جماليات اللغة المحكية في رواية حسين عبد العليم

هويدا صالح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. هويدا صالح

ظل للعامية المصرية ترددات في الرواية، وهذه الترددات اقتصرت تقريبا على الحوار، وقليلا ما اُستخدمت في الوصف والسرد، حتى جاءت أول رواية بالعامية المصرية  بعنوان:” قنطرة الذي كفر” الذي كتبها مصطفى مشرفة، ثم توالت بعد ذلك الروايات التي صدرت بالعامية ومنها: رواية” لبن العصفور” ليوسف القعيد، و” من حلاة الروح” لصفاء عبد المنعم، و رواية”بازل” لحسين عبد العليم  وغيرها من الروايات التي اتخذت من العامية جمالية سردية.

وقد راهن حسين عبد العليم على بلاغة العامية المصري كلغة للسرد والوصف والحوار، حيث قام الكاتب باسترفاد التراث الشعبي، ليس فقط على مستوى لغة التراث(اللغة الشفاهية المحكية) إنما أيضا استرفد الوعي الشعبي الذي أثر على رؤية العالم في الرواية، كما استرفد التراكيب الشعبية والأمثال التي تحكم الوعي الجمعي للجماعة الشعبية.

إن المهمشين الذين تحتفي بهم الرواية أبطال بلا مجد ، شخصيات عادية متعلقة بأهداب الحياة ، تحاول أن تعيش في مجتمع لا يرحم ، تواجه القهر والقمع والحاجة وتبحث لها عن مكان تحت الشمس وبأي الطرق الممكنة، تحلم بغد أفضل وتحفر في الصخر للخروج من أزمات نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية.

هذه الشخصيات المهمشة  كمن وقع أسيرا في بئر، تحاول أن تتسلق جدار  هذا البئر في محاولة للخروج، لكنها بأي حال لا تتمكن من ذلك، وتتشظى الأحلام والآمال، وينهض السرد في محاولة من الكاتب لترميم هذه الشروخ النفسية التي أصابت هذه الجماعة الشعبية الصغيرة التي تمثل الجماعة الشعبية الكبرى، فيحاول الكاتب أن يلملم التشظي، كمن يركب لوحة”البازل”.

ولأن الكاتب يعي أن العنوان عتبة نصية تستحق الكشف حتى يقرأ المتلقي الرواية من خلالها، فيكتب مقدمة صغيرة يشرح فيها ما هو “البازل”، ومن خلال هذا التفسير يمكن للقارئ أن يكتشف أن الكاتب سيعيد تشكيل لوحة “البازل” بإعادة تركيب أجزائها مرة أخرى حتى يكتمل المشهد:”حيرة ـ لغز ـ مشكلة ـ متاهة… بازل تطلق على لعبة عقلية شهيرة، واللعبة عبارة عن لوحة ملونة من الورق السميك وممزقة بشكل عشوائي متعمد، وتتم اللعبة بإعادة تكوين اللوحة ـ برص أجزائها بجوار بعضها البعض بصبر وأناة، على مرجعية من صورة أخرى مكتملة للوحة الممزقة”(الرواية).

إذن منذ البدء يعمد الكاتب إلى التناص مع تفاصيل الحياة الشعبية، ألعابها وأمثالها، فبازل رغم أنها لعبة قادمة من ثقافة أخرى(ربما الأمريكية) حتى أن الكاتب على لوحة الغلاف لم يكتف بعنوان”بازل” بالعربية، بل كتبت كلمة بازل بالإنجليزية بخط صغير أسفل العنوان العربي، لكن هذه اللعبة التي أتت من ثقافة مغايرة صارت لعبة شعبية، يقوم الأطفال في الجماعة الشعبية باللعب بها وتركيب أجزائها المتناثرة بشكل عشوائي.

يقدم الكاتب لقارئه مفاتيح قراءة واعية عبر العتبات النصية، فتأتي العتبة النصية الثانية تصديرا من قصيدة “الأرض الخراب” للشاعر الإنجليزي تي إس إليوت؛ لتهيئة ذهن القارئ أن يدرك أهمية لملمة أجزاء اللوحة حتى يتفادى الخراب، حتى لا تصبح الأرض خرابا:”ما        ذا سوف أفعل غدا

ماذا سوف نفعل على الإطلاق

الماء الساخن في العاشرة

وإن هي أمطرت

فعربة مغلقة في الرابعة

ثم نلعب مباراة شطرنج

ونحن نضغط عيونا بلا جفون

ونترقب طرقة على الباب

..

 ..

جسر لندن

يتهاوى ويتهاوى ويتهاوى”

وبعد هذه العتبات القرائية يدخل بنا الكاتب إلى عالمه الذي شيده على لغة التراث الشعبي، يقسم الكاتب سردياته المتشظية والتي تحتاج إلى إعادة تركيب الصورة على عدة أصوات، يبدأ الصوت السردي الأول يحكي حكاية امرأة من الهامش، تعيش في الهامش مثل شخصيات السير الشعبية، تتعرض لكل أنواع المذلة والانهيار النفسي،لكنها تحاول أن تلملم شتات نفسها حتى لا تنهاوى مثلما تهاوى “جسر لندن” في سردية المفتتح. الصوت السردي الأول هو صوت”منصورة” وهي شخصية من الشخصيات المهمشة التي تعاني من زوجها الذي يدمن المخدرات ويتوقف عن العمل، فتضطر للنزول للعمل في البيوت، ثم يتم استغلالها من قبل بعض الرجال بعد أن تفر هاربة بصغارها من زوجها الذي داوم على ضربها وأخذ نقودها القليلة التي تعمل بها من أجل شراء المخدرات، وحين تفر هاربة وتختفي في منطقة شعبية أخرى بعيدة عنه تتعرض لاستغلال الرجال، ثم تقرر امتهان الدعارة حتى تتمكن من إعالة صغارها.

يستخدم الكاتب اللغة العامية في حميميتها وقدرتها على التعبير عن المنولوج الداخلي الذي تستخدمه منصوره وهي تحكي حكايتها:”لف دماغي..قال أنتي طلعتي مرة حره وشريفه وعفيفة.. تعرفي لو كنتي وافقتي من غير كتابه ..كنت كنت بهدلتك أصلي أنا لمؤاخذه بعاشر الناس النضيفه ..والوحش يغور”(الرواية).

ولأن الكاتب يدرك الفرق في التشكيل البصري بين الكتابة بالفصحى والعامية فقد تحرر من قيود الفصحى، فلم يلتزم بعلامات الترقيم، لم ينشغل بالفرق بين استخدام الهاء والتاء المروبطة، فالعامية تكتب التاء المربوطة في نهاية الكلمات هاءً دون أن ينشغل كتابها بالفرق اللغوي بين الهاء كضمير يلحق في نهايات الكلمات والتاء المربوطة التي هي علامة تأنيث تلحق بالمفردات من أجل تأنيثها تأنيثا حقيقيا أو مجازيا.

يستخدم كذلك الكاتب بعض التعبيرات والتراكيب العامية التي يستخدمها المثل الشعبي في كثافته اللغوية ودلالاته العميقة:” وعشت أنا وعلي الكتكوت، وحبلت وجبت البت شيماء وأتاري أحمد زي الحاج أحمد ..ابتدا المعلم علي يطفح البانجو ده غير أبو صليبة والصراصير وكله”(الرواية).

إنها كتابة تراهن على ما هو إنساني، تبحث في تفاصيل الذوات الإنسانية التي عانت من التهميش وتحاول أن تقيم أرواحها المتعبة متخذة، وأقصد الكتابة من جماليات الحكي الشعبي تقنية جمالية، فمن يقرأ الرواية يشعر أنه يجلس مع هذه الشخصيات على عتبة من عتبات الدور يستمع إليها وهي تسرد مواجعها في ترديدات أقرب إلى العديد الشعبي الذي يطلقه الحزانى على رحيل موتاهم.

لم تكن فقط اللغة المحكية هي الجمالية الوحيدة التي وظفها الكاتب في النص مستفيدا من رصيد الجماعة الشعبية، إنما كانت طريقة السرد خصيصة من خصائص السرد الشعبي، كذلك كان الوعي ورؤية العالم الذي جعل الكاتب ينحاز لهذه الشرائح المهمشة ويعمل على أن يلملم شتاتها وينهض بأرواحها الممزقة ويجمعها مثلما تجمع قطع البازل في محاولة لإقامة كادر بصري متماسك.

………………………….

24 ـ حسين عبد العليم، بازل، دار ميريت للنشر والتوزيع، القاهرة، 2005، ص5.

25ـ المصدر السابق،ص12.

26ـ المصدر السابق،ص12.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم