جدائل من رماد

Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 د. فضيلة ملهاق

 غاصت معاول الذاكرة بغوار في رأس “رحيم” وأخذت تنكش رواسب السّنين.

 ليس نبش القبور بذي سهولة! استخرجت جرّافة اللّحظة جثث نفسه من توابيت الآخرين المطمورة في أقبيته! انتظمت لحظات وجودهم كحبّات عقد تنضفر بدايته بنهايته. عقود تلتف حول عقود! وفصوص تنفلت من فُصوص!

 أخذ يُراجع وجوده عليها واحدة واحدة، تمنى لو يتسنى له أن  يخترق ذاكرة غيره ويطمئن على ما  تحمله فصوصها عن وجوده.. هل سيشهد تملّص أجزاء وجوده فصَّا فصَّا؟ أم سيسبقهم جميعا ويتملّص بمنابه منها؟

   استبق نعش “الضاوية” سيارته مرة أخرى، إنه يحمل أحد فصوص ذكراه! أذوى طول تحديقه إليه نظراته وقوّى مخاوفه من اليوم الذي ستختفي فيه كل الفصوص ولا يبقى من يحفظ ولو صورة خاطفة عنه.

   تملّكه هاجس التّلاشي التّدريجي، ودهمه فضول مربك.. من سيُواري أهم لوحات وجوده؟ الضّاوية؟ عائلته؟ جمال؟ ربيعة؟ وردية؟ سامية؟ أم..من؟

    ضغط على المقود بشدة كادت تقتلعه من لوح السيارة لدى ذكر “سامية” سكرتيرته السابقة، ودّ لو تتملص من ذاكرته لأجل شيء لم يتوصّل يوما إلى تحديده، فلم تكن من ذلك النّوع من النساء الذي يُمغنط بجماله، أو يتغلغل في النفس بأفكاره، ولا من ذلك النّوع المقتحم الذي يستطيع أن يُململ القناعات باكتساح الرّغبات.. لكنه كثيرا ما كان يجد نفسه منجذبا إليها من دون أن يعرف السبب، أو نافرا منها دون أن يعرف السبب.

    كل ما حدث بينهما ولم يجد لها سببا للحبّ ولا سببا للكراهية، وظلّ يتحجّج بأن شريكه “جمال” يتمسّك بوجودها لإلمامها بمتطلبات العمل، لكنه يعترف بينه وبين نفسه بأنه كان يجاري رغبته هو في استبقائها ليس إلاّ.

 .. شيء ما كان يجعلها مميزة، على الرغم من أنها لم تكن على قدر من الجمال أو تمتلك أعضاء متناسقة وجذّابة، مقارنة بكثير مما انجذب إليهن في حياته، هل هي تلك النظرات المترنّحة بين النّهم والتّجاهل في عينيها الفاحمتين اللامعتين؟ أم أنها كلماتها المتطايرة تطاير الغازات المنكّهة بين شفتيها الممتلئتين، اللتين كثيرا ما تنطقان بما يريد سماعه دون أن تُسرّبا أي حرف؟.. أم لعلّها تلك العجيزة التي تتفنّن في لفّها بألبسة تُطفي حشوا يُشهِّيه بزباديِّته الناعمة البَضّة، رغم يقينه بأنه يزيد سمرة عن وجهها الذي تُملّسه بكريم الأساس بعناية فائقة؟

     كلّ ما فيها: ابتسامتها المنكفئة على نفسها، ضحكتها المتذبذبة بين التّعالي والابتذال، مشيتها المتمايلة تمايلا مُفْتعلا، وقفتها المتحدية، جُملها المُركَّزة المُباغتة.. كل شيء كان ينذره بأنه قد ينجرّ إلى ما لا يريد أن يصل إليه معها، عدم رغبته في الارتباط بها كان يجعله يحترس من أي شعور ممتع يخلّفه وجودها، ويعمد إلى مقاومته أحيانا بنظرات باردة تثبّط أُلْفتهما، أو بتلميحات مُحرقة تنسف آمالها فيه وتنثرها رمادا أحيانا أخرى.

    لكن بعد أن تسترخي رغبته فيها مدة وتضع أوزارها ويستتبّ السّلام، يطاله السّأم من مُسالمتها، ويمتعض من فكرة تلاشي بريقه في عينيها، فينتفض احتياجه للشعور بلهفتها عليه، ويُبدي له السّلام في صورة جُبن مُهادن.. ويُعاود فتل حبال الوِدِّ واصطناع شعائر النّدم والشوق.

   ويتوغّل عميقا بأطماع قلبها الأسحم من دُخّانات خشوناته، ويُنعش فيه الآمال المتفحّمة.. ويجسّد، مرة أخرى تصوُّرا آخر لعلاقة آدم بحوّاء، تتلاشى فيه صورة حوّاء التي تُغري آدم بطعم تُفّاحة البداية وتستخلفها صورة آدم الذي يستدرج حوّاء بوشوشات القلب إلى شجرة الخطيئة، ويُتيهها في مسالك المُتعة ودوخة مذاقاتها، فتراها تارة في الفيء، وتارة في الجرأة على اقتطاف اللّحظات.. وحتّى في مشاق التذوّق.. وتنتهي، ككل مرة، إلى الندم والجزم أنّ ثمار الجسد تُتلف مذاق ثمار القلب.

                                            ***

     مرت أجزاء الوقت الذي أمضاه في شهر العسل كسياط مُلتهبة تجلدها بكل لحظة اقتصّتها من وجودها وأضافتها لوجوده، ازداد إحساسها بقيمة الوقت وشعورها بتفاهتها، فكّرت في أنه كان يمكن أن تُمارس هواية نافعة، أو تبدأ حياتها مع آخر..أو تختلي بأهوائها وتسترخي بهدوء، بدل أن تجعله مركز اهتمامها.

   غاب فجأة وترك لها مدخرات من الشعور بالمرارة، كانت تعيش على تكتكات عقارب الساعة، تنتظر اللحظة التي تلتقيه فيها لتفجر فيه غضبها، ويأسها وحسرتها.. وعندما رأته انفجرت في نفسها باللوم وفرضت عليها الصّمت.

    ورغم ذلك لم تسلم من قسوة عجرفته، سحج لها في طريقه إلى مكتبه تحيّة هزيلة كاد ينجلف لها غشاء لسانه، لفرط ما حرص على أن تصلها معتصرة وقاحلة، لم يُغِثْها ولو بنظرة تُعتقها من الشعور بكونها مجرّد حَيّة مثيرة تتسلّق اهتمامه بفحيح أنوثتها.

    دسّت أناملها المرتجفة في مطفأة السجائر دون أن تشعر، استعانت بنعومة الرّماد لتتجاوز وقع خشونته في نفسها، وردّدت بانكسار: ” الجسد عدو القلب، قدرهما أن ينافقا بعضهما بعض حتى لا يصفى المرء إلى هذا.”

 -صباح الخير. جمال هنا؟

– (…)

استحسن عدم ردّها. خشي أن تُبدّد نشوته باللّوم المقبور في خاطرها أو بجماح وارق الدموع المترجرجة في عينيها، فلم يخف عليه ما كان يساورها رغم ما بذلته من جهد لتبدو غير مبالية.

بادرت إلى الحديث من دون أن تستدير إليه:

– قد تستغرب ما أقوله، بقدر ما صدمني زواجك المفاجئ بقدر ما أراحني، لا أمل ولا خيبة، في الخمود راحة.

–  النصيب لا يستأذن أحدا حين يأمر، ستدركين عذري حين يُفاجئك نصيبك.  نبّهها إلى الحدود التي ارتسمت بينهما بنبرة مُغلّفة بالمواساة.

– من يدري؟ لعلّ القدر يُفاجئني بما يجعلك تستأذنني!

افترّت شفتاها المرتجفتان عن ابتسامة خاطفة كشطت عن غُمّة وحْليَّة تُنذره بأنه من الصّعب أن تتجاوز ما سببه لها من ألم بزواجه المفاجئ، فنظر إلى ساعته بشكل يوقف حديثهما،  عند هذا وانسحب إلى مكتبه.

  أحدث الباب صريرا يفضح ارتباكه، وكأنّه يخشى من أن تلحق به! انتابته قُشَعْريرة المقارنة بين ما يشعر به مع زوجته وبين ما تُحدثه هي في نفسه في كل مرة يكون قربها، لم يعجبه أن يكتشف أنه لا يزال غير محصّن ضد الانزلاق إلى دهاليزها.

هل يفصل الحُبُّ إملاءات الجسد عن إملاءات القلب؟

تساءل بارتباك، فلم يكن قد مرّ وقت طويل على زواجه بـ”ربيعة”، كان لا يزال منغطسا في عسل جديده ومستمتعا بطُمَأنينة المعاشرة العلنية، ورغم ذلك ظلت “سامية”، تلك الأفعى ذات الرّنين الأنثوي الطّاغي، تتهدّده بما يجعلها ترتطم في أوجاره بقوة، وتتحدّاه ككل مرّة بكونها ليست مجرّد فَشْفشة جَمرة في كأس ماء بارد.

فتح الباب  واتجه نحوها بخطوات محترسة، ذكّرها بما أغفلت الاجابة عنه.

– لم يأت جمال هذا الصباح؟

– لا.

ردت بصوت متهدّج ينبئ بأن حبالها الصّوتية لا تُسعفها بأكثر من هاذين الحرفين، انقبضت أساريرها، وارتعش فكّاها، وانهالت أناملها على أزرار الحاسوب بضراوة تكاد تجتثّها، أحنت رأسها ودمدمت لكبريائها الثّائر بحاجتها للوظيفة لتُعيل نفسها ووالدتها، ولعنت الحظ الذي جعلها تنتقل من نِير لنير.

 فلم تكن قد تخلّصت من حروق تجربة فرضها العقل حتى اخترقها سفّود تجربة فرضها القلب، أي بداية بعد كل ما حصل؟! لا بداية في الانسان إلا للعقل والقلب، فماذا بعد أن فشلت جهود العقل في مواراة تشوّهات وضعها، وأفلحت إرهاصات القلب في طمس ملامح داخلها؟!

    استخرجت لنفسها هذه الخلاصة بانكسار، انتضت رماح الماضي وتناثرت على روحها، فهرعت إلى مصراعي النافذة وفتحتهما بحدّة أوشكت على ثقب الجدار السّميك بالسدّادة المعدنية، شعرت بالحاجة إلى دفعات قويّة من الهواء لتُبدّد رائحة العرق المتخمّر في جلد كل منهما قبل أن تفضح ما يضمرانه لبعضهما بعض.

    فلم يكن سهلا أن يرفع في وجهها نخب السعادة في الوقت الذي لا يحقّ لها حتى إعلان الحداد! فالجهر بأنينها أو إبداء أي تصرف يشير للمستخدمين بما كان بينهما، كان سيعطيه ذريعة التخلّص من وجودها، والسكوت يجلب لها المزيد من الشعور بالاندهاس.

      ما كانت لتنخدع ببصيص التفهّم الذي رسمته نظراته العسلية العميقة كقاع المحيط، أو تعتمد على الوفاء الكلبي الذي أوحت به شفتاه الممتلئتان، وما كانت لتتوه عن عجرفة ذلك الأنف المستقيم المقوّس قليلا نحو الأمام حين يشتم رائحة ضعف القلب، فيسري خدر لذيذ في شروشه يشجّعه على أن ينساق، لحد البدائية، إلى مُراوحة آمالها أو هرسها بتعاليه.

-يا فتاّح يا رزّاق! من أصبح على سيرتي؟!                                                            

وصل إليهما صوت جمال من الرِّواق دون أن يصلهما صوت حركته، وكأنه يمشي على أطراف أصابعه! استحسنت مجيئه لينقذها من وخز الموقف.

– كدت أيأس من عودتك، بادره مداعبا، غرقت في العسل! لو كانت حالة “المشتاق إذا ذاق” لكُنتُ تفهمّتُكَ، ولكن وأنتَ زعيم الذّوّاقين.. !

دهس حذائه وجرّه إلى الدّاخل قبل أن تجرّ هذه الجمل السّريعة المتداخلة جملا أخرى تُفرقع بالون المسالمة الذي نفخه بتجاهل تلميحاتها، استدارت بدورها واستهزأت من سذاجتها التي جعلتها تطمح لأن تُعبّأ فراغ الحُبّ بالحب.

هل يصلح الحُبُّ لمن انزرع في الحقد؟! حُبُّ الأقوياء كثري براغماتي لا يدعو إلى سماطه إلاّ من يملك ثمن الوجبة!

    استسلمت لحتميّة أن يُشرّح رحيم مشاعرها بسكّين لأنّ بداية إحساسها بذاتها كامرأة ارتبطت بشفرة، قطعت والدتها جدائلها الطويلة بسكّين وهي لا تتعدى السّادسة من عمرها، وبترت معها متعة تغيير ألوان الشّرائط الزاهية، وبداية الإحساس بالجمال.

   لم تبرّر لها سبب ما أقدمت عليه، استنتجته من غمغماتها المستاءة من تصرفات ابن خالها الذي كان يصفها بالأميرة الهندية، ويُبدي إعجابه بجدائلها الحريرية الملمس، فشلت كل توسلاتها أمام إصرارها على قصّها وإحراقها، فلم يبقى لها سوى أن تغرس رمادها في جذع اللبلاب وتأمل أن تنمو لها جدائل أخرى بطوله.

    حفر الموقف في نفسها بمعول مسنن، لِمَاذا استعملت السّكّين بدل المقص؟ ألأنها أرادت أن تمارس طقوس تقديم الأضحية لدفع البلاء؟ ولم أحرقت تلك الجدائل ولم تلقِ بها في سلة المهملات..أو تطمرها في التراب كالعادة؟ ألأنها أرادت أن تقضي على ذكرى أنوثة مغرية؟ 

 أرادت أن تقطع  ظلّت تلك الصورة تلاحقها بالقنوط لسنين، ولم تجرأ على مواجهتها، ربما لأنها كانت تخشى من أن تنهرها.. أو ربما لأنها تعوّدت على فكرة أن أُنوثتها ذنب لا يجدُرُ تذكير الغير به، فمجرد أن بدأ سحر الشباب يتطلع إلى ملامح طفولتها، وجدت نفسها في مواجهة سلسلة من عمليات البتر، ومنعت فجأة من تصرفات كثيرة بدعوى أنها تؤهلها لتوريط العائلة في العار: النظر في المرآة، الاهتمام بتمشيط ذؤابات شعرها، مشاهدة الأفلام الأجنبية.. وحتى الانعزال والشرود.

    .كان عدم التقيد بصراط خالها يُعرّضها للضرب بحزامه الجلدي الكبير، ولأنها كانت طفلة حيويّة ومتمرّدة، لم يكن جسدها يكاد يخلو من البقع الزرقاء وآثار أعواد شجرة البرقوق التي تجمعها أمها خصّيصا لأجل تسليس ما تعتبره عوجا موروثا عن خالتها “صليحة” التي تحدّت العائلة وهربت مع مدرّسها (القاوري) غداة الاستقلال.

    فأول ما أدركته هو أنّ “صليحة ” هي وصمة عار نغّصت فرحة العائلة بالاستقلال، فتوارث الرّجال القسم على ذبحها، وتوارثت البنات كُرهها لأنها حمّلتهنّ وِزرها، وتسببت في تضييق الخناق عليهن، كما توارثت نساء المدينة اتهامها بعبارات تتصنّع الحياد، كأن تقول إحداهن:

  • والله ربّي أعلم! وتضرب بيدها على الأرض وكأنها تُبعد لعنة، يُقال أنها كانت حاملا منه وخافت من افتضاح أمرها.

فترد عليها أخرى وهي تُدير يدها حول رأسها كأنها تدفع عن نفسها الأذى:

– يا ربي أجِرْنا! يقال أنهم رأوها تخرج من بيته قبل أن يحدث ما حدث.

لم تلتق “سامية” يوما بـ “صليحة” أكبر خالاتها، ولا شهدت ظروف هروبها مع ذلك الإسباني، إلا أنّ تشبيه المحيطين لها بها في شكلها وطباعها جعلها تشعر بأنها هي المقصودة بتلك الأحاديث، خاصة وأن التشبيه كعقاب كان يمتد أحيانا لفتيات يُشاع عنهن سوء السّلوك (“بيبيحة بنت المولود” التي كانت تلبس التُّبّان وتمارس الرياضة مع ذكور المتوسطة دونا عن بقية البنات “الديسبونسي[1]“، “خيرة بنت المَكْسي” التي تتبرّج وتحرث -الزّنقة- ذهابا وإيابا في حين أن من في سنها لا يطلّين من النافذة، “ميمي بنت بوحجر” التي فعلت فعلتها وانفضحت يوم قالت آي كرشي!..).

الوقاية بالتشبيه تحوّلت جلادا وأصبحت تثير تعاطفها مع أولئك اللواتي تحوّلن إلى مضرب مثل، وتفترض أنّهنّ مضطهدات مثلها بوهم الخطأ، وعلى رأسهن “صليحة” التي أصبحت تلتمس لها الذرائع،   وتزيّنت لها شخصيتها لحدّ أن أصبحت تتمنى لو كانت هي أمّها بدل تلك الأم التي تفتقدها بشدة حتى وهما يتقاسمان ذات الغرفة.

 فمنذ انقطعت أخبار والدها المغترب في فرنسا، واستقرت معها في بيت جدها لأمها، لم تر منها موقفا واحدا ينفي حقيقة كونها مجرد سجّانة مهمتها مراقبتها وإعداد تقارير عنها لخالها، كان كل أفراد العائلة، صغارا وكبارا، يتدخلون في شؤونها وكأنها مِلك مُشاع دون أن يبدر عنها أي رد فعل.

 شعورها بأنها تتقاعس عن حمايتها جعلها تضمها إلى قائمة الأشخاص الذين تسببوا في تعاستها، ويتصدّرهم بلا مُنازع خالها الذي تعتبره أساس كل فشل عرفته، وسبب كل خطأ ارتكبته، حتى فشل علاقتها مع “رحيم” ردّته لكونه ظل يُضعفها بقسوته لحد أن أصبحت مجرّد قربة جوفاء تتسول الحنان، وتنجرف إليه انجراف أعمى نحو أول ما يبصره في حياته.

استبدّ حقدها عليه براحتها، ورغم ذلك كانت أحيانا تقتطف بعض المواقف التي تبرر معاملته القاسية برغبته في حمايتها من متاهات نفسها ومخالب الحياة، فتحرق كل الصور الباردة المتجهمة وتستبدلها ببعض الصور المضيئة الدافئة، على قلّتها. لكن بريق العواطف لا يصمد طويلا أمام حدة سكينه. فلم تكن صدمتها فيه هينة. فقد اهتاج اهتياجا غير مسبوق عندما وضع ابنه بين يديه الرّسالة العاطفية التي كتبها لها ابن الجيران. ورغم ذلك، ظنت أنه سيهدأ كالعادة بعد أن يقذفها بأكوام العبارات المهينة، وينقش جسدها بحزامه الجلدي. وعندما منعها من مواصلة الدراسة، رغم تفوّقها، ورفض زواجها منه، انهارت بالبكاء واعتبرت أنه قد بلغ ذروة قسوته. لم تكن تدرك أن كل ما ألحقه بها هو مجرّد توطئة للعقاب.

أمضت أشهرا منكفئة على نفسها. تُطارد يأسها بما تقرأه من الكتب والمجلات المهمّشة في قبو المنزل. وتنتقي منها ما يقذفها في عالم مغاير يضمحلّ أمامه اعتدادها بواقعها. قرأت العشرات من المقالات والروايات والأشعار.. وفي كل مرة كانت تنتهي إلى ذات التصنيف النّمطي لتطلّعاتها. تتكوم الكتب كلها في زاوية في نفسها، وتتربّع سندريلّا في دواخلها على أحلام شاسعة، تُفرد مملكة للأمير المنجد.. لكن أحلام الورق كذلك لم تدم! زعق الواقع. فلا حورية الموقد ظهرت!..ولا هي صادفت الأمير! ..ولا أقيمت حفلة اختيار!.. ولا تخطّت عتبة البيت لتُضيع فردة حذاء الحظ. كان يكفي أن تدخل عليها أمّها بحذاء ذي كعب عال وفستان أبيض بطبقات من (الدُّونتال)، لتدرك أنها هي الموقد الذي يُؤجّج حكاية لا يسهل إعادة تفاصيلها حتى بينها وبين نفسها. أخبرتها بأنها ستزفّ في نهاية الشهر إلى شخص اختاره خالها ثم التزمت بصمت الرّماد. أدارت ظهرها، كالعادة، لاستغاثاتها وهي تتخبّط كطير أخطأ فيه السّكّين طريقه ما بين الشّريان والشريان، فلم يبق أمامه سوى أن ينشد الاستعجال برحمة الموت.

كانت تلك آخر مرة سعت فيها لاستنفار عاطفتها كأُمّ وتترجاها أن تتخلّى عن أسلوب الحماية بالأذى الذي اعتمدته منذ قصّت جدائلها. بعدها، استسلمت لمداد ظروفها، واستمسكت بإملاءات عقلها. حشت رأسها بفكرة أن يوفّر لها ذلك الزواج فرصة الاستقلالية المادية والمعنوية، ويُريح أمّها من وضع خادمة زوجة أخيها. وحاولت قدر المستطاع أن تُخبي وهج جُرحها بضمادات العقل، لكنها لم تُفلح في تبديد رائحة تعفّنه. فقد انغطست حياتها الجديدة في النّفور من كل شيء، حتى من أنفاسها، وأصبح أقصى طموحها أن تؤذي خالها حتى لو تأذّت معه. كسرت قاعدته “لا مطلقة في تاريخ العائلة” واضطرّت زوجها لطلاقها بعد أن تظاهرت بالتّعرّض لنوبات هستيرية. وعادت إلى ذات الرماد، تُضمر أعراض أمراض يصعب الكشف عنها: انكسار النفس، الخوف، انعدام الثقة بالغير، احتقار الذات .. وأشدّها استفحالا الحقد.

تمكّن منها الحقد على خالها بشكل جعل أغلب المُعَزين يوم موته يتهامسون بأنها تتصنّع الحزن عليه لتتجنب ثورة أولاده عليها. لكن ولو تسنى لهم الاطلاع على داخلها لكانوا أدركوا أن حزنها كان حقيقيا وبالغا، وأن الدّمع الذي ذرفته على قبره مع بقية القريبات يوم “فراق القبر”، وهو اليوم الثالث من دفنه، كان أيضا حقيقيا.

 بكت خيبة آمالها فيه كخال، ويُتمها بالحياة، وطفولتها المُقبرة، وشبابها المُكبّل بانتكاسات الماضي، وآمالها المتفحّمة.. بكت فيه كل جثث حياتها، وودّت لو تقول له مثلما كانت تُردّد قيْد حياته: “ربي وكيلك! لن أسامحك لا دنيا ولا آخرة” فلم تحضرها كلمة للعن أو الترحّم.

أعجزها الألم ووقعت في مأزق تصنيف أحاسيسها، منظر القبر أثار فيها نزعة التّسامح، لكنّ الجُثّة التي استخرجها لها أطبقت على شعورها بالحزن عليه، أحاط بها مُسوخ زواجها السّابق. وجرجروا أمام ناظريها سعادتها مُشوّهة ومنكّل بها، فتلهّت برثاء نفسها.

 فلم تتعدى سن السادسة عشر عندما اضطرت إلى وضع مساحيق تُزيّن وجهها، بإبراز تقاطيعه، وتُقَبح داخلها، بإتقان النّفاق، لبست فستان الزّفاف، كالعادة، تحت وطأة تهديدات أمّها بعقاب خالها.

 لم يكن العرس الذي حلمت به، ولا الزوج الذي تمنّته، ولا المحتوم الذي يمكن أن يطوي المرغوب، تهاوت بناءات ذرائع العقل مجرد أن وجدت نفسها في خُلوة مع زوج في بداية الشيخوخة، وفي ذروة الجفاء والوقاحة.

–  ماتت ناقصة عمر، قالت إحدى بناته وهي تستل الدموع من على خدّيها، بعد كل ما فعلته لأجلك استبدلتها بفتاة في سن حفيدتك قبل أن تجفّ تربة قبرها.

-هذه اللقيطة لن تأخذ مكان أمي ما دمت حيَّا، عليها(امباصي)[2]. صرخ أحد أبنائه الشباب وعيناه تطفحان دمعا وشرارا.

  شعرت بالانقباض والخوف من تهديداتهم التي تهيئ لها معارك لا يد لها فيها، ومن طبعه البارد اللامبالي وهو يجتاز نظرات أولاده الثمانية ويزمجر في وجوههم الحزينة بشتائم جعلتهم يتسلّلون إلى غرفهم كجرذان مذعورة:

-اولاد الحرام ! اتفوه! رائحة نتنة! من لم يعجبه فليغادر! أو ليلحق بحضن أمه! سأريكم!

 أشار إليها برأسه بأن تدخل غرفتها، وأغلق باب الطابق العلوي ثم لحق بها وكأنّ شيء لم يكن، ألقى بمعطفه على الكرسي ونظر إليها نظرة طويلة خالية من أي معنى أحست بأنه يراجع بها حساباته في المرة الأولى التي يراها فيها. ا

 اقترب منها دون أن ينبس ببنت شفة، وأمسك بيديها ورفعها نحوه، ولفّ أذرعه حول خصرها بغتة وضغطه بين يديه بإفلاس حضاري، ككلاّب يقطع أسلاك فولاذية لمرات. وبعدها أطلقهما وكأنه يفصل دارة كهربائية. نطّ بعدها بهما إلى شقّها العُلوي، فكشف عن نهديها المكوّزين ببداية تفتّحهما بضراوة لا تتناسب مع ملامحه المتخابية، بفوضوية جرّافة تعبث بأنقاض بناية، دون أن يراعي استماتتها في إخفائهما باستحياء.

   انقضّ عليها ككاسر يظفر بطريدة بعد موسم اصطياد شحّيح، لم يترك قطعة في جسدها لم يطلها، بما يصلح وما لا يصلح. وكأنه يعبث بدمية من خرق، يلاعب بها مزاجه كما يحلو له! أشعرها الموقف بإذلال هازم، وجعلها تتمنّى لو كانت في مكان “صليحة”، تحفر قبرا ينشغل الغير بهواية نبشه بدل أن تُدفن في سرير تحترف ملأه بالجثث.

خلّفت فيها تلك التجربة جرحا مقيّحا تنبعث منه رائحة أكوام من الجثث المدفونة في عمقه، أرادت أن تزيلها بعطر الحب لكن “رحيم” أعادها لحكايتها مع السّكّين، شرّح آمالها وتركها خِرقا متناثرة، فلا هي أفلحت في تجسيم تمثال قناعاتها، ولا أفلحت في تقليد مُجسّمات غيرها.. حتى وهي تلبس عباءة “صليحة” وتغامر بكل شيء لأجل الحب، لم تجد الحبيب الذي يطير بـها بعيدا!

كل ما فعلته لتظفر بقلبه لم يفلح في إقناعه بأنه الرّجل الوحيد الذي تنازلت له، وأنها كانت تتألّم لأجله وتتأذى من التّيهان في دوّامة التّنازل المُبتذل والعُري لأجل العُري، ففي كلا التّجربتين وجدت نفسها تُواري جُرحها بجُثث آمالها، سواء تعرّت لأجل أن تدفن ما اعتبره خالها عُريها أو تعرّت لأجل أن تدفن خيباتها السّابقة.

  ولو أنّ علاقتها بـ”رحيم” كانت تأخذ نصيبها الأكبر من توابيت الأعذار، فيُلازمها النّدم على تراخيها وتخلّيها عن الحذر اللّازم مع رجل هوائي وكثير العلاقات مثله، يصعب أن يصدق أنّها كانت تتعرّى بهدف التَّكَسّي بحُبِّه بعدما توفّر لوساوسه أدلّة تُدينها (انسحاق بكارتها، بذل نفسها له، صبرها على إهاناته..).

    ازداد وقع سياط الندم شدة بزواجه بغيرها، النّدامة عادة لا تسبق، لكنها كانت تسبق في علاقتها به فيُلهيها عنها ظمأها للسّعادة، ويدفعها نحو طريق تدرك بينها وبين نفسها أنه شائك مسدود، يطمر القلب بجرّافة الجسد، ويعيدها في كل مرة إلى فكرة أنه كان يمكن أن يبذل لها قلبه لو أحسنت التّكسي بعباءة ظاهرها خشن مانع وداخلها مخشخش نفوذ.

“هل اقترن براهبة؟!”

    تتساءل ثم تردف بمرارة:

 “الرّهبنة أصبحت صنعة المرأة ومِصْيَدة الرَّجُل!”

     تمنت مرّات لو يقف عند ما قاله أنيس منصور في كتابه “في صالون العقاد..” لعلّه يدرك أنه لم ينصفها حين جعل جسدها قبرا لقلبها.، فقد ذكر أن المسؤولين عن بعض الأديرة في مصر كانوا يدارون فضيحة الرّاهبات اللّواتي يظهر عليهن الحمل بإرسالهن إلى روما لحين أن يلدن، وأنّ الشابّ منهم كان في ذلك الوقت يُعاكس إحداهن بقولهم: “يا أخت. هل تُحبّين الذهاب إلى روما؟”

   أمّلتها النكتة في أن يحكم عليها بقلبه، وينتبه لكونه قد يبني صرح راحته على ورَع راهبة افتكّها وهم حذاقته من الدّير لأنه يجهل ما فعلت بها روما.

                                               ***

     أغلق “رحيم” باب المكتب ووقف خلفه برهة يترصّد حركات “سامية” ليقدّر المسافة التي تفصلها عنهما، ظنّها تتوق، كالعادة، لسماع جديدهما بعد أيام من الغياب، امتلأت بالمزيد من المرارة، قدّم لها ظلّ حذائه المنفلت من تحت الباب دليلا آخر على أنه لم يعرفها يوما، وإلاّ لكان أدرك أن كلماته آخر ما أصبح يعنيها.

      لا شيء تُضيفه لوعيها المُثقل بالنّدم، والحسرة.. والخجل الكريه، عدا المزيد من الإهانة، خاصة بعد أن استمر في علاقته معها لغاية آخر أسبوع من عزوبته، وأمدّها بالدّليل القاطع على كونها أحبّت من يخلو قلبه تّجاهها إلاّ من أمنيات ذئبية، يُجرجرها لأجلها من عُرقوب أحلامها، ويجعلها تنزلق من القِمّة وترتطم بالقاع،  وبأنه لو كان يُكِنُّ لها شيء من المودّة لكان انتبه ليأسها القاتل وعذابها المُر.

   طفح رماد الجدائل وعادت تسُفّه مع الهواء، ندمت لأنها احتفظت به في جذع اللبلاب بدل قلبها الذي تزوبعت عليها شظاياه، فلا تكاد مُخيّلتها ترتاح من صورة يده وهي تتغلغل في شعرها اللّيلي المُنسرح فوق خدين يحمرّان رضا بإطراءاته، وخجلا ممّا تجعله ينفرد به، كان يتملّص من موضوع الزّواج، ورغم ذلك تلجأ لمُسكِّنات “لعلّ” و”عسى” وتستمرُّ في تقفّي رائحة وعوده المائعة بتراخ يُقوّي اعتقاده بأنها لا تصلح له زوجة.

– أمن الضروري أن تُطلق العنان لتعليقاتك الساذجة أمام سامية؟! بادره رحيم ناهرا.

– آسف يا صاحب القلب الحنون! نبّهه جمال باستهزاء، أتعنيك مشاعر عجلة الاحتياط ؟!

– لم أعدها بشيء، لم أستثر أحلامها لتستثيرني كوابيسها، المرأة في أمور القلب تتصرف مثل تلك المخابر العلمية التي تفتعل الداء وتنشره لأجل أن تُسوّق الدّواء.

مسح بكفه على جبهته وكأنه يستدرك أمرا هاما:

ـ من ينصحني! الملاك جمال! يوسف زمانه!

      ابتسم “جمال” بلُطف مهادن، لم يكن مستعدا لأن يستحضر له حياة العزوبة التي باتت تُقلق والديه، خاصة بعد أن تزوج “رحيم” صديقه الحميم الّذي يصغره بأربع سنوات، وفقد آخر الحُجج بعد أن أتم أدقّ تفاصيل بناء منزله وتجهيزه.

    أصبح همّهما إقناعه بأمر الزواج، باستعمال جميع ما يُتاح لهما من وسائل (ترشيح الفتيات وترغيبه في فضائلهن، استعطافه برغبتهما في رؤية أولاده قبل مغادرة الحياة، إحراجه بأنّه ضائع وراء نظراته الزّائغة، ترهيبه من فكرة أن يُشكّك النّاس في فحولته، الاستعانة بوساطة الأقارب والأحباب..اللّجوء للرّقاة و”الطُّلبة”)[3].

    وفي كل مرّة كان يقف منتصبا ببنيته الفارعة، ويمرر يده على وجهه الحليق بعناية تُنبِّهُ لاستماتته في أن يكون جذابا، وشاربيه الأملسين الذين يميل لونهما البني إلى السواد، ويبتسم ابتسامة جوفاء يتبعها مُزاح مراوغ: ” من قال أننّي لست متزوجا؟” ثم ينسحب متحجّجا بموعد أو عمل قبل أن تدلق عليه هذه الدُّعابة، التي يعتبرها والديه إيحاء وقحا للعلاقات الحميميّة، دلاء من التّوبيخات.

   ولم تكن تلك العبارة في الحقيقة تستقر في ذهنه كدعابة،  لأنه بدوره وصل إلى مرحلة الخوف من العزوبة، فرغم ما كان يحيط به من حبيبات، لم يكن يجد زوجته، ورغم كمّ المرشّحات للزّواج، لم يكن يجد حبيبته.

    كان الفراغ يقف حائلا بينه وبينهن، يملأه القلق والخوف من الآتي، لدرجة أن كان يخلو إلى نفسه أحيانا ويرثي حاجته للاستقرار وجوّ العائلة بدموع تنساب على وجهه كأمطار الأعاصير.

– ماذا هناك؟ سأله رحيم حين انتبه لإيماءاته المتضاربة بين التّنبيه والإخبار.

   افتكّ السيجارة من بين شفتيه الفاقعتين اللتين تغطّيان على دكانة بشرته الحنطية الضّاربة إلى البياض، وأشار بها إلى حيث كانت تجلس “سامية”.

    ردّ لـ”رحيم” دُعابته ونبّهه إلى ملفّ عزوبة غير مقفل، فابتسم رحيم متجاوزا وأوصل له بخدّه إيماءة تدعوه إلى الخروج معه.

………………….

*فصل مقتطف من رواية “ذاكرة هجرتها الألوان”.. صدرت عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية-موفم للنشر والتوزيع-الجزائر 2016

[1] Dispenséés

[2] عامية جزائرية(أسبل نفسي وأضحي بها)

[3]  مجموعة من حفظة القرآن الذين يتم استقدامهم ليلة دفن الميت لقراءة القرآن عليه، ولا يتم الاتفاق معهم غالبا على مقابل لكن جرت العادة على إعطائهم أجرا يدفعه أهل الميت وفق المعتاد والاستطاعة، ويكرمون وفادتهم.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون