تواصل الأجيال في الأدب المصري الحديث.. مي التلمساني كنموذج

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

بهاء طاهر

أود أن أقدم لمن لا يعرف الأدب المصري الجديد لمحة سريعة للغاية عن تطور هذا الأدب لأصل إلى تقديم كاتبة رائعة تمثل أحدث حلقات هذا التطور, ويسعدني أن أكون معها في هذا المهرجان(*) وهي الكاتبة مي التلمساني. وأستشهد في هذه الكلمة الموجزة بأسماء لكتاب معظمهم تمت ترجمة أعمالهم إلى لغات أوروبية وأجنبية لمن يهمه الاطلاع على هذه الأعمال. وهناك بالطبع كتاب رائعون لم تعرف أعمالهم طريقها إلى الترجمة ولكن هذه مسألة أخرى.

ارتبط تطور الأدب المصري مثل أي أدب آخر بالظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها مصر في العصر الحديث, ولكيلا نذهب بعيدا في التاريخ فيكفي ان نشير إلى سنوات الأربعينات والخمسينات وهي السنوات التي كانت مصر تحارب فيها بالمقاومة المسلحة وغير المسلحة الاحتلال الإنجليزي وفساد النظام الملكي الإقطاعي الذي كان الملك فاروق رمزا لكل انحلاله, وكان من الطبيعي أن يزدهر في هذه الفترة الأدب الواقعي, أو أدب الواقعية الاشتراكية بسماته المصرية الخاصة فظهرت روايات مثل »القاهرة الجديدة«, و»بداية ونهاية« و»زقاق المدق« لكاتب شاب هو نجيب محفوظ الذي سيحصل بعد نصف قرن تقريبا على جائزة نوبل, ورواية »الأر« لعبدالرحمن الشرقاوي التي جسدها يوسف شاهين في أفضل أفلامه من وجهة نظري, ومجموعة القصص القصيرة »أرخص ليالي« ورواية »حكاية حب« لواحد من أنبغ كتاب مصر وأحبهم إلى قلوب قرائها وهو يوسف ادريس. وفي هذه الأعمال وغيرها كانت تتمثل بدرجة أو بأخرى سمات المنهج أي الاهتمام بالمؤثرات الاجتماعية والاقتصادية في تكوين الشخصيات, وفي سلوكها والوصف الدقيق للبيئة الاجتماعية التي يتحرك الأشخاص في نطاقها, والتي تساهم في صنعهم بقدر ما يساهم الأبطال الايجابيون في صنعها وإعادة تكوينها, واللغة الوصفية المحددة والواضحة الدلالة, والرسالة التبشيرية التي لا تخفى على القارئ أي أن الصراع الذي يخوضه هؤلاء الأبطال ضد القوى الأجنبية والاستعمارية وضد الاستبداد الداخلي والاقطاعي سينتهي رغم قسوته بهزيمة كل ذلك الشر وتحرر الوطن والإنسان.

وكان هذا الأدب الواقعي نقلة جديدة في مسار الأدب المصري واستجابة طبيعية للمرحلة التي ظهر فيها, وقد ساهم الأدب في تكوين وجدان الأمة ووعيها وفي التمهيد للتغيرات الثورية التي عرفها المجتمع المصري مع ثورة 1952نت هناك انتصارات كبيرة تبرر التفاؤل السائد في الأدب الواقعي, فقد تحررت مصر من الاحتلال الانجليزي وتحققت درجات مختلفة من العدالة الاجتماعية في الريف بتوزيع أراض على الفلاحين, وفي المدينة بتحسين ظروف المعيشة للعمال وللطبقة الوسطى وأصبح التعليم لأول مرة مجانيا ومتاحا للجنسين ولم يعد مقصورا على الأغنياء, غير أن فترة التغيرات الثورية الكبيرة انتهت بحلول الستينات وتحولت الثورة إلى نظام حاكم له ايجابياته التي يشعر بها الجميع في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وله سلبياته المتمثلة أساسا في افتقاد الديمقراطية والحريات الفردية, وتعرض الكتاب والمواطنون في جملتهم لنوع من الحيرة والتمزق في هذه الظروف الجديدة, ما بين التأييد الكبير لجانب من الحكم والرفض الكامل لجانب آخر منه وانعكس ذلك على الأدب.

لم يعد الأدب الواقعي الذي يبشر بحتمية التقدم وبانتصار الإنسان منطقيا ولا واقعيا في هذه الظروف الجديدة, وبدأت تظهر دون اتفاق مسبق أعمال او حركة أدبية جديدة, ووصفت فيما بعد بحركة أدب الستينات. وبرز في هذه الأعمال تفكك البناء المنظم الذي أرسته المدرسة الواقعية فلم يعد للقصص بداية ووسط ونهاية بشكل محدد, ولم تعد البيئة هي البيئة الواضحة التي يخوض البطل صراعا في نطاقها ويغيرها بفعله الإيجابي فتداخلت الأزمنة والأمكنة في القصة الواحدة وأحيانا في المشهد الواحد من القصة. وفي مقابل البطل الواقعي الإيجابي الذي يحمل رايات الثورة الظافرة ظهر ما يوصف بـ»لبطل الضد« أو»البطل المهزوم« وكان الوصف الدقيق للأشياء والجزئيات غير المترابطة يعبر بدقة عن عالم نفسي فقد التماسك والترابط في مقابل عالم خارجي شديد الرسوخ والتحديد.

وظهرت هذه السمات كما قلت بصورة تلقائية في كتابات الجيل الذي تلا كتاب الواقعية الكبار, ولكن وجه الشبه بين هؤلاء الكتاب الجدد ينتهي عند هذا الحد ويظل ابداع كل واحد منهم خارجا عن نطاق الأطر واللافتات الجاهزة.

غير أن أبرز سمة مشتركة في أعمال هذه الحركة الأدبية بطبيعة الحال أنها كانت كلها صيحة احتجاج وتمرد, إذ كانت كتابتها دعوة غير مباشرة للتغيير لأنها تقول بكل وضوح أن هناك صدعا في الدولة.. وصدعا في الروح, وسأسمح لنفسي هنا باقتباس فقرة من مقال لناقد مصري بارز هو الدكتور صبري حافظ يعلق فيها على مجموعتي القصصية الأولى »الخطوبة« التي كتبتها في هذه الفترة (ما أن تقرأ قصص هذه المجموعة دفعة واحدة حتى تتساءل: أي عالم غريب هذا?) إذ أن القصص كلها تقدم لك تفاصيل عالم كابوسي مفزع إلى أقصى حد وتقدمه بلغة عادية إلى أقصى حد أيضا وكأنما ليس فيها مايثير الدهشة أو ما يدعو إلى الاستغراب اذ استحالت هذه الغرابة بفضل معالجة الكاتب لها إلى نوع من الغرابة الحميمة التي يألفها الجميع«.

بعبارة أخرى كانت هذه الكتابة دعوة إلى نقلة جديدة في فهم الحرية- من الاستقلال وتحرر الوطن إلى حرية الفرد باعتبارها الغاية الحقيقية لكل الحريات الأخرى.

ومن كتاب هذا الجيل او بمعنى أصح هذه الحركة الذين أعرف أن أعمالهم ترجمت إلى لغات كثيرة ادوارد الخراط وصنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وجميل عطية إبراهيم ومحمد البساطي وإبراهيم أصلان وخيري شلبي وإبراهيم عبدالمجيد والكاتبتان رضوى عاشور وسلوى بكر والراحلان يحيى الطاهر عبدالله وعبدالحكيم قاسم.

ويستمر كتاب هذه الحركة في تقديم أعمال تنعكس عليها بالضرورة التغيرات السياسية الهائلة التي حدثت في مصر خلال الأعوام الثلاثين الماضية, ولكن جيلا جديدا قد ظهر في الأدب المصري نسبه النقاد إلى العقد الأخير من القرن الماضي, حيث عرف بجيل التسعينات وإلى هذا الجيل تنتسب الكاتبة المبدعة مي التلمساني.

وأريد قبل الحديث عنها وعن جيلها أن أشير إلى ظاهرة لا أكاد أستطيع الصبر على الاشارة اليها. فقد عرف الأدب المصري وجود الكاتبات في جميع أجياله ولكن نسبتهن إلى الكتاب الرجال ظلت دائما هامشية ومحدودة. غير أن الكاتبات في الجيل الجديد يشكلن عددا موازيا تقريبا لعدد الكتاب الشبان. ففي أول دراسة مطولة عن هذا الجيل كتبها الناقد د. صبري حافظ يدرس حوالي عشرين كاتبا, نصفهم بالضبط من الكاتبات. وهن بالإضافة إلى ذلك من ألمع كتاب الجيل وأكثرهم شهرة. وهذه الطفرة الابداعية للكاتبات تمثل في نظري ملمحا بالغ الأهمية في كتابات الجيل الجديد وهو التمرد على كل الأوضاع السائدة في المجتمع الذي يهمش المرأة (والرجل أيضا) والخاصية الأساسية التي يخرج بها القارئ لأعمال هذا الجيل هي أنه جيل الرفض المطلق لكل المواضعات السابقة عليه.

ويوضح د. صبري حافظ في دراسته الظروف البالغة القسوة التي يعيشها هذا الجيل من انتشار البطالة بين صفوف المتعلمين وغير المتعلمين على السواء, وسياسة الانفتاح الاقتصادي العشوائية التي أدت إلى تدهور مستوى معيشة الطبقات الوسطى والفقيرة, والانفجار السكاني وما صاحبه من تفاقم أزمة الاسكان واكتظاظ البيوت القائمة بساكنيها وإقامة المساكن العشوائية التي شوهت تركيب المدينة القديمة وخلقت ما أسماه »بالمدينة الثالثة« التي تفتقر إلى أدنى شروط المعيشة الإنسانية لافتقارها إلى كل أنواع الخدمات, وتطبيق العولمة بطريقة تعني فقدان الاستقلال الوطني والتبعية من جديد لمراكز القوى الأجنبية- وهذه العوامل مجتمعة أدت في نظر الناقد إلى ظهور ذلك الأدب الرافض لكل شيء وإلى حدوث قطيعة كاملة بينه وبين الماضي او بين الأدب السابق عليه, وسأعود الى تعليق قصير على هذا الرأي بعد قليل.

قرأت لمي التلمساني ثلاثة أعمال هي ؛نحت متكرر« (مجموعة قصصية) وروايتي (دنيا زاد) و(هليوبوليس) واعترف ان مجموعتها القصصية الأولى قد صدمتني, فليس هذا هو فن القصة القصيرة كما أعرفه, فهي تتجاوز في هذه المجموعة ما تحرر منه كتاب جيل الستينات على نحو ما ذكرت من قبل, إذ يصل تداخل الأزمنة والأمكنة والحلم والواقع وتيار الوعي الشعري والحوار الواقعي الخشن.. يصل ذلك كله إلى أبعاد غير مسبوقة تشبه في بعض الأحيان لقطات سريعة التتابع, وفي أحيان أخرى مشاهد ولقطات مكبرة CLOSS UP تتمهل الكاتبة فيها عند أصغر تفصيلات المشهد.

 (إذا ما استخدمنا لغة السينما التي تحبها مي التلمساني والتي تعد عنها رسالتها للدكتوراة) وأذكر بكل أسف أنني قلت لمي حين سألتني عن رأيي في مجموعتها انها لم تعجبني, وقعت في نفس الغلطة التي وقع فيها من هاجموا كتابة جيلنا حين بدأنا الكتابة, كنت أريد أن اقرأ فقط ما تعودت عليه, وكان ينبغي أن يمر بعض الوقت لأتمكن من تذوق جماليات هذه الكتابة الجديدة, وساعدتني مي على ذلك بكتابها الثاني البديع »دنيا زاد« الذي يتناول تجربة مؤلمة وفريدة هي تجربة فقد أم لطفلتها التي تولد ميتة- وأقول تتناول ولا أقول تحكي. فليس في القصة أي نوع من التتابع الزمني, فهذه الطفلة تعيش بعد موتها وتحتفل أمها بمرور ثلاثة أسابيع مفترضة على مولدها وهي تظهر في نهاية القصة جنينا تتحدث اليه الأم, وتتشكل علاقة ثلاثية بين الأم وبين الابنة وشقيقها الطفل وذلك دون أدنى نبرة من التهدج العاطفي او السنتمتالية ولهذا فهو يصبح موجعا أكثر. ولكن هناك منطقا في السرد يتحقق كما يقول صبري حافظ من خلال التجاور لا التتابع وفقد الابنة يستدعي فقد البيت الجميل الذي كانت الراوية/ الكاتبة تحبه والذي بيع رغم ذلك ولا يتجاور استرجاع البيع من فقد الابنة, بل مع استعادتها في ذاكرة الأم. وهذا النوع من التناقض وتجاور أحلام اليقظة مع ذكريات الماضي من التقنيات التي ستع ود مي التلمساني قراءها على تقبلها بحيث يصبح القارئ شريكا في عملية إعادة تكوين الزمن الروائي وشريكا في تكوين معنى العمل.

والفقد والاسترجاع هما أيضا موضوع رواية مي التلمساني الأخرى الجميلة »هليوبوليس«. والبطل في هذه الرواية هو المكان الذي ولدت فيه الراوية- ذلك الحي القاهري الذي أسسه في مطلع القرن مستثمر بلجيكي هو البارون امبان وهي تنتمي من حيث النوع إلى روايات المكان مثل رواية شتاينبك Cannery Row أو رواية نجيب محفوظ ؛زقاق المدق« ولكن بينما تمثل علاقة الشخصيات بالمكان محور هذين العملية فان تفاصيل المكان هي التي تحتل الصدارة في رواية مي. البطل ليس الشارع كما عند شتاينبك ولا الحي كما عند محفوظ وانما البطل أو الأبطال هي الجزئيات الحميمة عبر تفتيت المكان ان جاز التعبير, المساكن داخل العمارات, والغرف داخل المساكن, والأثاث داخل الغرف, والشرفات خارجها, وحنيات السلم, والمقاعد, وفرش المقاعد, ليس المكان هنا ديكورا ولا خلفية للأحداث ولا حتى بيئة تصنع الأشخاص ولكنه هو الحدث الأساسي, وفقد جدة البطلة المسماة شوكت لا يتجسد بالحديث عن تفاصيل موتها وإنما بفراغ المكان- أي بوجود المقعد الذي اعتادت الجدة أن تجلس عليه دون وجود الجدة.

بعبارة أخرى فان الحياة في هذه الرواية هي حياة المكان بمكوناته (بمن فيهم البشر) لا حياة الأشخاص ويتجاوز ذلك أيضا في رأيي ما عرفناه في الرواية الفرنسية الجديدة عند آلان روب جرييه وغيره حيث كان التركيز في الرواية الفرنسية على وعي الأبطال بالمكان وعلى النزعة التسجيلية المحايدة للجزئيات والأشياء. ففي هليوبوليس تسجل مي التلمساني حياة المكان من خلال عين البطلة ميكي إلا ان ميكي هنا تكاد تكون مجرد كاميرا لنقل حياة المكان والشخصيات (باعتبارها خلفية للمكان) أو باعتبارها فسيفساء مكملة للوجود الراسخ للأشياء, ومن المدهش حقا ان هذا الوجود العارض والعفوي للشخصيات وسط الأماكن وقطع الأثاث يكسبها وجودا وحياة أقوى بكثير مما لو كانت هي المستهدفة ولنتأمل معا هذه الصورة التي تنقلها ميكي الطفلة: ؛الأب الجالس خلف مكتبه يعمل في صمت, تحيط برأسه هالة ضوء وبقايا دخان سجائر. الروب الصوف معلق باحكام حول الصدر والكوفية الحرير المنقوشة تحاصر الرقبة, يمد إصبعه فجأة مشيرا للمكتبة المقابلة: ؛ميكي« هاتي القاموس من فضلك. لاروس الأحمر. لاروس الأحمر مكون من ستة مجلدات ضخمة يزن الواحد منها خمسة كيلوجرامات تركع ميكي أمام المكتبة وتجذب المجلد الأول, لا هاتي الرابع. تجذب الرابع فينزلق على سطح الخشب المصقول ويهوي بين ذراعيها, القاموس ثقيل يجمع بين دفتيه كل الكلام الفرنسي الذي لا يفهمه سواه. لكن ميكي تحب الفرجة على الصور. تحمله وتقف. ثقيل لكنها تحتضنه بذراعين نحيلتين وتقطع المسافة بين المكتب والمكتبة في مشقة, يرجع بصره اليها ويومئ »من هنا« يجب ان تدور حول المكتب وتسلمه القاموس في يده, حسنا, بين يديه الآن كل الكلام وبين كفي ميكي بقايا أتربة القاموس«.

في هذا المقطع المنقول من الرواية لا تتجسد شخصية الأب الا من خلال الروب المنزلي والكوفية ودخان السجائر وهالة النور ويحتل وصف قاموس لاروس وعملية نقله معظم المشهد المكتوب ولكن الوجود العارض للأب وسط الأشياء يحفره حفرا في ذهن القارئ بينما يعيش قاموس لاروس أيضا حياته الخاصة مثل كل الجزئيات الأخرى التي يزدحم بها هذا العمل أصص الزرع في الشرفة, بلاط الشرفة, النوافذ الزجاجية, السجاجيد القديمة, الأطباق والملاعق, أنواع المأكولات, ملابس السادة وملابس الخدم, غرفة التليفزيون, فناجين القهوة- مئات أو آلاف الأدوات وقطع الأثاث والأشياء تصنع عالم هذه الرواية الفريدة, وتكتسب كلها كما قلت حياة مستقلة, مثيرة ومهمة, وتتطور مثلها مثل الشخصيات الحقيقية: ميكي والأب والأم والعمات والجدة والجيران ولهذا فليس هناك ما يثير الدهشة في ان تقدم مي التلمساني لعملها بعبارة اميل دوركهايم:

“الافراد هم وحدهم عناصر المجتمع النشطة, وان أردنا الدقة يتكون المجتمع أيضا من الأشياء«.

وقد قلت من قبل إن الأشياء في هذه الرواية تتطور, ولكنها أيضا تموت وتتبدد, ولأن الكاتبة لا تستخدم لغة عاطفية ولا ترثي ماضيا جميلا بل تكتفي بتسجيله بلغة صافية شفافة ان جاز التعبير فان الإحساس بالفقد يصبح أكثر إيلاما.

كتابة مي التلمساني كتابة جديدة وجميلة بمعنى الكلمة, لا أستطيع مع الأسف أن استقصي كل جمالياتها في هذه الكلمة الموجزة. وكذلك الحال بالنسبة لأفضل الكاتبات والكتاب من جيلها مثل الكاتبات ميرال الطحاوي ونورا أمين وبهيجة حسين والكتاب حسني حسن ومصطفى ذكري ومنتصر القفاش, وغيرهم. لكل منهم عالمه الخاص وقدرته على اقتحام مناطق جديدة وجريئة في سرد الرواية ولكن السؤال المهم هو: هل يمثل هذا الأدب الجديد قطيعة مع ماضي الأدب المصري الحديث (الذي قدمت اطلالة عليه) كما لمح إلى ذلك الناقد الموهوب الدكتور صبري حافظ? عندي إن عناصر التواصل بين الأجيال أقوى من مظاهر الانفصال, لو تذكرنا ما قلته عن انجاز جيل الستينات في مجال تفكيك الزمن في السرد الروائي والقصصي وعن شخصية البطل الضد الذي لا يسيطر على الواقع المحيط به ويحتج على هذا الواقع بانفصاله عنه, والتناقض بين هشاشة الشخصيات وصلابة البيئة الخارجية, لو تذكرنا ذلك فسنقول إن كتاب التسعينات قد دفعوا بهذه الخصائص إلى أبعد مدى ممكن وأن الواقع أيضا قد تدهور إلى أقصى مدى ممكن بحيث اقتضى التعبير عنه هذه الدرجة من التطرف. لكن التواصل قائم هنا, وقائم في جانب أهم, وهو أن كتابات هذا الجيل الجديد هي صرخة احتجاج عالية وغاضبة من أجل استرداد حريات كثيرة مفقودة, وعدالة غائبة, ومن أجل كرامة الإنسان في زمن كل ما فيه يعمل على سحق الإنسان وكرامته.

والتواصل بهذا المعنى شهادة لصالح هذا الجيل الموهوب ولحيوية الأدب المصري الحديث.

…………..

* نص الكلمة التي ألقاها الروائي المصري الكبير بهاء طاهر في ندوة الأدب المصري الحديث بمهرجان الأدب بمدينة منتوفا- ميلانو- ايطاليا (5-9 سبتمبر 2001).

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم