رسائل الهجرة والحنين   “رقية” رضوى      

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

صديقي،

لم أخبرك أني اكتشفت روايات عربية على موقع أمازون وفرحت لهذا الكشف كأنني "لقيت لقيه".

كنت أشتري رواية مترجمة لنجيب محفوظ لزميلة.  عادتي القديمة، اهداء الكتب للغرب والأصدقاء. حتى الكتب الالكترونية اشتريتها كهدايا، ومن لم يستلم الهدية علمت أنه لن يصلح لمعرفة طويلة المدى.  يكفيه عبور خفيف والتقاطع الوقتي للسبل، ثم ليمضي بسلام.  

 

آخرون يقرؤون الكتب، وهذا هو غرض شرائها. نعم اشتريت لكل من عرفته بحياتي تقريبا كتابا، لكني لا أعطي من كتبي الخاصة عزيزًا أو حتى قريبًا.  مكتبتي أغلي ما عندي وأحزنني أن تركتها مضطرة بمصر، إلا قليلا شحنته قبل قدومي إلى أمريكا.

واليوم أجد الكتب الكترونية على أمازون وأشتري منها كتابًا.  رغم معرفتي بأن بإمكاني تحميله مجانا. لكن الخمسة دولارات تلك هي دعم مني للفكرة.  أن تُنشر كتب عربية على موقع أمريكي.

ثم إنها رضوى عاشور! وهذا يكفي كي أقتني كتابها بنسخة متوافقة مع الكندل وأقرؤه بخط واضح وأحفظ ما يعجبني.

“أثقل من رضوى” سيرتها وآخر ما كتبت.

يحدث هذا تزامنًا مع ذكرى رحيلها، فأعتبرها دعوة لقراءة الكتاب وأبدأ فيه بالفعل رغم ضيق الوقت ويثير في الأفكار والمشاعر كعادة كل كتاب. كان كتابها “الرحلة” آخر ما قرأت لها في بداية هذا العام. اشتريته من مصر وحملته معي إلى هنا مستعيدة ذكريات رحلتي كطالبة بأمريكا.

يبدأ “أثقل من رضوى” بسفرها إلى أمريكا، وينتهي بتاريخ ١٩ مايو ٢٠١٣, أيام معدودة بعد رحلة عودتي إلى مصر الأولى بنفس العام. 

لا علاقة لهذا بأي شيء.  فقط هي الأفكار تتواتر لذهني.

أنغمس بالكتاب تمامًا لكن الأحداث تجرفني لكتاب آخر لرضوى.

معرفة الحدث صارت لحظية، تجبرك تنبيهات على هاتفك المحمول لتكون حاضرًا وقت وقوعه.

لكن عقلي الكاره للسياسة ومجريات الأحداث استحضر رواية عندما استاء من جبر الواقع.

 لقد تمثلت أمامي “رقية” الطنطورية عندما عرفت خبر اعتراف الرئيس الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل!

هل تذكر رقية؟ و”يحي” الذي انشق البحر عنه؟

يا له من مدخل لرواية!

 

هل تذكر مفتاحها الذي علقته برقبتها بعد رحيل أمها، عندما أعطتها إياه الخالة؟

مفتاح البيت الذي لن تعود له، ومعرفتها لاحقا أن نسوة المخيم يعلقون مفاتيح بيوتهم مثلما كانت تفعل أمها.

وكلما ذاب الخيط المعلق بالرقبة، أتين بحبل جديد ليظل المفتاح الحديدي قريبا من لحم الصدر.

والقلب يكتم آساه تحت الأضلع وتمضي الحياة، بين المخيمات وبيروت ومصر والعائلة التي مضى بها العمر مشتتة في بلاد الله ورقية في انتظار الرجوع لفلسطين التي لم تعد.

والمفتاح انتقل للحفيدة، “رقية” الصغيرة. 

كم عمر رقية اليوم؟

وهل لم تزل تحمل المفتاح أم أنه معلق على طرف مرآة غرفة نومها كذكرى من الجدة الراحلة. وعلى صفحة المرآة انعكاس لشاشة التلفاز وخبر العاصمة.

هل ارتج المفتاح للخبر؟ لا تتوهم أنه لكونه حديدا لن يلن.  لقد مس قلب “رقية”, وأنت الأعلم بما حمله قلب “رقية”. 

و”رضوى” كانت تعلم وبرعت في كتابة شهادتها.

وهي غنية كل الغنى عن اشادتي بأسلوبها وأثر وصفها بالنفس.

يكفي أن أقول أنها “رضوى عاشور” لتعرف، أن الصور على الصفحات مرئية وأن كل شخصية حية، و”رقية” بالوجدان واقعا لا خيالا.  واليوم تزورني بأمريكا بعد سماعي الخبر. فأزور “الطنطورية” من جديد.

 

كرواد المتاحف عندما يقفون طويلا أمام لوحة ويتأملونها من عدة زاويا، هذا هو أثر كتابة رضوى عاشور علي.  بعض الجمل تستوقفني وأتأمل جمال تصويرها.

 

“البحر حد البلد يعيرها أصواته وألوانه، يلفها بروائحه، نشمها حتى في رائحة خبز الطابون.”

 

البيت في “طنطورة” المطلة على البحر بجنوب حيفا والعمر قد انقضى.  والمفتاح معلق بالرقبة لكنه لم يدفن مع الجسد الذي استسلم للموت قبل أن يبرأ من لعنة الانتظار.

 

“كيف سقطت حيفا؟ سيتردد السؤال في طول البلد وعرضه. سلمها الإنجليز لليهود؟ كيف؟ ماذا حدث للحامية؟”

لم تخبر “رقية” “وصال أنها صارت لاجئة مثلها. 

اللاجئين نقرأ عنهم في الأخبار لكن هل نعي حقا مصيبتهم؟

 

نجحت رضوى عاشور أن تنقل لنا حكاية رقية وفي الحكاية تاريخ وبالتاريخ تذكرة وعبرة لمن يعتبر.

الأدب الذي يراه البعض ملهاة هو شهادة حية للإنسانية فالتاريخ يعبث به المنتصرون ويزيفه أصحاب الأغراض.

والأديان أيضا.

أتظنني بتسامحي الذي لا حدود له أنظر للقضية على أنها “يهود” و”مسلمون”؟

عقلي الإنساني لا يرى سوى مآسي العنف التي لا تنتهي.

ويعيدني للسؤال الأول

لماذا نكتب؟

إن كانت أعمار من الثقافة والفكر لم تنجح في تهذيب من لا يؤمنون بالإنسانية.

باسم الرب، باسم الوطن والأرض وباسم الدين نقتل ونُقتل.  نشرد ونهجر. وكل صاحب قضية يرى أنه صاحب حق.

لكن إن لم نكتب كيف كان لرضوى أن تحكي حكاية “رقية” فنعرفها.

وليت للعالم بأجمعه قلوب يبصرون بها كي يتفهموا أم رقية عندما أنكرت رؤية جثث زوجها وولديها وعاشت العمر تود لو أن أحد يطمئنهم أنها وابنتها بأمان!

الحياة مليئة بحكايات كتلك، تمس من رحم ربك.

وحدهم الرواة قادرين على تخليدها، لا نشرات الأخبار ولا خطابات الرؤساء ولا تحليلات العارفين على الانترنت تعرفهم.

لن أغير صورة بروفايلي وأكتب القدس فلسطينية، سأعاود قراءة “الطنطورية” وقد أجدها مترجمة وأهديها لغير عربي.

“رقية” أوحت لي بالفكرة، كانت بجانبي ونحن نتابع الأخبار.

أخبار فلسطين التي لم أرها.

لكن منذ وعيت وبها يهودا.

وهناك دولة اسمها إسرائيل

ما الذي تغير منذ تسعة وستون عاما؟  عندما أُخلت “طنطورة” وغيرها من القرى بالكامل.

تحصيل حاصل ما قد حدث أم أنه خطب جلل؟

 

“بين النوم والصحو في سريري يلتبس على الأمر. أقول هل كان “ناجي” يجلس بجواري أم كان طيفا بالمنام؟ هل أجده صباح الغد في عين الحلوة؟ هل يلتقي ناجي برقية الصغيرة ذات يوم عبر السلك أو بدونه؟”

 

 

ميرلاند ١١ ديسمبر ٢٠١٧

 

 

 

مقالات من نفس القسم