حين صنعت إيران فيلماً عن الرسول

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 8
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العبادي

من النادر أن يحصل الفيلم على لقب “فيلم مثير للجدل” قبل عرضه.. فما بالك بفيلم أثار الجدل قبل تصويره؟

فمع تواتر الأخبار من إيران عن قيام المخرج “مجيد مجيدي” بالتجهيز لفيلم عن حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) انفجر الجدل حول الفيلم عبر العالم الإسلامي، خصوصا في البلاد السنية التي اعترضت مبدئيا على قيام إيران الشيعية بعمل فيلم عن حياة الرسول. جاء على قمة هذه الاعتراضات بيان للأزهر الشريف طالب فيه إيران بمنع نشر الفيلم. واستمر زخم الرفض حتى بعد عرض الفيلم.. وفي بعض الدول التي قامت بعرضه مثل تركيا قوبل ببيانات رفض وانتقاد من قبل المراجع الدينية.

لكن دعنا لا ندخل في تفاصيل الجدل الديني والسياسي حول الفيلم.. فقد تم منه ما يكفي على مدى سنوات.. فأيا كان اتجاه الفيلم سياسيا أو دينيا لا يجب أن نغفل عن تحليله كعمل فني.. فتبقى السينما دوما فنا خالصا بغض النظر عن محتواه.

منذ البداية نشعر أننا أمام فيلم مختلف عن ما اعتدنا عليه في الأفلام “الإسلامية” التي تناولت سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) والتأريخ لبعثته..يبدأ “مجيدي” فيلمه برسالة مكتوبة يوضح فيها أنه استوحى فيلمه من التاريخ الحقيقي ومن “فهمه الشخصي” لشخص النبي محمد (صلى الله عليه وسلم).

بالتالي يعطينا “مجيدي” رسالة أنه تعامل بحرية مع سرده للفيلم.. فلم يتمسك بالأحداث التاريخية كما وردت في كتب التراث.. بل أضاف لها رؤيته الشخصية.. يظهر هذا بوضوح في سيناريو الفيلم الذي شارك مجيد في كتابته.. حيث تظهر فيه العديد من الأحداث غير المذكورة في المصادر التاريخية المختلفة للسيرة النبوية.. لكنها متفقة مع السياق العام للسيرة.

على ذكر السيناريو.. استغل مجيدي “حسن تصرفه” في السيناريو ليصنع سيناريو مميزا ومختلفا عن السياق المعتاد للأفلام الدينية.. وإذا أردنا أن نرصد نقاط القوة التي اكتسبها الفيلم من السيناريو سنجد ثلاث نقاط أساسية:

الأولى: الفترة الزمنية للأحداث.. حيث عرض الفيلم للفترة منذ إرهاصات ميلاد الرسول (صلى الله عليه وسلم) في عام الفيل وحتى وصوله لسن المراهقة ورحلته لبلاد الشام.. وهي الفترة التي لم يسبق عرضها بالتفصيل على الشاشة من قبل.. إذ اهتمت معظم الأعمال التي تعرضت لحياة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بفترة الرسالة.

الثانية: ازدادت قوة السيناريو بسبب “الإضافات” التي وضعها المؤلفون.. فأضفت الأحداث والشخصيات المضافة تماسكا على السيناريو فساعدت على تقوية الروابط بين الأحداث والشخصيات.. وأضافت مبررات درامية للعلاقات والمشاعر.. كما يبدو مثلا في الضوء الذي صلته على علاقة الكراهية بين أبي لهب وزوجته من جانب.. والنبي (صلى الله عليه وسلم) وأمه من جانب.

الثالثة: الاهتمام بالجانب الإنساني للشخصيات.. لم يتعامل الفيلم مع شخصياته بصفتها شخصيات “تاريخية”.. بل تعامل معها كشخصيات “إنسانية”.. ورغم الحفاظ على جانب”القداسة”.. إلا أن الشخصيات ظهرت كبشر من لحم ودم.. يحبون ويكرهون.. يمرضون ويخافون.. وهذا متوقع مع “مجيد مجيدي” صاحب التجربة السينمائية الإنسانية دوما. ربما كان هذا الاهتمام بطبيعة الإنسان هو أهم نقاط القوة في السيناريو.. إذ أعطى الفيلم إنطباعا حديثا أقرب للسينما المعاصرة.. وأبعده– نسبيا– عن مجال السينما الدعائية.

39161493 465893213887105 5592087302458310656 n

هذا على مستوى المحتوى “السردي” للفيلم.. أما بالنسبة للمحتوى “المرئي” فلدينا أيضا العديد من نقاط القوة..قصدي هنا بالمحتوى المرئي ليس محتوى “الصورة” فقط.. لكن قصدي هو كل مكونات الشريط السينمائي من صورة وصوت وتوليف وإدارة إنتاج واداء تمثيلي وغيرها.

حين نتحدث عن مكونات الفيلم فيجب أن نذكر مبدئيا أننا أمام أضخم ميزانية في تاريخ السينما الإيرانية (تقدر بما بين 30 لـ50 مليون دولار).. فيبدو أن الدولة الإيرانية لم تبخل على الفيلم ليخرج في أحسن صورة ممكنة.. أمر منطقي بسبب محتوى الفيلم وأهميته العقائدية والسياسية.. وإن كان يترك في القلب غصة حين نتذكر أننا نتكلم عن دولة يضطر مخرجوها للعمل بميزانيات ضيقة.. وتحت التهديد بالمنع والحبس…

استغل مجيدي هذه الميزانية لتجميع أحسن الكفاءات الفنية الممكنة للعمل في الفيلم.. فتم الاستعانة بمدير تصوير إيطالي حاصل على الأوسكار ثلاث مرات من قبل.. كذلك المونتير إيطالي.. مدير إنتاج كرواتي وخبير مؤثرات أمريكي.. وشارك في الإنتاج خبراء من ألمانيا وسلوفينيا أصلا.. حتى الموسيقى التصويرية وضعها الهندي الحاصل على الأوسكار أ.ر. رحمان.

على مستوى الإنتاج قام صناع الفيلم بإعادة بناء مدينة مكة في عهد ما قبل الإسلام وذلك في موقع التصوير الرئيسي في قرية صغيرة بمقاطعة “قم”.. وتم تصوير الفيلم بين إيران وجنوب أفريقيا.. ويلاحظ المشاهد استخدام تجمعات كبيرة من الكومبارس في مشاهد الفيلم، بل وتمت الاستعانة بعدد من الأفيال.

لكن ربما كان البطل الحقيقي للفيلم هو التصوير..استطاع الإيطالي المخضرم “فيتوريو ستورارو” أن يصنع حالة فنية متميزة لصورة الفيلم.. عبر استخدام دافئ وحيوي للإضاءة.. خصوصا في المشاهد الداخلية التي اعتمد فيها على إظهار إضاءة الشمس الداخلة عبر النوافذ.. إضاءة ناعمة ذات انطباع شرقي.. أقرب لإضاءة لوحات عصر النهضة التي تعرض بلاد الشرق.. لكن تصوير الفيلم ككل واختيار الإضاءة جاء مناسبا للبعد الروحي في موضوعه. نجاح “ستورارو” في التعامل مع الفيلم ليس مفاجأة.. فنحن أمام مدير تصوير ذي خبرة تمتد لحوالي خمسين عاما.. ويحمل في جعبته ثلاثة تماثيل أوسكار.. يكفيه منها التحفة “سفر الرؤيا الآن”. 1979.

المونتاج لإيطالي مخضرم آخر هو”روبيرتو بيربيناني”.. الذي قام بمونتاج أكثر من مائة فيلم منها “التانجو الأخير في باريس”. 1972. رغم احترافيته المشهود لها إلا أن الفيلم تعرض لانتقادات لطوله المفرط وبطء إيقاعه..لكن ربما يرتبط هذا بخصوصية موضوع الفيلم و”الفئة المستهدفة” منه…

فهناك فرق بين تلقي المشاهد “المسلم” الذي سيتأثر بالفيلم على أساس “عقائدي”..وبين تلقي المشاهد محب السينما الذي سيتأثر بالفيلم على أساس “فني”.. عقائديا لن يجد المشاهد مشكلة في عرض مشاهد طويلة لتفاصيل وحوارات ذات صبغة دينية تاريخية.. لكن فنيا.. بالتأكيد سينتقد إيقاع العمل.

الغريب أن على الرغم من كل هذه الميزانية والاعتماد على خبراء أجانب.. أتت المؤثرات الخاصة دون المستوى في بعض مشاهد الفيلم، مثلا في مشهد ظهور “الطير الأبابيل”…

كان أداء الممثلين وقدرة المخرجين على إدارته دوما من أهم نقاط القوة في السينما الإيرانية.. وفي هذا الفيلم أجاد العديد من الممثلين في أداء أدوارهم.. وأجادوا خصوصا في التعامل مع “الجانب الإنساني” في هذه الشخصيات.. لدينا مهدي بكدال في دور “أبي طالب” الذي أخذ دوره أكبر مساحة ظهور على الشاشة.. وعلي رضا شجاع نوري في دور “عبد المطلب” الذي كان اختيارا موفقا رغم قلة أدواره السابقة.. وكان للأداء النسائي وجود متميز.. مينا ساداتي في دور “أمينة”، وسارة بايات في دور “حليمة”، ورنا أزاديفار في دور أم جميل.. وكلهن لهن أدوار أخرى مميزة.. خاصة مع المخرج “أصغر فرهادي”.

في التقييم العام للفيلم نجد أن فيه العديد من نقاط القوة الفنية التي تستحق المشاهدة.. لكن وقع الفيلم في فخ العقيدة.. سواء من صانعيه أو رافضيه.. من البداية صرح مخرجه أنه أراد أن يصنع فيلما يرد على الإساءات الموجهة للرسول (صلى الله عليه وسلم).. لكن غابت عن المخرج الرؤية العامة لتحديد الفئة المستهدفة من الفيلم.. فهل كان يستهدف بفيلمه المسلمين؟.. بالتأكيد لن نحتاج أن ندافع عن الرسول أمام المسلمين.. بالتالي فهو فيلم موجه للعالم الغربي في الأساس.. لكن في النهاية لم يحصل منهم على التقدير المطلوب.. فعلى مستوى الآراء النقدية نجد الأفلام ذات الصبغة الدينية نادرا ما تحصل على تقدير نقدي حقيقي في الغرب.. أما على مستوى العرض الجماهيري.. فلم يتم عرض الفيلم بشكل واسع خارج العالم الإسلامي.. بالتأكيد كان من الصعب على الموزع والمشاهد الغربي التعاطف مع فيلم إيراني يتحدث عن الإسلام!!

يبقى في النهاية “محمد رسول الله” فيلم يستحق مشاهدة محايدة وهادئة لتقييم تجربته الفنية.. لكن من قال إن “الحياد” و”الهدوء” موجودان في هذا العالم؟

مقالات من نفس القسم