حوار مع الشاعر العربي محمد الثبيتي

محمد الثبيتي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

ما أن وصلنا إلى مقر موعدنا المتفق عليه في غاليري تماثيل الشمع في حي الياقوت، حتى وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع الشاعر العربي محمد الثبيتي(1952 – 15 يناير 2011). كان الشاعر ينتظرنا.  وكانت الشمس في ذلك النهار مشرقةً. فيما رأينا مياهً  تتدفق في ذلك المكان من نوافير ضخمة تفيض باتجاه محطة طيور (البرناوا) الشبيهة بطيور البطريق الموجودة على الأرض، بفارق ضخامة الأولى واختلاف ألوانها عن طيور البطريق.  

لا ندري ما الذي كان يفعل الثبيتي بين تلك التماثيل.  ولا ندرك كذلك المغزى أو السرّ وراء اختيار الشاعر لهذا المكان من أجل حوارنا معه. إلا أنه سرعان أزاح عن أذهاننا غشاوة تلك الأسئلة المحيرة، عندما قال: هنا يمكن للمرء إعادة بناء شكله بالطريقة التي يريد. فقد يرغب الإنسان أن يكون ذئباً أو أرنباً أو طيراً، فله الحرية بذلك.

 ■ وعلى أية شاكلة يرغبُ محمد الثبيتي أن يكون في متحف الشمع؟

_ ما زال الوقت مبكراً على خوض تلك المهمة. سأفكر مليّاً لأكون الثبيتي في جسد آخر.

■ يا لها من فكرة عظيمة.

_ أجل. هنا الحرية مسرح متحرك للمخلوقات، ولا اختزال لأية رغبة تقفزُ في رأس الإنسان.  

 ■ ماذا يحدث للقصيدة، فيما لو أصبحت أفعى على سبيل المثال؟

_ ستحملُ على ظهرها الرمالَ، حتى يثقلُ سقفُها وتنفجر.

■ وهل أثقلت صحارى الربع الخالي جسد الشاعر محمد الثبيتي أم قصائده؟

_ حاولت الصحراءُ أن تزحف وتتمدد في كياني بشكل عام، ولكنني نجحت بإيقافها في لحظة من الزمن المرّ الأسود.  

■ كيف حدث ذلك؟

_ عندما قمت باقتحام أخطر المناطق في الوجود المُحَرّم، وانتصرت على أن أكون ثعباناً ساماً من ثعابين تلك الرمال المدلهمة.

■ الوجود المُحَرّم! ما مقصدك؟

_ أقصد أنني دخلتُ الحداثة المحرّمة سعودياً، لأعيش تفاصيل الرعب كاملةً. فالحداثة عند رجال الدين من المحرمات المرتبطة بالكفر وبالتفكير.

■ لماذا يقيمون على الحداثة الحدّ؟ هل الجزيرة مملكة للأسلاف وحدهم.

_ ربما. فما زال الاعتقاد متوارثاً عند شيوخ الجزيرة ورموزها المذهبية، بأن الانتماء إلى أي نوع من الحداثة، هو التضحية بالكهف الأصولي وكائناته. ولذلك قرروا مواجهة المقتحمين لذلك التابو بالتجريم والتكفير والقتل أحياناً.

■ هل من وراء تلك الاجتهادات بالتحليل والتأويل الخاطئ لقصيدة (تغريبة القوافل والمطر) تم اتهامك بالشرك بالله؟

_ الشاعر في مملكة المطاوعة، ليس غير حشرة العُثَّة، تبيدُ صحائف الدين من العقول وتمسحُ الإيمان من الأفئدة، وتفح الطريق إلى هلاك الإسلام  التدريجي. تلك هي رؤيتهم التي أسست لثقافة الإيمان الأعمى.

■ ما المسافة التي ما بين الشعر وما بين الله؟

_ الشعر مجرة من المجرات السابحات في الكون وفي كل نفس بشرية. أما عن المسافة التي بينه وبين الله، فتلك مسألة فيزيائية، ولا قدرة عندي لقياسها. إلا أن الأمر المؤكد، فهو وجود خيط  حبي من الشعاع بين الطرفين.

■ لماذا يجتهد السلفيون بتضخيم المخاوف من الشعر الحديث؟

_ لأنه يجردهم من أعظم ما يملكونه من أدوات لغوية. فالشعرُ يفرغ المنبريين من صناعتهم القائمة على التضليل وتهويل الأساطير والخرافات باسم الدين.  والشعر الحديث بالتالي، يؤرخ لمرحلة جديدة،  ليس لها تاريخ أو أرشيف عند الأمة. وهذا لا يعجبهم، لأنهم يستمرون بوضع الإنسان العربي تحت طائلة التراث بأطنانه من الرمل والظلام والسيوف والمصائب والآلام.

■ ألست قاسياً بمثل هكذا عبارات؟

_ بالعكس. فنحن لا نكفر أحداً من هؤلاء الشيوخ، فيما لو رفض الحداثة ولعنها ولم يؤمن بها.  بينما يفعلون هم العكس، عندما يجيزون وضع رقابنا تحت سيوفهم بمجرد التلويح بالخروج عن مرجعيات السلف. .

■ وكنت قلقاً على الدوام؟

_ لست وحدي من كان قلقاً، بل حتى الكلمات التي كانت في الكثير من الأحايين ترفض الانتقال من رأسي إلى الورق، وكأنها حصلت على تحذير ما، ينذرها بعدم النزول إلى الورق والانتشار في الكتب أو الانتقال السمعي إلى الناس.

■ هل يغرق الشعرُ في المملكة تحت تلك المياه السوداء الآسنة من الخوف والتكفير والجلد؟

_ الشعراء في الجزيرة شجعان إلى حد ما. فهم يكتبون ويستمرون بمقاومة موجات الخنق على الرغم من أن كتابة كل قصيدة تعني أن يقطع هذا الشاعر أو ذاك تذكرة سفر ذهاباً دون إياب.

■ ما صورة الحداثة في مستقبل الحياة السعودية؟

_ مثل أحلام سيزيف بإيصال الصخرة إلى نهاية الجبل، والجلوس هناك تمتعاً بقدح من النبيذ !

■ هل سبق لك وأن غمرت روحك وقصائدك بالخمر؟

_بالتأكيد.  فليس إلا الخمر شقيقاً للشعر في ليالي المملكة الحالكة.

■ أتعتقد أن الخمر يفجر ألغامه في النفس أم في المخيّلة؟

_ كثير ما يصبح النفس والخمر واحداً في كاس القصيدة. أنا تعلمتُ أن الثمالة الشعرية، هي الجزء الأعظم من بناء المشروع الشعري.

■ ربما لقتل المشروع الانفتاحي أراد ((الأخوان المسلمين))  -كما يقول أحدهم-  (( عن سبق إصرار وترصد الانفراد بالمشهد العام في السعودية؛ لتمرير مشاريعها،  وإبقاء الناس سجناء لفكرها،  وإقصاء أي مظهر مدني يمكن له أن يكشف عريها مستقبلاً،  أو أن يكون قادراً على منافستها جماهيرياً.

وهي في سعيها الخبيث لذلك المشروع،  لم تكتف بمعاداة الحداثة الأدبية،  بل استهدفت بعدها كبار العلماء،  وسمَّتهم بعلماء السلطان؛ لهدم رمزيتهم وهيبتهم لدى المجتمع،  إلى أن وصلت إلى اتهام كل من هو مخالف لها من الجسم الديني في السعودية «بالجامي».

وبالعودة إلى محمد الثبيتي الشاعر الفذ،  الذي أصدرت في حقه «فرقة الاغتيال» الحركية حكم الإعدام الاجتماعي،  وحرَّضوا لمنع ديوانه (التضاريس) من التداول،  وأنزلوه من على منابر الشعر،  اليوم المحرضون أنفسهم هم من يدافع عن قيم الديموقراطية ويطالبون بها في أصقاع العالم العربي،  ولنتأمل سوياً كيف أنهم لم يتحملوا قصيدة شعر واحدة،  فكيف سيتحملون تدافع الناس فكرياً،  واختلافهم فقهياً وثقافياً وسياسياً،  لو حكموا -لا قدَّر الله- )).

_ تلك صورة مصغرة عن الأخوان التي تتقاطع مصالحها مع الوهابية التي تملك فرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. المطاوعة الأشدّ ضراوة وتعسفاً ووحشية من سوها من الفرق العاملة ضد مشاريع التحديث والحداثة. أنهم لا يريدون أن يخرج إنسان الجزيرة عن الكهف السعودي، لئلا يستعد روحه وفضاءاته المحروم منها منذ تأسيس المملكة العائلية.  

■ هل تظن أن خوف المطاوعة والحركات الإسلامية من الشعر، كمصدر إلهام يوازي مصادر مرجعياتهم الدينية تلك التي لم تعد تضخ في جسد الأمة غير الديناميت والتكاثر الجهادي من رحم الخرافة إلى ميادين تفجير الأجسام؟

_ الشعرُ ديانة. الشعرُ نوع من الدين. الشعرُ دنيا وآخرة. هكذا يمكنني أن أقول بكل بساطة.

■ ربما تقولها اليوم فقط، لأنك انتقلت من الموت إلى البعث الجديد، وتعيش بين طبقات السموات؟

_ وذلك يثبت أن حريتنا كانت ميتةً في مملكة الرمال.

■ كانت لكم صحف ومجلات وفضائيات لا تعد ولا تُحصى. فكيف تفسر ذلك الاختناق الذي تدعيه؟!!

_تلك صحف وتلفزيونات ليست لنا بالمطلق.

■ كيف! أليست سعودية؟

_ أقصد أنها بيوت دعارة صحفية وإعلامية يقوم على تشغيلها مرتزقةٌ من لبنان والعراق بالدرجة الأولى. هؤلاء ما زالوا يقومون بتصوير الكهف السعودي فردوساً، لا كامرأة شمطاء انقطع حيضها، وباتت على شفا القبر برحم تأكله الديدان.

وهل على هذا منحت جائزة البابطين وجوائز أخرى؟!1

_ كانوا كلهم مضطرون لطرد الشبهات عنهم بمعارضة الحداثة وخنقها. وليس أبعد من دور عبد العزيز البابطين عن الإبداع. فهو قائد شرطة الأسلاف في مكافحة الحداثة، وإن بوجه خفي غير ظاهر للعيان. أنه شخص عمودي بماله وعقله وكتاباته.   

■ هل تعتقد بان الجنّ يسكن في الشعر،  كما يظن بعض السلفيين ومرجعيات الخرافة في العالم العربي؟

_ طبعاً. توجد جيوشٌ من الجان ومن الجن في القصائد، وكلها تحاول القبض على روح الشاعر، فيما لو تنازل عن عرشه كمدرب نمور وشياطين.

■ هل تشكل الشاعر محمد الثبيتي من جينات شاعر آخر؟

_ بالطبع نعم. فأنا شاعر مختلط. وسرعان ما وجدتُ نفسي نفراً نافراً محفوفاً بالمخاطر بين شعراء جيله.

■ثمة قول لأوسكار وايلد يقول  :(( أن كلّ أشكال التأثر لا أخلاقية )) ما رأيك؟

_ لست مع فكرة من ذلك القيل. وإلا انقطع نسل الكتّاب في الكتب، وأصبحت الفارغ سيد الموقف. عندما نتحدث عن التأثير والتأثر، فذلك لا يعني التناص وتدوير النصوص على يد الآخر من الجديد. ولكن حتى السرقة في بعض الأحايين، لا تعتبر خرقاً للأخلاق أو لحقوق المؤلف.  

■ كيف يمكن التصريح والتشريع لذلك؟!!

_ ثمة خفافيش أدبية كثر، تجد نفسها خاوية وفارغة الطاقة، ولا تستطيع الاستمرار على الكتابة الإبداعية في لحظة من الزمن، مما تدفعها حاجاتها السيكولوجية  إلى امتصاص الدم من نصوص الآخرين.

■ وإذاً فيما لو جدت أحدهم سارقاً لقصيدة من شعرك، ستغفر له فعلته؟!

_ ربما أشير عليه بضرورة ذكر المصدر من باب التناص وأسكت.

■ ألا تعتبر الجنون لعبة شعرية؟

_ بالتأكيد نعم. فتجنين الشاعر لنصوصه، يضع سيغموند فرويد خارج السياق، لأن في الشعر أغلب مستشفيات الأمراض العصبية التي عادة ما تقوم الشاعر إلى مراتب الجنون.

■ هل أحسست يوماً ما، أنك صريع الجنون الشعري؟

_ لا. ولكن صريع الغواني نعم.

■ وأين يجدُ الشاعر السعودي الغواني، وكل نساء المملكة متواريات خلف النُقُب من أخمص القدم، وحتى الرأس المحجوب بإتقان؟

_ لا تنهك نفسك بالبحث عن تلك الطرق أو تلك الأساليب. نحن نصل أهدافنا عن طريقة الصيد الشعري، فتلتحق بنا الغواني لتبادل الحرائق.

■ متى ظهر عليك الحبّ في أول مرة؟

_ منذ أن كنت في وادي «الشروط» التابع لمركز لغب في محافظة بني سعد. وكان حباً مشوباً بالنار، سرعان ما أنضجه الشعرُ وأعدمه البعد الجغرافي برحيلي عن قريتي للدراسة في مدينة مكة

■ ألمْ تجد وقتذاك تعديلاً في جينات الحب، عندما انتقلتَ من البداوة إلى المدنية المفتوحة؟

_ أنا مؤيدٌ لكلامك هذا. فعادة ما تزخر المدن الدينية في العالم العربي بالعشاق السرييّن، ممن يدفعهم كبتهم إلى البحث عن مخارج، ربما لا توفرها القرى والمدن الصغيرة. أنا كنت شبه بدويّ أصلاً. ولم أبقي نفسي من تلال الصحراء.   

■ هل تشاطرنا الرأي، بأن الحبّ متحف للأثرياء فقط؟

_ هذا رأي دقيق جداً. فعادة ما يقوم الأثرياء بشراء الحسان من النساء، وتحنيطهن في غرفة النوم ليس غير. تلك نهاية مروعة للجمال، كأن ينتهي في كمومياء على سرير. بينما الحبّ عندنا نحن الفقراء، تيمٌ واحتراقٌ وشغفٌ وإيمانٌ بقواعد مزج الروح بالجسد بالكتابة بالعطر بالعمل والتحرر من المرجعيات التي جعلت الحبّ تحت طائلة السيوف.   

■ كيف يمكن برأيك جعل الكتابة من ظلال حداثة الحبّ في المملكة؟

_ هذا السؤال، ربما هو من اختصاص السيد عبد الله الغذامي وحده. فأهل ((الحداثة)) أدرى بمن يقدر على نهبّ أدواتها لحسابه الشخصي، وتسطير سطورها بعد التجسير والتجيير والترجمة وتغييب الرموز الذين كتبوا في الحداثة.  

■ هل كنت بصراع مع الغذامي؟

_لم يكن ما بين الشاعر والناقد إلا العصي، لا ريش الطواويس. فالناقد الغذامي (تسلبط )على الحداثة، بعد التسلل إليها من باب الخدم، ليعلن نفسه ظاهرة تشقُ الثقافة بصولجانه المستعار.

■ ما هي الطريقة الفضلى لتوصيف الشعر في المملكة؟

_ فنٌ بتَفصيل الشعر، والخياطة على المقاسات المطلوبة وفقاً لرجاحة الدماغ، والتزام الطريق البعيد عن الشطط. فلم تخلق المملكة للشعر، بل خلقت مستوطنات للمذهب الوحيد بإنتاج الحرائق والفتاوى وقِير العقول الذي يُسفلتُ المدارس والجوامع والشوارع والوظائف.

■ ألا يُعد هذا تغييباً لجمهرة واسعة من الشعراء الجدد، مم لا ينتمون إلى شعرك وشعراء جيلك؟

_ أنا لم أنكر أحداً، بل قدمتُ فكرةً لرثاء الشعر السعودي المُدرّج ضمن القائمة الخفية من الممنوعات والمحرمات. انه الشيطان الذي على وشك الزّج به في السجن، وجلدهُ حتى الموت.

■ كيف استطعت الحفاظ على وجودك، ككيان شعري ضمن أنظمة التفعيلة، ولم تجذبك قصيدة النثر بعوالمها المفتوحة المترامية التي لا تؤمن بالأقفال ولا بالصناديق أو الأعمدة الإيقاعية التي لم تنتصر إلا إلى القصائد الكلاسيكية الضيقة؟

_ مثلما أنا لم أدق مسماراً في نعش الشعر العمودي، كذلك رفضت دق مسمار ما في نعش الشعر الحر، لأنه تيار شعري ما زال فاعلاً، ويقاوم النوم في الأرشيف. إما بالنسبة لقصيدة النثر، فإنها لم تخلخل عقلي يوم كنت حيّاً في تلك البلاد.  

■ بسبب سيطرة الإيقاع على حواسك مثلاً؟

_ ربما. ولكنني في الغالب الخاص، كنتُ مرتعد الأوصال من قصيدة النثر،  كمنْ يخاف أن يستفردَ به نسرٌ  في مصعد كهربائي لا يتوقف.

■ هل يخاف الشاعر محمد الثبيتي من الارتفاع أو من حركات الصعود كالطير؟

_  لم أكنْ مغامراً شعرياً ضمن منظومة المخيّلة إلا بقدر ضئيل. لقد ابتلعني صندوق التفعيلات، وأصبحت رهينة لموسيقى الموتى فقط.

■ ولماذا لم تحقنُ أوردتكَ بسوائل الحداثة؟

_ كنت أخاف زَرق نفسي بالمِحْقَنة الغربية، ولذلك فضلتُ المحافظة على وحدة البيت بالأعمدة والأوزان، على التسيب في التيه المفتوح.  

■ من هم أصدقاء ما بعد الموت في قائمة الثبيتي؟

_ أصبح عندي من الأصدقاء قائمة طويلة، لا تعد ولا تحصى. فالسماء شعرية. أو أن شعرية السموات أعظم من معلقات الأرض.

■ هل تعرفت على أحد نال لقلب شاعر معلقات السماء في هذا المستقر الذي تقيمُ فيه الآن مع البشر؟

_ بالأمس رأيتُ زهير بن أبي سلمى في كافتيريا زنوبيا ملكة تدمر. جالستُ معهُ طويلاً،  وبشرني بكتابة معلقة جديدة، يخص فيها الحروب القائمة ما بين أهل السموات وأهالي الأرض.  

■ وماذا كانت النتيجة؟ أيكون ابن أبي سلمى قد ازداد ثراء بلاغياً في اللغة التي لا يفهمها حتى الذين يستعينون بالقواميس، وصولاً إلى المعاني التي جعلت الشعر حديقة جاهلية للمشاعر.  

_ قد لا أدرك حقيقة موقفي من ذلك الشاعر، إلا أنني واثق من أهمية البعد النفسي  لشعراء المنفى أو الصعاليك، فالمنفى هو البحر الأخير الذي بات يكتب الشعراءُ على رتمه تفسيراً لجراحهم وخيبتاهم وموسيقاهم المظلمة.  

■ وهل تعتبر السماء منفى بالنسبة لك؟

_ لا. ليس الأمر بهذا التصور، ولكن بالنسبة للشاعر والفنان والكاتب المتمرد على الأقفاص، فيبدو كل منفى وكل إقامة في سيبريا أو الجحيم،  أفضل من البقاء في مملكة النفط والرمال العجوز.

■ ألمْ يجعلك الموت حراً بالانتقال إلى هنا. فلماذا كلّ هذا الفيض بالذكريات المظلمة المرّة؟

_ أنا صاحب ذكريات مكفهرة الوجه ومُرعَبة على الدوام. وذكرياتي هي بالأساس قصائدي. وكلّ قصيدة – حسب تعبير  هارولد بلوم – هي نوع من (( التأويل الضآل للقصيدة الأم. القصيدة ليست محاولة للتغلب على القلق، بل هي القلق عينه. التأويلات الضآلة للشعراء أو قصائدهم هي أكثر تطرّفاً من تأويلات النقاد الضآلة أو نقدهم. ))

■ هل تكاتبُ أحداً من أهل الأرض؟

_ نعم. فأنا ما زلتُ أراسلُ مزارعي الأرز في المناطق الدافئة.

من أجل أن يطبخوا إليك ((منسفاً )) بالدجاج المُحَمرّ مع اللوز بعد مواسم الحصاد؟

_ بل من أجل رؤية أقدام زراع الأرز، وهم يخوضون في تلك المياه، لصنع الطعام للأفواه الجائعة، وليس لثيران المناسف وأكلة اللحوم بمختلف أنواعها.

مقالات من نفس القسم