ثرثرة بين يدي كتاب: يونس في أحشاء الحوت.. نموذجاً للكتابة الرايقة

ثرثرة بين يدي كتاب: يونس في أحشاء الحوت.. نموذجاً للكتابة الرايقة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بلال فضل

وإن سألوك عن تعريفك لمعنى الكتاب الجميل، فقل هو ذلك الكتاب الذي تزعل عندما ينتهي، وتتمنى لو طال وقت صحبتك له، وتبدأ فور الإنتهاء منه في البحث عن أعمال سابقة أو لاحقة لم تكن قد قرأتها لكاتبه، وتلك كلها مواصفات تنطبق على مجموعة ياسر عبد اللطيف (يونس في أحشاء الحوت) الصادرة عن الكتب خان والحاصلة على جائزة ساويرس كأحسن مجموعة قصصية فرع كبار الكتاب.

 الكلام عن الكتابة الحلوة يفسد أحيانا حلاوة الإستمتاع بها، ولأنني أرجو ألا أفعل ذلك في هذه الثرثرة، سأستأذنكم أن أرجئ الحديث عن قصص ياسر الجميلة، لنتحدث في مسألة مزعجة بالنسبة لي، هي حكاية توصيف (كبار الكتاب) التي بدت لي مقبضة ومنفرة، ليس فقط لياسر عبد اللطيف كما أتوقع، بل حتى لي أنا الذي أعرف ياسر منذ زمن بعيد، ومع أنني أصغره بخمس سنين، إلا أنني شعرت بالإنزعاج لأن الناس تتعامل مع صديق من دوري على أنه من (كبار الكتاب)، بالطبع يعود الإنزعاج إلى أن الوصف لا يطلق هنا لتفخيم الكتابة بل للإشارة إلى تقدم الكاتب في السن وتجاوزه الأربعين ـ لاحظ أن كلامك جارح ـ.

كثير من مهرجانات السينما تجاوزت هذا “التريبّ” بتقديم جائزة العمل الأول التي تمنح لأول وثاني عمل ينجزه المخرج، أما الجوائز الأدبية فهي إما تتخصص في دعم الكتاب الشباب، أو تتيح للكتاب أيا كان سنهم أن يتنافسوا على جوائزها، لأن الكتابة الكبيرة ليس لها سن، إلا إذا كانت الجائزة تهدف لإسعاد الكاتب وتذكيره بمضي قطار العمر، وهو هدف ينبغي أن يكون موجودا في لائحتها على الأقل، قد تبدو هذه مسألة هامشية لكنها ستبدو مفهومة ومقدرة لمن بدأوا الكتابة مثلي ومثل ياسر عبد اللطيف في تسعينات القرن الماضي، حين عاصرنا الأيام التي كان يحمل فيها كل من جمال الغيطاني ويوسف القعيد وابراهيم عبد المجيد لقب (الكاتب الشاب)، ليس تقليلا من شأنهم، بل لأن ذلك كان التوصيف الطبيعي في ظل وجود نجيب محفوظ ويحيى حقي وزكي نجيب محمود رحمهم الله وجزاهم عنا خير الجزاء، وفي ظل وجود ثروت أباظة الله يرحمه بقى.

على أية حال، تبقى للجائزة بهجتها، ويبقى على أصدقاء ياسر عبد اللطيف أن يلعبوا دورا فوريا في إزالة آثار توصيف (كبار الكتاب) لكي لا يتسرب إلى ياسر منه وقار يفسد بهجة كتابته. في الحقيقة، لا أعد نفسي من أصدقاء ياسر المقربين، التقينا مرة وحيدة في عيد ميلاد عمنا علاء الديب، ولاحظت يومها أنه يعاملني بجفاء حاول إخفاءه، ولم أفهم سبب ذلك الجفاء الذي فشل بمنتهى اللطف في إخفائه، إلا عندما تذكرت بعد ساعة من مضي القعدة أنني كنت قد ارتكبت حماقة قديمة بمهاجمته هو وإيمان مرسال وهدى حسين وهشام قشطة ومي التلمساني بسبب حوار قاموا بإجرائه مع مجلة فرنسية، وكنت أيامها لا زلت أعتقد أنني أحد حملة لواء الدفاع عن الوطنية والعروبة والأشياء التي من هذا القبيل، بالطبع منعني الكبرياء يومها من الإعتذار له، لكن لطف عم علاء الديب سرى بيننا فخرجنا من القعدة بأقل قدر ممكن من الجفاء، عرفت يومها أن ياسر سافر إلى كندا واتخذها سكنا مؤقتا له، بعد ذلك اللقاء “تفاسبكنا” إن صح التعبير، ومع أن ياسر ليس من الذين يفرطون في الكتابة على الفيس بوك، إلا أنني أصبحت أنتظر كل ليلة ـ في سهرتي الفيسبوكية التي ترافق بداية فترة المساء والسهرة لدى ياسر المقيم في كندا ـ ما “يشيره” ياسر لأصدقائه من أغاني، لزوم نكش الحنين ودحرجة التماسي والمداواة بالتي كانت هي الداء.

بنسبة تفوق نسبة الذين قالوا نعم في الإستفتاء الأخير، لا يخيب ياسر ظني أبدا في اختياراته الغنائية الرائعة، تماما كما لم يخيب ظني في قصص مجموعته العشرة التي أعجبتني جميعا، وهو أمر لم يحدث لي منذ قراءة مجموعة محمد فاروق الرائعة (سينما قصر النيل) التي سبقت إلى الفوز بجائزة ساويرس. (تقتضي الثرثرة الإشارة إلى مجموعات قصصية جميلة قرأتها في الفترة الأخيرة مثل وكان فرعون طيبا لحسن كمال وقميص هاواي لإيهاب عبد الحميد وسبع محاولات للخروج فوق السور لوجدي الكومي ولوح رخام أبيض لتسنيم فهيد وفي مواجهة شون كونري لأحمد عبد المنعم رمضان وكلها مجموعات تختلف في تواريخ صدورها وأسلوب كتابتها لكنها تشترك بنسب متفاوتة في منحك أوقاتا جميلة بصحبتها).

عندما أكتب عن كتاب أحبه، سواء كان ذلك في إطار الثرثرة، أو في إطار الكتابة المنضبطة، لا يكون لدي هدف سوى أن أنصح القارئ بسرعة اقتناء الكتاب وقراءته لأنه ببساطة “هينبسط جدا”، وهذا بالضبط ما أريد أن أقوله عن مجموعة ياسر القصصية، لكن لأنني كقارئ لا أثق في الكتاب الذين يمدحون كتب أصدقائهم حتى لو أكدوا لي أنها صداقة فسبوكية، كما أنني أيضا يتملكني دائما شعور أن الكاتب الذي يمدح كتابا دون الحديث عنه بالتفصيل، بالتأكيد لم يقرأه أو قرأ بعضه، لذلك سأحاول أن أحدثك عن مجموعة (يونس في أحشاء الحوت) دون أن أحرقها لك، لأنها أصلا تبلغ بالكاد مائة صفحة، وسيكون حرق بعض هذه الصفحات لك أمرا يقلل استمتاعك بثمن الكتاب، وهو كتاب ثمنه فيه وزيادة على أية حال.

لا أدري إذا كنت قد قلت لك من قبل أن المنهج النقدي الأكثر إقناعا بالنسبة لي يتعلق بالنقد الذي تدفعه ثمنا للكتاب، وما إذا كنت ستشعر بعد قراءة الكتاب أنه “جاب” ثمنه بالنسبة لك كقارئ أم لا؟، طيب آديني قلت لك الآن، لكن المشكلة أنني لا أستطيع أن أطبق هذا المنهج النقدي على مجموعة ياسر القصصية لأنني حصلت عليه كهدية، لكنني سأفترض أنك تصدقني، وسأدعوك لأن تفترض أنني اشتريته، وعندها سأقول لك أننا لو طبقنا هذا المنهج النقدي على مجموعة ياسر فإن بها قصتين اسمهما (أمثولة الكلب الأبيض) و(أروى على الهواء) ستجعلانك تشعر مستريحا بأن الكتاب جاب ثمنه لأنهما قصتان مفعمتان بالإمتاع والمؤانسة على راي عمنا أبي حيان التوحيدي، لدرجة أنني سأموت وأحكيهما لك الآن، لكنني قررت أن أعمل بنصيحة “شيف” شاهدته على قناة “فود” يقول أنه يتعجب من قيام بعض مقدمي برامج الطبخ بتذوق الأطباق التي يعدونها على الهواء، معتبرا أن استباق المشاهد إلى تذوق الطبخة قلة ذوق لا تليق أبدا، وهو قرار لا ألتزم به في حالة الروايات التي يكون من الجميل أحيانا أن يتذوق القارئ معك بعضا منها، على أن تختار منها ما لا يكون سببا في تنفير القارئ بعيدا عنها، وبما أننا نتحدث عن التذوق يمكن أن أعطيك من إحدى القصص “قطمة” سأتخذها شعارا كلما سافرت خارج مصر وأصر أصدقائي على مجاملتي بدعوتي لطعمية “زي بتاعة مصر تمام”، لأرد عليهم حينها بمقولة بطل قصة ياسر الجميلة: “كل طعمية لم تُقل في زيت السيارات لا يُعوّل عليها”.  

قد تكون قصتا (أروى على الهواء) و(أمثولة الكلب الأبيض) الأكثر امتاعا في مجموعة ياسر، لكنني أعتقد أنك ستتوقف بإعجاب أكثر أمام قصة (يونس في أحشاء الحوت) التي أحسن ياسر اختيارها لتكون فاترينة لمجموعته، كم هو جميل أن يقوم كاتب بتحويل رحلة عادية داخل مول تجاري إلى قصة رائعة يتصاعد إيقاعها مع كل سطر حتى تصل بك إلى نهاية مدهشة. في قصتين أخريتين هما (في مدينة التلال والنهرين) و (ترتيب الأرفف) يلعب ياسر ببراعة نفس لعبة تحويل الحدث العادي إلى حدث “طِعِم” يغريك بالقراءة، وهو أمر ليس سهلا على من ارتبطت القصة القصيرة في وجدانهم بمفارقات يوسف إدريس المدوخة، وبما أن هذه ليست سوى ثرثرة كما اتفقنا، دعني أقل لك أن من أسباب استمتاعي بقصص ياسر عبد اللطيف أنها ذكرتني بكثير من قصص يحيى حقي العظيم التي لم تأخذ حقها من الإنصاف لاهي ولا كاتبها للأسف، لأنها لم تكن تعتمد دائما على فكرة المفارقة التي تترك القارئ منبهرا بقفلة القصة وسارحا في مغزاها، بقدر ما كانت تقدم حالة فنية تسرح حلاوتها في وجدان القارئ براحتها وراحته.

لعبة مختلفة وشديدة الجمال يقوم بها ياسر في قصتين هما (أربع دراسات لضوء النهار) و(لقاءات قريبة من النوع الرابع)، حيث تتكون القصة من مقاطع منفصلة تشد من أزر بعضها البعض لتمنحك في نهاية القصة الأولى حالة جميلة غامضة، وتمنحك في نهاية القصة الثانية حالة مبهجة مشبعة لكنها في نفس الوقت تجعلك تقول “مش لو كان عملها رواية كانت تبقى حلوة”.

في مجموعته القصصية القصيرة المكيرة لا يبدو ياسر عبد اللطيف راغبا في أن يقول كلاما كبيرا عن الكون والمجتمع والناس، ولذلك ستبقى مجموعته طويلا معك بعد أن تنتهي، وستجعلك إذا كنت تحب كتابة القصص تفكر أن لديك قصص لطيفة كثيرة يمكن أن يحبها الناس إذا حكيتها ببراعة لا حزق فيها، دون أن تكون مشغولا بشيئ سوى أن تستمتع وأنت تكتب، لكي يستمتع القارئ وهو يقرأ ويزعل على فراقك بعد أن ينتهي، ويشعر أن كتابك جاب ثمنه وزيادة، ويبحث عن كتب أخرى لك، وهو أمر لو تعلمون عظيم.    

عودة إلى الملف

 

 

مقالات من نفس القسم