما ، ازداد الألم ، كأننا كنا نتخلص تدريجيا من مخدر ، فبدأنا في الصراخ .. و في هذه اللحظة فقط بدأت ظلالنا ، ظلالنا العارية ، تتحرك على الشاشة الضخمة البيضاء ، بينما تتوالى أحلامنا أمامنا على الشاشة .. بالمشاهد الدموية التي شهدتها ، و التي لم يتخيل أحدنا أن شخصاً سواه قادر على رؤيتها ، بنفس دقة الرؤيا التي يعجز أي منا عن سردها .بل إن بعض تلك الأحلام كنا قد نسيناه أو كدنا .. حتى أدق التفاصيل كانت حاضرة : أصوات الأعيرة النارية الممزوجة بالعزف ، و ألوان الدماء ، ووجوه القتلى . كنا قتلة المنامات الذين اقتادوهم الآن رغم أن نقطة دماء واحدة لم تكن عالقة بملابسنا و هم يحملوننا لنمل نومنا هنا .و فوجئنا بهم يخبروننا أن علينا أن نذكر الدوافع.. غير مصدقين أن قتلانا شُيِّعوا بالفعل إلى المقابر في الصباح ، بينما كنا نغص في نوم عميق أبطاله ضحايا جدد ، أخبرونا أنهم في حالة خطرة بدورهم .

لم نصدق .. كن حبيبات ، وآباء و أصدقاء و أبناء . أخبرونا الآن فقط أنهم وجدوا مطعونين أمام عتبات منازلنا . قالوا إن الجرائم نسخ طبق الأصل من أحلامنا بها ، و أنه لا داعي للإنكار ، و لم يكن بمقدورنا الآن أن ننظر لأنفسنا كمحض حالمين .. و استطعنا أن نصدق أن الدماء التي تغرقنا ــ الآن فقط ، في هذه اللحظة ، كوردات تنبت من العدم ـ تخص ضحايانا .

أعتمت الشاشة .. و أخبرونا أنهم بدورهم يحلمون بنا الآن ، بعيداً ، في أسرتهم ، في لياليهم المتوحدة ، يتوجهون بنا إلى غرف الإعدام .. يتركوننا للحظة الموت ، و أنهم حين يستيقظون في الصباح التالي ، ستكون مهمتهم قد انتهت .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قاص وروائي مصري

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون