جندي لا كيوتات

برتولد بريخت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

برتولد بريخت

ترجمة: ناصر الحلواني

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، أثناء احتفال ببدء إبحار سفينة في الميناء الصغير لمدينة لا كيوتات، في جنوب فرنسا، رأينا في ميدان عام تمثالا برونزيا لجندي فرنسي، وحوله زحام شديد. اقتربنا منه، ففوجئنا به رجلا حيا، ينتصب هناك، يرتدي معطفا أغبر فاحم اللون، وعلى رأسه قبعة من الصفيح، ثابتة حربة بندقيته، لا يتحرك، فوق قاعدة تمثال، تحت شمس يونيو الحارة. مطلي وجهه ويداه بالبرونز. لا تتحرك له عضلة، ولا يرمش له جفن.

عند قدميه، وُضعَت لوحة من الورق المقوى، تستند إلى القاعدة، مسطور عليها الحكاية الخيالية التالية:

تمثال حي

أنا، شارلز لويس فرانشار، جندي في الفوج …، نتيجة لما حدث من دفني حيا في فيردن، أن صارت لي القدرة على البقاء ساكنا تماما، وأن أبقى كتمثال بقدر ما أشاء من زمن. تم التحقق من هذه الخاصية التي أتميز بها من قبل أساتذة متخصصين، وتم تشخيصها كمرض يتعذر تفسير علته. رجاء، تبرعوا بسخاء إلى  أب عاطل له عائلة.

ألقينا بعملة مدنية في الطبق الموضوع جوار اللوحة، وهززنا رؤوسنا عجبا، ومضينا.

فكرنا، إنه ها هنا يقف، شاكي السلاح، جندي الألفية، غير قابل للتدمير، هو ومن صُنع تاريخهم, هو، من جعل ممكنا كل تلك الأعمال العظيمة للإسكندر، وقيصر، ونابليون، التي نقرأ عنها في الكتب المدرسية. إنه هو. لم يرفّ له جفن. هو رامي سهام كورش العظيم، وسائق عربة قمبيز الذي لم تقدر رمال الصحراء على دفنه، ومبارز قيصر، ورامي جنكيز خان، والحارس السويسري للويس الرابع عشر، ورامي قنابل نابليون. لديه بالفعل قدرة غير عادية على الثبات بوجه كالصخر، بينما تحاول كافة أسلحة التدمير أن تقضي عليه. لا يُبدي شعورا، بقيَ مثل حجر (كما يقول) عندما أرسلوا به إلى الموت.

طُعن برماح كافة العصور، ومثل حجر، كالبرونز، وفي صلابة الحديد، داسته عربات حرب الملك الفارسي خشايارشا الأول، والجنرال الألماني ليدندورف، سحقته أفيال هانيبال، وحشود أتيلا بأفراسها، ومزقه حديد طائر في قرون عديدة، لبنادق أشد من أي وقت مضى، وكذلك، أحجار المنجنيق. مزقت أوصاله طلقات بنادق ضخمة في حجم بيضة يمامة، وأخرى صغيرة كالنحلة، وظل ثابتا، غير قابل للهلاك، ومرة أخرى، صدرت له الأوامر، بلغات كثيرة، لكنه دائما ما يجهل لماذا وما السبب وراء ذلك.

البلاد التي غزاها لم تصبح ملكا له، مثل المعماري الذي لا يعيش في المنزل الذي بناه. وكذلك لم تكن له الأرض التي دافع عنها. حتى سلاحه أو معداته ليست له. مع ذلك، بقي ثابتا هناك، وفوقه يهبط الموت مطرا، ترمي به الطائرات، والقطران المحترق من أسوار المدن، وتحته الألغام والشِّراك، وحوله الطاعون وغاز الأعصاب، طُعمٌ جسدي حي للسهام والرماح، غرض، وعاء يحوي سائلا لزجا، مُستَنشق غاز، العدو من أمامه، والجنرال من خلفه.

لا حصر لعدد الأيدي التي خاطت زيَّه، وطرقت درعه، وصنعت حذاءه! لا حصر لعدد الخزائن التي مُلئت لأجله! ما لا يُحصى من الهتافات، بكل لغات العالم، التي شجعته. باركه كل الأرباب! هو، الرجل الذي أثقل كاهله بلاء الصبر الفظيع، اجتابه مرض عضال لا علاج له: انعدام الشعور!

فكرنا، يا له من دفن حي حقيقي، أليس ذلك ما سبَّب هذا المرض، هذا البلاء المريع، والشنيع، والمعدي إلى حد كبير؟ لكن، سألنا أنفسنا، أيمكن ألا يكون كذلك، ويكون قابلا للشفاء في نهاية الأمر؟

مقالات من نفس القسم