دنكيرك: عزيزي نولان.. أسياد الأكاديمية راضيين عليك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
محمد العبادي أخيرا رُشح "كريستوفر نولان" لأوسكار أحسن إخراج، فبعد ترشيحين عن السيناريو (مومنتو وإنسبشن) وترشيح عن أحسن فيلم (إنسبشن) تقتنع الأكاديمية الأمريكية أخيرا أن "نولان" مخرج مميز وليس مجرد كاتب سيناريو مُجيد.

مع الوقت يتصاعد الجدل حول نولان بشكل حدي بين محبي السينما خصوصا على مواقع التواصل الاجتماعي.. فمنهم من يعتبره من عباقرة الإخراج.. حتى وضعوه في مقارنة مع العظيم “ستانلي كوبريك” بل وفضلوه عليه.. ومنهم من يعتبره مجرد مخرج تجاري مبالغ في تقديره “Overrated”.. ودائما ما يجد “الأوسكار” نفسه طرفا في هذه “الخناقة”.. فكان دوما عدم ترشحه لجائزة الإخراج في الأوسكار – وفي كل الجوائز السينمائية الكبرى تقريبا – من أهم نقاط الجدل بين من يجعلون ذلك وسام على صدر مخرجهم يثبت عبقريته.. معتبرين المشكلة في الأوسكار التي ترفض كل ما هو مختلف ومبتكر.. وبين من يجعلون تجاهل الأكاديمية هو الختم الدامغ على أن نولان مجرد مخرج ناجح جماهيريا.. وفاشل نقديا…

الآن وبعد “دنكيرك” تغير الوضع.. ليحصل نولان أخيرا على لقب “ساقط أوسكار إخراج”.

لكن هل حقا غيرت الأكاديمية رأيها فيه.. أم أن نولان نفسه هو من تغير؟

عن نفسي لا أجد ما يعيب في أن يكون المرء متطلعا للجوائز.. فمن حق الفنان أن يكون محبا للنجاح وباحثا عن التقدير العالمي نقديا وجماهيريا.. بالتالي لا ينقص من المخرج أن يحاول إظهار نقاط القوة في عمله بالشكل الملائم لذائقة الجوائز العالمية. طالما لم يأت ذلك على حساب “ابتذال” الإبداع وتحويله إلى “ما يطلبه المحكمون”.

وأزعم أن العديد من المخرجين قاموا بإظهار مشاريعهم الفنية بصورة ملائمة للأكاديمية.. أجد هذا مثلا عند اثنين من “الأصدقاء المكسيكيين” على الأقل.. إنياريتو في “بيردمان” و”العائد”، وديل تورو في “شكل الماء”.

ربما هو نفسه ما فعله نولان في فيلمه الحربي.. فبتحليل مكونات الفيلم المختلفة نستنتج أنه فيلم معد خصيصا لإظهار قيمة المخرج.

على مستوى السيناريو.. بما أن السيناريو كان دائما النقطة الأكثر تقديرا في أعمال نولان السابقة فنجد أنه تعمد هنا أن يضع القيود حول يديه ويخفي متعمدا واحدة من أهم مهاراته الفنية.. ليعطي المجال لظهور الإخراج بينما يتوارى السيناريو في الظل.. فسيناريو “دنكيرك” شديد البساطة.. يكاد يخلو من الحبكة والانتقالات القوية بين الأحداث.. ليبدو الفيلم في بعض المناطق أقرب لفيلم وثائقي لا يعبأ سوى بعرض الأحداث بصورة مجردة.. السيناريو مكتوب على ثلاث خطوط سردية منفصلة يربطها في الأساس الحدث الرئيسي الأكبر: عملية إجلاء قوات المشاة البريطانية من دنكيرك.. رغم تعدد الخطوط السردية لكن لا يمكن وصف السيناريو بالتعقيد.. فالعلاقة بين الخطوط محدودة للغاية.. ويبدو الهدف الرئيسي من تعدد الخطوط هو إعطاء الفرصة للمخرج لإظهار صورة ثرية ومتنوعة عبر الأماكن المختلفة للأحداث: البر.. البحر.. والجو…، الحوار في الفيلم بسيط ولا يمكن اعتباره مسئول أساسي عن تصاعد الأحداث.. بل يبدو الحوار في بعض الأجزاء كعنصر من عناصر المؤثرات الصوتية (الاتصالات اللاسلكية بين الطائرات في الجو).. أو بديل للتعليق المباشر في الأفلام الوثائقية (الحوارات على قارب الصيد عن أنواع الطائرات وتفاصيل المعركة).

أداء الممثلين: من الملاحظة نجد إن حسن إدارة المخرج للممثلين من أهم المميزات التي تحظى بتقدير الأكاديمية (ربما هي الميزة التي منحت مخرج متوسط المستوى مثل ديفيد أو راسل كل هذه الترشيحات).

تثمن الأكاديمية كثيرا المخرج الذي ينجح في إدارة طاقم الممثلين في ظروف عمل صعبة, أو الذي يُظهر أداءهم بشكل متميز يرشحهم لجوائز التمثيل, كذلك تثمن المخرج الذي يجيد العمل مع من لم يسبق لهم التمثيل من قبل.

ومن اختيار نولان لممثلي فيلمه نشعر أن نولان حاول أن يمنح الأكاديمية كل ما يسيل لعابها.. فجمع بين الممثلين الذين وثق في أدائهم في أفلامهم السابقة (توم هاردي، سيليان ميرفي…)، وبين من تحب الأكاديمية أداءهم (مارك ريلانس)، وبين من لم يسبق لهم التمثيل (هاري ستايلز).

أجاد نولان في اختياره للممثلين.. وكانوا عند حسن ظنه.. ساعدهم على ذلك تعمده لاختيار أدوارهم في مناطق أداء سبق لهم أن خبروها جيدا.. فها هو “توم هاردي” الذي سبق وأجاد مرتديا قناع “بين” في “صعود فارس الظلام” يظهر هنا مرتديا قناع الطيار.. وها هو “مارك ريلانس” يظهر بنفس الأداء الهادئ المشبع بالتسليم بالقدر الذي حصد عنه الأوسكار في “جسر الجواسيس”.

بالطبع لم يظهر أي من الممثلين بشكل مغاير للمألوف.. ولا نستطيع أن نقول أن أحدهم قدم أداءً في منطقة مختلفة عما عهدناه عليه.. كانوا ناجحين في أدوارهم تماما لكن غير متميزين.. فاستطاعوا أن يصلوا بالفيلم إلى (بر الأمان).

الصورة: دنكيرك هو فيلم عن “ما يُرى” وليس عن “ما يُحكى”.. فالبطل هنا هو الصورة التي تظهر للمشاهد بكل تفاصيلها.. لهذا نجد في الفيلم اهتمام هائل بالصورة بكل مكوناتها.. على مستوى التصوير حصل الفيلم على ترشيح مستحق لأوسكار أحسن تصوير.. ظهر النجاح التقني في التصوير بالذات في مشاهد المعارك الجوية.. واستطاع نولان أن يستخدم العديد من زوايا التصوير الحيوية وأن يظهر الكثير من الكادرات المتميزة بنائيا.. بالطبع ليستعرض فيها عضلاته كمخرج…

وعلى مستوى مكونات الصورة يظهر الاهتمام الفائق بتصميم الإنتاج (رُشح للأوسكار)، وتصميم الملابس, وإدارة المجموعات والبدلاء والمجسمات.

الإيقاع: أهم نقاط قوة “دنكيرك” هي القدرة على أن تصنع فيلما جاذبا للجمهور رغم خلوه من تصاعد الأحداث.. كلمة السر في جاذبية الفيلم هو الإيقاع…

لبناء الإيقاع الجذاب للفيلم اعتمد نولان على توليفة من عنصرين: المونتاج والموسيقى التصويرية.. مونتاج لي سميث الحاصل على الأوسكار مصنوع بوعي وحساسية.. اعتمد في معظمه على القطع السريع بين اللقطات بشكل يجعل المشاهد يلهث خلف الصور والاحداث.. مع حكمة في التوليف بين الخطوط السردية المختلفة وتهدئة إيقاع القطع نسبيا في بعض المناطق لكي لا تتسبب السرعة الزائدة في تشتيت وعي المشاهد.

أما موسيقى هانز زيمر (الذي خسر جائزة أوسكار مستحقة مرة أخرة) فليست مجرد موسيقى مصاحبة للصورة.. هي جزء أساسي من الصورة.. موسيقى لها شخصية خاصة تقوم تكوين وعي المشاهد وتعاطفه مع الأحداث.. تضغط على أعصاب المشاهد بلا رحمة في لحظات الخطر.. ليتوحد مع ما يراه ويشعر بنفس التوتر والألم الذي تشعر به الشخصيات على الشاشة.. هي ببساطة موسيقى لا غنى عنها.. لا يصبح الفيلم فيلما كاملا بدونها.

بناء على هذا التحليل.. يبدو أن الأكاديمية لم تغير رأيها في نولان.. بل نولان هو من نجح في أن يجعل أسياد الأكاديمية يرون فيه ما يحبون.. فباتوا راضيين عليه.

 

مقالات من نفس القسم