حوار مع الشاعر الدنمركي ميشيل سترونغ

ميشيل سترونج
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتابة وحوار: أسعد الجبوري

على باب فندق ((طيور المياه))، وجدناه ينتظر هناك، وهو يحملُ مظلةً زرقاء بيد، فيما كانت يدهُ الأخرى ممسكة بشريط  من الجلد يمتدُ إلى عنق حيوان (الكازا) المرقط مثل نمور الأرض القديمة.

ما أن شاهدنا مقبلين عليه،حتى نهض الشاعر الدنمركي ميشيل سترونج (19.6.1958-9.3.1986) لملاقاتنا.آنذاك تصافحنا بقوة ولهفة، فيما كانت عيناه مغرورقتين بالدمع.

لم نسأله عن دمعه المحبوس تحت الجفنين.ولا عن إقامته بفندق خاص بالطيور.فسرعان ما دعانا سترونج إلى الداخل،ربما لأنه أراد حمايتنا من العواصف الرعدية والمطر الذي بدأ بالتساقط في تلك اللحظات.

عندما أطلقنا نظراتنا العميقة نحو عيني الشاعر الغائرتين على ذلك الوجه الصامت البارد الأبيض، رأينا ضباباً يغلفهما. آنذاك امتلكنا خوفٌ طارئ، مما دفعنا إلى ان ندخل مع الشاعر في الحوار الذي جئنا من أجله.وذاك ما فعلنا.قلنا له:

■ في البدء كانت مجموعة (سرعة الحياة) التي أصدرتها عام 1978.هل كنت مستعجلاً إلى الحد الأقصى على سبيل المثال؟

_ ربما.فقد كان التهرؤ  يأكل أحذيتي وصولاً إلى لحم القدمين.

■ ولمَ كانت العجلةُ والسرعة والاحتكاك؟

_ من أجل أن أدخر الآلام.

■ ألا تستطيع أن تعيش خارج دائرة كلّ ما هو مؤلم مثلاً؟!

_ لست تافهاً لأفعل ذلك.أنا شاعر أولا وأخيراً.

 ■لمَ أردتَ تقمص دور السيد المسيح بحمل صليب الآلام؟

_ لا.أنا لم اتقمص آلامه، بل تمثلتُ حرائقي فقط،حتى دون رغبتي بوجود آخرين يشاركون جنازتي.

■ هل في ذلك لذّة ما كما ترى؟

_بالتأكيد نعم.فأن لا تمتْ متألماً،فأنت تافه إلى حدّ بعيد.المخلوقات الصامتة هي الأكثر ضرراً بالوجود.

■ هل يحملُ شعراء الثمانينات في الدنمرك هذه البصمة ذاتها؟

_ لست معنياً أن أكون مع القطيع الأمي.

■ هل تعتبر شعراء جيلك من القطعان الصاغرة التي بلا حراك؟

_تماماً.فهم كالأوراق بلا أرواح.ولم يكتبوا ما يمكن أن يحدث هزّة أو عاصفة عنيفة،تُسقط الثمار المتفسخة من على الشجرة،لتدوسها أرجل الدوابّ،فتمسحها أرضاً.

■ كيف تنظرُ للشعر أنت؟

_ ليس كما أنظر للأرقام في كتب الرياضيات بالتأكيد.الشعرُ في رأسي مجموعة ستائر ممزقةٌ.

■ مع الريح أم دون ريح؟

_ الريح هي خالقة الاضطرابات،ومنها نستمد الهوسّ بالثقافة الفاسقة التي عادة ما تلصقُ بجلودنا في هذا الوجود الضيق الذي نمرُ بشرايينه وأوعيته الدقيقة.

■ هل منشأ شعر ميشيل سترونغ،هو منشأ عاطفي؟

_ أجل.فالعاطفة رحم،مثلما هي مقبرة.

■ يؤكد د. سيغموند فرويد: “أنّ كل مظهر عاطفي،مهما كانت خاصيته،يتمّ تحوله،بواسطة الكبت إلى قلق مرضيّ” فما ردّكَ؟

_ وذاك ما أصابني بالعمق.لقد دخلت كلماتي إلى الأسر،عندما تضخمت عليها الثيابُ العاطفية،لتصبح فيما بعد لغةً بأزياء الجنون.

■ الجنون المجازي تقصدُ؟

_ لا يمكنُ أن تجدَ فرقاً ما بين الجنون الحقيقي وبين الجنون المجازي عندي.لقد أصبحنا كتلةً واحدة.

■ ماذا يجدُ الشعرُ في حقول العقل الشعري الذي يُصاب بالخراب الفني، أو بما يمكن تسميته بالفوضى السيكولوجية الخلّاقة؟

_ سأقول لك شيئاً مهماً: عندما يأخذُ الشِعرُ بالانحراف عن قواعده المُستَهلَكة القديمة،فهو يخلق الفردوس العظيم للجماليات.وآنذاك لا خوف علينا حتى من الطيران جواً.

■ أوليس ذلك ما فعلتهُ أنتَ يا ميشيل،عندما قذفتَ بجسدكَ من الطابق الخامس؟

_أجلْ فعلتُ ذلك وأنا اصرخ بتلك الجملة الأخيرة من حياتي : ((أنا يمكنُ أن أطير)).لقد نفذت رغبتي وانتهيت طيراً  يحلقُ في فضاءات العدم المطلق.

■ هكذا بلغتَ المجالَ الجويّ للأرض تقصد يا ميشيل سترونغ؟!!

_ بعد أن عبر المجال الجوي للنفس،فليس مهماً أين أكون قد سقطت.في العلو الشاهق،أم في الهاوية.المجالان يؤديان إلى الرماد الحار.

■ من قام بتكثيف مثل تلك الضلالات برأس شاعر غُرٍ مثلك؟

_ بالتأكيد ليست صديقتي (سيسيلي براسك)  بالطبع. وإنما جوقة من الملائكة الذين كانوا يرافقونني في تربية الكلمات في غرف القصائد.

■ ولماذا جرى الانتحار طيراناً؟

_لأنني أمرت بإخراج كلماتي من معتقلاتها في تلك الغرف.بعدها خفتُ أن أبقى وحيداً،أدور في فراغ نفسي كما تدورُ أذرعُ الطواحين العملاقة.

■ من جعل الهوسّ وكل ذلك الاضطراب مكملاً يومياً لحياتك،تارة في مستشفى جامعة كوبنهاغن، وتارة أخرى في المستشفى الوطني. هل كان ذلك بفضل الشعر؟

_ كتبتُ شعراً كثيراً،ومللتُ من طول النفاق. لذلك،وعندما وصلتُ إلى مرحلة النفق، أي أن أحفر شعراً بمهارة حفاري القبور،سرعان ما وجدت جسدي يغادرني مثل غيمة حمراء،ليسقط تحت التراب. 

■ هل ذهبت للاحتماء بالمقبرة،بعدما وجدت المدن تضيقُ بك؟

_ ذلك ما حدث بالضبط.لكن ليس بسبب ضيق المدن.بل لأن نفسي أصبحت مدينةً فارغةً غير مأهولةٍ  بالسكان،وتستمر بالمشي نحو عصر جليدي من التكنولوجيا الجديدة.

■ أنت واجهتَ ذلك العصر الجليدي بلغتك الشعرية الجديدة.إلا أنك في نهاية المطاف اندثرتَ،بعدما قررت الانسحاب بالموت،لتترك الساحة لشعراء،ربما لا تؤمنُ بهم.

_ لم انسحبْ من الشعر،بل ذهبت لأمكنته الطبيعية في المستشفيات،كي أكتب وأغذي الكلمات بالحبر الخاص.

■ حبر الكآبة تقصد يا ميشيل؟

_ لا يحتاج الهوس أو الاكتئاب إلى غير بخار المخ.فكلّ منهما يحتاج إلى تشكيل عصابات لقلّب موازين القوى في المجتمع الدنمركي الخامل أو الميت بالضبط.

■ وهل كان باستطاعةِ الشعرِ ان يطهرُ الناس من القفر أو من تصحر العواطف،فيما لو تم استعماله على نحو مكثف على سبيل المثال؟

_ قلْ كما يحلو لك أن تقول.إما أنا فقد ذهبت لتفسير الهواء بين أجنحتي.

■ ما قصة النوم الأسود يا ميشيل؟

_هو مجموعة أصدقائي من الغربان،حيث تزدحمُ بهم نوافذي عن بكرة أبيها.

■ وكنتَ سعيداً؟

_ ماذا تقصد؟

■ أقصد :هل كنت في تلك للحظات مبتهجاً وسعيداً وزاخراً بالملذّات على سبيل المثال؟

_ أنا عشتُ الحياة بإيقاعها الشعري السريع من رامبو إلى رموز قصيدة النثر التي اجتاحت العالم بجمالياتها ولغاتها العالية وموسيقاها الباذخة،تلك التي جعلت اللغة تربة صالحة للطيران.

■ هل من أجل كل ذلك أطلق عليك البعض بأنك من أحجار الشعر الكريمة؟

_ هناك كثيرون،يوزعون الألقاب دون أن يدركوا ما تؤول إليه المعاني.لماذا أنا جحر كريم؟

ما المقصود. هل هو ثمن المعدن؟أنا بعيد عن ذلك الحجر،ولا أنتمي إليه بالتأكيد.

■ أنت لم تعش جيداً.ما الذي كان ينقصك بالضبط؟

_ كان ينقصنا الموارد الشعرية.ينقصنا التنافس والاحتكاك والصراع.لقد وجدت نفسي مع جيل ناهض،ولكن داخل حفرة عميقة.

■ كنت شاعراً رومانسياً بعمق. فلماذا ذهبت بحياتك نحو العزلة الشديدة.من دفع بك نحو ذلك المصير الضيق المؤلم؟

_ لقد عشتُ عصري الرومانسي في عنابر المستشفيات الخاصة بالأعصاب.هناك شهدت على تاريخي الشعري الحديث قبل البوب وما بعد حداثة الجنون

■ يبدو أنك كنت غارقاً بتلك الموسيقى المنبعثة بأغاني البوب.فهل تعتقد بأن للموسيقى السند الأقوى في بناء الذات الشعرية؟

_ عندما لا تجد في الأنا العظمى،مخلوقات مؤثرة وقادرة على جمعك لحماً وعظماً وأحاسيس،فآنذاك ترفع للعالم قبعتك أو كف يدك،وتلوحُ مودعاً.

■ هل كانت أناك مفتتة.مجزأة على سبيل المثال؟

_ لم تنقطع الآلام عن الجسد يوماً،فكيف سيكون وضع الأنا الخاصة بك؟ بالطبع ستكون في مرحلة من الخطر الشرس،وإلا فلمَ تعوّل على نفسكَ،فتكون شاعراً؟

■ ما قصة الكتابة القذرة التي أُلصقت بك يا سترونغ؟

_ ليس معي غير كلبي المشرد بين طبقات الزمن.هل ثمة عجائب في ذلك.أغلب الدنمركيين لديهم كلاب مثلي،ولكن كلبي يحتفظ بذات مثقفة.هذا كان خلافي معهم.

■ لذلك كنت تكتب دون تورية.تكتب بوضوح.تكتب بقذارة،وكأنك تغرف حمماً من فوهة بركان،وترمي بها الناس في عرض الشارع؟

_ أجل. كنتُ أكتبُ بتلقائية مسندة إلى بعد سوريالي فاضح للفساد وكاشف للزيف الاجتماعي المتراكم فوق الوجوه وعلى الهويات وبالأصول والجذور العرقية والأديان.

■ من الأكثر ثراءً للشعر، حواسُّ الجسد أم شوارعُ المدن؟

_ وضع الرأس تحت المخدة أهمُّ من الاثنين.

■ لماذا الرأسُ تحت الوسادة وليس فوقها مثلاً؟

_ لأن أعظم حوادث النوم التي تفلت من سيطرة العقل،لا تحدث إلا والرأس تحت تأثير الاختناق.ذلك ما اكتشفته أنا شخصياً.ربما لا يرى الآخرون شيئاً مشابهاً لما يحدث لي.

■ كأن معمل الصور،لا يحدث إلا في أثناء النوم؟

_ الكلماتُ أرحامٌ.ومنها أستخرج الصور لمنتجتها في العقل، ومن ثم رميها على أرصفة الطرق.

■ترمي الصور الشعرية رمياً كما الحجارة تقصدُ؟!!

_ عندما أتأكسد نفسياً في صوري الشعري،وأدرك آنذاك بتحرر نصي من سلطتي.سرعان ما أتركه في الشارع وأمضي دون أن ألتفت.

■ لماذا تعتمدُ على ضخ الصور في مجرى النصّ،هل من أجل تثبيت قوته مثلاً؟

_ لا.ولكن من أجل استحداث سينمائيات بصرية قادرة على توسيع نطاق مفعول النصوص،لتحتل أمكنة أكثر وبمساحات أوسع.

■ هل ثمة بريد ما بين إدارة رأسك وقواميس اللغة يا سترونج؟

_أجل.هناك ساعي الشعر البوهيمي ومساعدوه من الجرذان المختصة بأوراق كتب التراث. 

■ منعاً للتصادم أم منعاً لموت الشعر؟

_ كل ما أفعله ليس من أجل منفعتي الشخصية،بل بهدف الخروج بالشعر من النظام المدرسي ليس إلا.

■ ألهذا كتبت 11 مجموعة شعرية في سبع سنوات (1978-1985).هل كنت تشعر بالمصير الذي ينتظرك؟

_ كنتُ أربي الأمل في حديقة الشعر الخلفية،مثلما يربي الفلاحون الماعز في الزرائب.كنت أفعل ذلك،مستعجلاً اللبن.

■وهل في اللغة لبن على حدّ علمك؟

_ الحبر الأبيض من أجل أوراقي المعتمة.كان علىّ أن أفعل ذلك،علّ شيئاً يتغير،فيقترب من النافذة التي قد يطلُ منها الأمل.أي أمل حتى لو كان تائهاً ويعثر علينا هنا أو هناك.

■ حتى لو كنت نائماً في جوف قصيدة ضائعة أو بباطن أغنية ثملة؟

_ في الموت أيضاً، يوجد لنا أمل،نحن الذين تتوهج في أعماقنا الكآبة بلمعانها كما سيف الساموراي.

■ كيف تنظر إلى الموت الآن؟

_ أنه أجمل الأطفال الذين قابلتهم في حياتي الثانية.لم أكن أعرفه على الأرض،بمثل هذه المعرفة هنا.كنا نظلم الموت بنظرتنا القاسية بحقه.هو ليس كذلك.الموت باص لنقل الركاب إلى عالم أقل ألماً وضجيجياً مثلما هو هنا.

■ أي الأوقات أفضل في القصيدة؟

_ الظهيرة. أي الساعات التي تخرج فيها الشمسُ من رحم القصيدة،وتلغي الفراغات الموجودة في الرأس،والبدن بشكل عام.

■ هل عندك شكوك بشأن تقسيم الزمن ما بين ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل هو وهمٌ؟

_ الزمن سيجارة مشتعلة، لا يمكن إيقاف اشتعالها.فهي الورق وهي التبغ وهي النار.فيما نحن خلاصتها:دخانٌ ورمادٌ.

■ كيف كانت العلاقات ما بينك وبين شعراء جيلك في كوبنهاغن؟

_ كنا نستمع لأغاني الكلاب بمتعة مشتركة.

■ تعني ان جيلك الشعري كان تحت تأثير الإخفاق الوجودي؟

_ في مراتٍ كثيرة،كنت أضع القصائد على الطاولة أمامي،وأشتهي أن يمر من بين يديّ قطارٌ لتمزيق أجساد الكلمات.ولكنني كنت أفشلُ على الدوام،فأغادر غرفتي لتأمل الغيوم في الخارج.

■ كل مقتنيات حياتك غير ثابتة.كلب صديقتك سيسيلي.الغيوم.الزمن.الموت.الأمل.هل وجدت الأشياء ثابتةً في السموات؟

_ كما أعرف. فلم تصل روحي إلى السماء بعد،هكذا أخبرني شرطي المرور بذلك.قال :أن جسدي ما زال مستمراً بالطيران إلى الأعالي بعد ارتطامه بتلك الأرض.

■ هل في السموات شرطة مرور؟

_ بالتأكيد.فالشرطة ملائكةٌ.وهم من يقومون بتنظيم رحلات العودة إلى الرحم الإلهي بشكل دائم،وذلك من أجل تأمين سلامة عودتهم إلى الأرض والمجرات الأخرى.

■ هل يؤمن ميشيل سترونج بالعودة للمجرات الأخرى،متقمصاً شخصية حيوان آخر؟

_ ذلك ما هيأت له نفسي للكتابة بطريقة غير مغناطيسية.

■ماذا تقصد بغير مغناطيسية؟!

_ الكتابة تحت تأثير الفراغ،لا تحت تأثير الحوادث.

مقالات من نفس القسم