حوار مع الشاعر اللبناني يوسف الخال

يوسف الخال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

عندما إلتقيناه في ذلك الكهف القريب من ذلك النهر الفضي، كان الشاعر يوسف الخال(19161987) وحيداً. رجل ممتلئ الوجه، وعلى عينيه نظارة عريضة.فيما كانت لحيته أشبه بحقل من القش الأبيض.

ابتسامته العريضة، لا تدل على أنه مأزوم ويعاني في عزلته من شيء.لذا استقبلنا مصافحاً.وقبل أن يدعونا إلى الجلوس، أزاح الستائر عن النوافذ، ثم أخرج من جيب سترته كتاباً صغير الحجم، سرعان ما أطلعنا على عنوانه:

((كهف يوسف: سيرة الشاعر النائم))

وما أن أكملنا قراءة عنوان الكتاب، حتى وضعه الشاعر يوسف الخال على الطاولة، ثم أردف قائلاً:

لا أعترض على ما يكتبون، ولكن أن ينقلونني غريقاً من البئر المهجورة إلى كهف النوم، فتلك معضلة لا تتمتع بشيء من الأخلاق النقدية.

ساد المكان صمت مطبق.ولم نعرف كيف يمكن أن نشارك بالحوار، ونحن لا نعرف مضمون ذلك الكتاب ولا سبب استياء الشاعر منه !

لم يستمر الوضع الساكن طويلاً، إذ سرعان ما دخل علينا مخلوقٌ غريب الشكل،  يضع على رأسه قناعاً، وهو يحملُ صينية من البلاتين الأبيض،  وضعت عليها كؤوس من الكريستال المورد.

وما أن تقدم خطوة نحونا، حتى تصاعدت الكؤوس بالطيران، لتستقر بين أصابعنا، وسط ذهول مَشُوب بالخوف.

لاحظ يوسف الخال ارتباكنا، فضحك مخففاً من ذلك الاضطراب.فتناولنا الشراب، دون أن نعلق بجملة واحدة.إلا أنه، ولكي يمحو التشويش الذي تشكل بأذهاننا،  قال موضحاً :هذه خادمة الكهف.

■ كأن الشاعر يوسف الخال في عزلة جديدة على متن هذا الفضاء. هنا؟!

–  لست أنا من اختار ذلك.عزلتي بالضد مني هنا.

 ■ ألا تشكو أحداً، لينقذك مما أنت عليه في هذا التيه؟

 -ليس من مُخلّص في مثل هذه الأمكنة كما يبدو.

■حتى سيدك الذي أغرقتَ نفسك فيه شعراً وكياناً إلى درجة الذوبان؟!!

– السيد المسيح تقصد؟!

■ نعم.ألمْ يرفع عنك أسوار هذه العزلة، ليخرجك إلى النور؟

– سيدي يسوعُ جزءٌ من النور.وحيث يكون قلبي، يكون هو.لكن خلاصاً حقيقياً، لم يتحقق.كأن ما كان معمولاً به على الأرض، مشغول به هنا أيضاً  !

■ هل سيدك من غواة الشعر؟

 – سيدي شاعر الآلام قديماً، مثلما هو الآن.

■ هل تعلمتَ الشعرَ منه؟

– أعترف بذلك.فيسوع كان نبعي الذي يفيض في روحي،  لأتأمل ولأكتب ولأبكي ولأحلم.

■ ولكنك لم تنفجر إلى درجة الطوفان.كأن اللاهوتية قدرٌ،  وضعتك في قفصها، فأنهكتْ شاعريتك، ليبقى يوسف الطقس اللاهوتي،  لا يوسف الشاعر الطائر بطاقة المخيلة.

ألا يحتاج الشعر إلى المزيد من الماء ليستمر،  فيحيا بالضد من التصحر والجفاف وسطوة الديانات؟

 – قد يكون في كلامك شيء من الصحة.ولكن اللاهوتي الذي كنت فيه، طغى على المخلوق الشعري الذي أمثله.

لذا فالتخلي عن الأول لصالح الآخر،  ربما يكون برأيي خطيئة. ذلك أن تجاوز اللاهوتي كما أعتقد أنا، لا يوفر للنفس استقراراً منشوداً.

لقد خضعت لتأثيرات مختلف الكتب، وكانت استجابتي لتلك الأفكار أهم من رضوخي إلى الشحن الشعري عبر نوافذ المخيلة.

هكذا انكفأت.فأنا شاعر رؤيوي.أنظر إلى الطوفان من بعيد، ولا أجرّهُ إلى اللغة، لئلا تغرق النفس في الكلمات.

■ لماذا لم تفعل ذلك؟

-لأن ما من منقذ من هلاك النفس،  حتى إذا كان الكائن في أوج التصاقه بالكلمات التي نكتب والنصوص التي نؤلف.

■ هل يسكنك الخوفُ من التطرف النقدي فيما يخصّ مفهوم الشعر مثلاً؟

– أنا درست وانغمست في تجارب الغرب الشعرية، واستجلبت الحداثة للعالم العربي.

بمعنى أكثر عمقاً، فأنا «أسهمت إلى حد كبير في تحرير الشعر من أسر التاريخ وقانون الجماعة،  ومن نمطية النظرة الدينية الفقهية،  أي من سلطة المعجم والماضي،  مقدّساً كان أو تاريخيّاً. كما أسهمت إسهاماً واضحاً في دفعه إلى اتجاه التفكير الفلسفي والحدسّ وتحريض اللاوعي وتراسل الملكات.»

■ ولكن ذلك لم يبرز في شعرك الذي ظل تقليدياً، وبأدوات كلاسيكية، فيما رفاقك في مجلة شعر، كانوا يستلهمون من نصوص الغرب غبار الحداثة، لتطل بها قصائدُهم !!

-أجل. كانوا أكثر شجاعة مني.هم نهبوا نهباً، فيما كنت أنا أعالج آثار تلك النصوص في قصائدي كممرض يطبب جروحاً.

ربما لأن أدونيس علمهم كل تلك الحيل أو التجاوزات ((المشرعنة)) بحكم جهل القارئ!!

■ هل تتهمهم بالتحايل وبالقنص وبالتناص؟

– لا وجود لشاعر برئ من شعراء مجلة شعر.ولا أظن أن كلمة برئ هنا، تتضمن عاراً.القصد من هذا، أن الجميع أنعشوا أرواحهم الشعرية بالتحايل واللطش من وراء زجاج تلك النصوص المترجمة.

■  ولم تسجل اعتراضاً على ((ثورة التحايل)) أو السطو غير المباشر على نصوص شعراء الغرب وكتّابه؟

– لا.لم استطع ذلك، بسبب النشوة التي كانت تفرضُ طقوسها على حياتنا الأدبية في تلك الفترة الجميلة من زمن كسر الجمود العقائدي الفني الروحاني الذي كنا مستسلمين إليه في بيروت.

■ إلى أي درجة كنت مولعاً باستدراج أهم الأسس التي يجب أن يراهن الشعرُ عليها  إلى الشعر في كالتعبير عن الحياة،  واستمداد التعابير منها،  تطوير الإيقاع،  وحدة التجربة،  محورية الإنسان،  وعي التراث العربي،  فهم التراث الأوروبي،  الإفادة من الشعر العالمي،  والامتزاج بروح الشعب.وقد جاءت كل تلك الأفكار بمثابة وصايا، سبق لك وأن نقلتها عن الشاعر الأمريكي عزرا باوند مثلا؟!!

–  لا.ليس هكذا كان عملي،

ما كتبته  «إلى عزرا باوند»

«أثمنا إلى الشعر،  فاغفر لنا/ وردّ إلينا الحياة، كان بمثابة خطيئة.

فأنا كنت أجر الشعر إلى الحرية و الفلسفة والنمط الجديد من الحياة

■ هل معنى ذلك أن الفلسفة في شعرك كانت بئراً مهجورة؟

 – شيء من هذا القبيل، على الرغم من أنني حاولت تطهير الشعر بالرومانسية، لكن قصائدي بقيت ضمن النسق الكلاسيكي، باردة وتتأمل العالم بأعين ناعسة.

■ وهل ندمت على تلك البرودة، وفضلت لو كنت ضمن سياق الكلاسيكيات المتوحشة؟

– يمكنك أن تقول بأنني تفاعلت مع تلك الوحشية، باستخدامات كثر، حاولت من خلالها اختزال قوة الشعر بالمضي قدماً نحو قوة الذات كخزان للكون.دعنا نتذكر هنا :

(( أيها الشعراء ابتعدوا عني

لا ترثوا أحداً غلبه الموت.

فماذا ينفع الرثاء؟

الرثاء للصعاليك ونحن جبابرة

الرثاء للبشر ونحن آلهة.

فابتعدوا عني أيها الشعراء

واحنوا رقابكم

لا تنطقوا في حضرة الموت الجاثم)) 

دعني أقول شيئاً ربما يكون هاماً.إن الوثوق بالموت أسهل من الوثوق بالشعراء.

■  بسبب ماذا؟

– بسبب التأثير الشعري المفروض علينا أولا.وثانياً بسبب أن الشعراء حلقات من الرياح، لا تتشكل إلا كزوابع فردية، منها ما يدمر نفسه بنفسه، ومنها ما يتسلط على الآخر، فيقتله معنوياً.

■ هل ثمة شعر في الآخرة كما ترى هنا؟

-ستكون القيامةُ هي أسُ الشعر، مثلما سيكون الشعر جوهر القيامة.

-■ أليست تلك نرجسية يوسف الخال، التي تنحاز إلى اللاهوت على حساب الشعري ؟

– الشاعر بطل لاهوتي بالأساس.

■ معنى ذلك إنك لست  تموزياً بالانتماء للعلمانيين وللحركيين الثوريين والطليعيين؟

– ليس بالضرورة أن يكون الشاعر التموزي علمانياً أو ثورياً.فكل المنتمين إلى ما يسمى بذلك الاتجاه هم من المرضى أيديولوجيا  أومن المقوضين في صلب سلسلتهم الفقرية صوراً ورموزاً وأساطير. و« أنا شاعر مسيحي لبناني عربي» كما أرغب أن أكون.

■ ولكنك تضطهد الشعر بهذا التخصص الديني البروتستانتي، فتحاصره أشبه ببقرة في مسلخ ضيق !

-لم أكن لأرغب بنزع الحياة عن تلك البقرة، ولكن المسلخ الذي تحدثت عنه،  يجب أن لا يكون بلا عمل.فالحياة تداخل مستمر مع الموت.والشعر على الدوام هو ابن اللحظة الحرجة.

■ ولكن الرؤيوي المسيحي يختلف مع الإسلامي الشرعي.الأول يستخلص الشعر كألم قد يُقدس لأجل التعاملات الدينية، فيما يتعامل معه الثاني على كونه لعنة، أو هو مسّ شيطاني،   يلدُ من الذنوب، ولا يولّد غير الذنوب المركبّة ذاتها، فيستدرج العقاب بشكل دائم !

 – لم أجد أثراً لذلك هنا.وكأن الملائكة لا تسدّ رمقها إلا بالشعر.

■ بالشعر العربي تعني؟

– بالتأكيد.  وليس بالشعر الجاهلي الذي تناوله الناقد والكاتب العظيم طه حسين، فكان محقاً فيما كتب عنه وبحث في أصوله المجتمعية والدينية.

■ وهل ثمة رقابة أو منع احتياطي على الشعر العربي لديكم في هذي السموات؟

 – شيء من هذا القبيل، وكل ذلك بسبب عدم تطهير النصوص من رائحة الغرائز الجنسية الشاذّة.باعتبار أن كل شيء متوفر هنا.

■ ولكن الشعر العربي الإيروتيكي قليل في الدنيا، ولا يشكل دوراً مركزياً في آداب مجتمعات العوالم السفلية خاصة عند العرب؟!!

– لم يعرف الشعراء العرب التمرس على كتابة ذلك الشعر الايروتيكي بسبب الجهل المسيطر على أنظمتهم الجنسية، مما يدفع أغلبيتهم العظمى إلى ممارسة العادة في أثناء كتابة النصوص،  مرتاحين إلى جعل النصّ سريراً يمكن التواصل فيه مع منابع شهواتهم عن طريق التخاطر.

■ هل تحقق الجنس في النص، يجعل منه شعر بورنو على سبيل المثال؟

– في هذا المكان..علينا إن لا نقرأ النصوص بمعايير نقدية، بل بواسطة الجس النبضي لما وراء غلاف الشاعر.

■ لم نفهم القصد من وراء هذه الكلمات !

– ما أقصدهُ، هو أن كل نصّ شعري، يُفحص بأشعة الجنس، لقياس ما يكمنُ في باطنه من شرور البورنو أو الإيروس.

■ ألا توجد عندكم نساء أو عمليات جنسية؟

– لا أبداً.الشاعر هنا، يُبعث على شكل تنين يختزنُ ناراً، ويكتب بها عن ذكرياته الدنيوية ليس إلا.كلنا نتحول إلى تلك المخلوقات النارية في لحظة خاصة من الزمن.

■وكيف تتواصل أنت للتخلص من الفوران العاطفي؟

– أنا ما زلت ثملاً بنشوة ( مها بيرقدار ) وأحتفظُ بنسخة عنها، لأنها المرأة الرءوم علىّ وأنا في مكان عزلتي هنا وهناك على حد سواء.

■ كأنك تحاول أن لا تثلم شيئاً من تاريخك العاطفي القديم؟

-لكل حبّ ألمٌ، يضاهيهُ بالهيام، ولا يعادلهُ بالندم.

■  هل التقيت بدون كيشوت، أو استلمت منه رسالة؟

-قبل قليل كان هنا، وغادر المكان مسرعاً.

■ هل كان مع رمحه الشهير على ظهر حصانه؟

– نعم.كان على ظهر حصانه يسابق الريح، بحثاً عن سانشو.

■  أأصبح يقلدُ جلجامش ببحثه عن نبتة الخلود؟!!

– لا أبداً.لقد التقى الاثنان مع كل من أنكيدو وسانشو، شرب الجميع من قوس قزح، دون أن ينبس أحدهم ببنت شّفة،  لا عن خلود ولا عن ليلى.ثملوا بشراهة، حتى شُوهدت أزرار قمصانهم، وهي تتطاير بالهواء.

■ ويحك يا يوسف! كيف تجرؤ بتحرير لسانك، فتقول قولاً كهذا، وأنت على مقربة من جهنم؟

– نار الله، ليست من أصول نفطية أو غازية، لتؤذي أو تحرق فتهلك.وإنما هي نارٌ بآليات تُطهرُ من غبار الأرض، يوم تكون الأجساد رهينة لأسى الاحتباس الحراري والروحي على حد سواء.

■ هل تتذكر  لبنان اليوم؟

– قبل ساعة، كان عندي  فرويد.تحدثنا عن الأوضاع مطولاً، وفي نهاية المطاف، اقتنع بأن يفتح  لكل مواطن لبناني عيادة في بلاد الأرز، بالنظر لحيوية الجنون اللبناني وأبعاده الأسطورية.

■ وهل سبق لسيغموند فرويد وأن قرأ من الشعر اللبناني شيئاً، حتى يستخلص منه نظرة كتلك؟

– فرويد لم يتحدث عن الجنون الشعري الذي اختفى بين أرجل الساسة والدبابات وعضلات رؤساء أقسام ثقافة الطبول، بل تحدث عن جنون البشر، وكثافة شحنات التدمير والتدمير المضاد. عن الهجرات الجديدة وموجات التكفيريين ممن تزدحم بهم الشوارع والمدن والقرى الحدودية وهم مثقلين بالأسلحة وبالرايات السوداء والأقنعة وسيوف الجاهلية.

■ منْ شعراء الآخرة في التيه؟

-لم أر منهم أحداً، فهم يعانون من مطاردة أبدية ما بين أغلفة الكواكب وأشعة الفردوس.بل وكأنهم استغنوا عن الإقامة في الفردوس تماماً.

■ هل لأن المنازل لا تليقُ بهم مثلاً؟

-لا أعتقد ذلك..ولكنهم لا يفضلون الإقامة باعتبارها تدميراً للشعر.خاصة وإن صراعاً حاداً ما زال فاعلاً ما بين شعراء بني أمية وشعراء الدولة العباسية، فما زل بعضهم يكتب المراثي والهجاء ويرسل القصائد بالبريد الإليكتروني إلى توابعهم ممن يقيمون على الأرض.بل وهناك من شعراء الجاهلية، وقد استولت عليهم فتنة الفيسبوك وتوتير، فازدادوا انهماكاً بالتحريض المذهبي.

■ ولكن شعراء الجاهلية كانوا قبل المذاهب.فكيف يفعلون ذلك؟

– استخدامات الجاهليين للفتن المذهبية، هو عمل استمراري لإعادة إحياء الصحراء في العقل.لأن المذهبية،  وإن جاءت بعد عصرهم، إلا أنها كانت من صنع جاهلي ليس إلا،.بل ويمكن القول أن ما زرعته الجاهلية في الإسلام، أكثر وأهم وأخطر مما زُرع في العصر الإسلامي نفسه.

■ هل تؤيد مقولة المبشرين بمشروع ردم الطائفية والقائل : لا شيعة بعد اليوم، مثلما لا سنة من قبل؟!

– المهم هو تفريغ الأديان من المذاهب.

■ والمسيحية؟

-هي طوائف متنازع عليها.ويمكن لكل شخص إعادة قراءة ما كتبه ترفانتس عن دونكيشوت دي لامانش وطواحين جمهوريات الوهم.

■ أهو اليأس الذي بلغ ذروته بخصوص عدم وجود ما يسمى بالرحمة بين شعوب الأرض على سبيل المثال؟

– الشعر هو الرحمة الوحيدة المطلقة التي يمكن أن تجعل من عضلات الإنسان صالحة لغير أستخدمات الحرب والقتل والتدمير.

■ وليس طلقة الرحمة مثلاً؟

-لا يمكن للشاعر أن يكون مسدساً حتى من أجل توفير تلك الرحمة أو صناعتها لمريض أو قاتل أو متوحش.

■ ولكنه قد يحصل ذلك من خلال التمثيل المسرحي أو الدرامي؟

-ربما.ولكن صراع الدم العربي على المسرح المعاصر، يشكل أعنف الدراماتيكيات الوجودية.شيء مرعب.

■ هل تفيض بشيء ما للأبناء: الممثل يوسف والفنانة ورد.هل تتواصل معهما،  وهما  يقومان بتبادل الأدوار فيما يسمى بفن الكشف عن مواضع البؤس والجريمة والحب والخيانة والفساد من خلال عالم دراما الشاشات؟

– أبني يوسف هو ولدُ خرج من بئر الأب، ليسقط في بئر أخرى. فالغرق في الهوى،  أشد غرقاً من الوقوع في المياه.وعلى الغريق أن يقرأ ما في طبقات الظلام، ولا ينقطع عن التحليل والتأويل والتكوين، حتى ولو  كان رجلاً بارعاً دراماتيكياً.فيما البنت ورد فما تزال نابتة في تربتي، ومن الصعب بمكان أن تغادرني مهما بلغت شجرتها من ارتفاع وضخامة.

■ معنى ذلك إن يوسف الخال الكبير يمارس تراجيدية ما من خلال جيناته الصغيرة على الأرض؟

– بالضبط.وسيرون في مناماتهم القادمة بعض قصائدي في كل منهم.

■ ثمة من يقول بأن لبنان بلدٌ لا تستقر إلا في حالة واحدة أن ترتفع

إلى سابع سماء، على الأقل لتأخذ إجازة من شيوخ إقطاعياتها المدنية منها واللاهوتية ما رأي يوسف الخال؟

-أن يصعد لبنان إلى السماء، فذلك سيربك العالم ويخرب كل من الجنة والنار على حد سواء، ولكن أن يرمي الربُّ لذلك البلد سفينة أخرى، لتحملهم فراداً، وليس من كل زوج اثنين، فقد يكون ذلك الأفضل بكثير.

■  وكيف تنظرُ إلى شعراء جمهورية لبنان معاصرين ونصف معاصرين؟

– أغلبهم موتى حياة، ولا يكاد ينبض فيهم عرق يستولي على المدى العام للشعرية، فيطهر النصوص من هذا الجهد اليومي الغارق بالثرثرة، وما ينجم من قصائد عن ذلك الاحتكاك الشهواني الذي بات مؤشراً لفورة الجنس داخل الشعر النسوي خصوصاً، أو ما يمكن أن يكون القاسم المشترك لقيمة النص وتطوره اللغوي،  بعيداً عن ما كلمات ما تحت الفساتين.

■ ولكنك بهذه الرؤية تظلم أجيالاً كتبوا الشعر من بعدكَ؟

– كل شعر عظيم حبيس قفص من الأقفاص.ومع ذلك، فقد تعجز قبضات الرموز الكبيرة من خنق شعراء الكفاءات.

■  هل التقيت بالشاعر محمد الماغوط؟

-رأيتهُ.ولكنه لم يصح من سكرته بعد.

■ ولكنك أيضاً  صاحب كأس من الطراز الأول.

– الخمر الذي نستقدمه إلى أبداننا، أنما هو بمثابة محرك ليس إلا.

■ محرك!! ويحركُ ماذا؟

-الخمور عادة ما تقلّب تربة الشاعر، وتزيدها بتلك الأسمدة الفاعلة التي تستنهض النصوص من الأعماق، لترفعها إلى التحليق ما فوق فوهة البركان.

■  كيف تنظرُ إلى أصدقاء الأمس : نذير العظمة،  خليل حاوي،  أدونيس،  شوقي أبي شقرا،  محمد الماغوط،  فؤاد رفقة،  أنسي الحاج،  خالدة سعيد،  عصام محفوظ؟

– نذير فلاحٌ يعمل على حرث الورق.خليل يزرع الحديد في الورق.أدونيس حمالُ ورق.وشوقي حارس ثعالب الورق.الماغوط أنينُ الورق.فؤاد مترجم الورق.أنسي كنيسة الورق.خالدة سيدة الورق.فيما عصام فهو مسرح لكل أحداث الورق.

■  وليس لشعرك من أتباع يا يوسف؟

– وكذلك فلم يبق لي جدثٌ في جل كنيسة ( غزير).لقد ضاعت عظامي، ولم يحمني يسوعُ ولا دولةُ الطوائف واللاهوت الذي كنت أؤمن به.أحس ظهري ثانيةً ينكسر.

■ ربما لأنك ترجمت أرض إليوت الخراب. فجاءك الدور لتعيش الكارثة.فهل بات يوسف الخال شاعراً في أرض خراب جديد الآن، خاصة بعد اختفاء قبرك وضياع جثتك في  المقبرة التي دفنت بتربتها؟

-قد يحمل الحديث عن الأرض الخراب الآن، خراباً سيكولوجياً مضطرداً في أعماقي.أنا الآن شاعرٌ مُنقحٌ للخراب القديم ليس إلا.وفي هذي البلاد التي انزل في منازلها،  يصبح التنقيح في أوراق التواريخ الدنيوية، خيانة للربّ، لأن فاعل ذلك الشيء، إنما يحاول امتهان الخديعة، للتستر على آثام قد تكون ارتكبت في الماضي، بهدف محوها، أو التخلص من آثارها.وهذا ما لا أفعله أنا.

■ بعد أن نفذت عهدة عزرا باوند الخاصة بشؤون الحداثة، هل تحس بأنك تملك الإصرار في مرة ثانية لإصدار مجلة (شعر)  فيما لو عدت للحياة مرة أخرى؟

-لا أظن بأن القارئ يحتاج الآن لمجلة( شعر) أو ما يشبهها.فأجيال الكتابة والتأليف والقراءة، تعيش منعطفات كبيرة، ولا تحتاج إلى هذا المربي أو ذاك.نحن مررنا بزمن جاف وفارغ، كانت الحداثة فيه جرماً أو نوعاً من السباحة في أكواريوم  من حامض التيزاب.

■ وأين يسبح يوسف الخال الآن؟

– أحياناً أذهب أنا والفرزدق وبودلير وهارولد بلوم إلى بحيرة الغروب، والسباحة هناك.

■ دون نساء؟!

– النساءُ هنّ المياهُ هناك، ونحن نحاول التمرّن بين شقوقهنّ بعيداً عن موجات السلف.

■  والغرقى؟!!

-يعودون على الدوام إلى محافل الرماد، من أجل إعادة تكوينهم من جديد.فالحداثةُ التي لدينا هنا، غير قابلة للتنقيح.وهي في العموم لا تنتمي إلى مصطلح المدّ والجزر.

■ هل الكتابة هي المدّ.هل القراءة هي الجزر كما تعتقد؟

-لا ينقذ القارئ نفسه كمؤلف للنصّ الذي يقرأه،  إلا حينما يلتمس أحشاء اللغة في مياه ذلك الطوفان العظيم من حالات التأليف الاستثنائي.آنذاك، تظهر نقطة التلاقي ما بين الاثنين :القارئ والكاتب.

مقالات من نفس القسم