تقلبات الهوية وتبدد الحقيقة في مسرح سعد الله ونوس.. قراءة في مسرحية “الأيام المخمورة”

رضا عطية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

لئن كان سعدالله ونوس في مسرحه معنيًّا بغزل قماشته الدرامية بتضفير أنسجة الخاص مع العام، والفردي مع الكلي، موثقًا عرى الشخصي بالقومي، كما يَحْبِك خيوط الذاتي واليومي مع الاجتماعي والسياسي، إذ إنّ “الظاهرة اللافتة في الإبداع العربي الحديث، والمسرحي بخاصة، هي تراجع الذات الفردية تاركة موضعها للذات الجماعية. وتراجع الذات في وضعية اجتماعية ما، هو قرين الدخول في لجة الصراع الأرحب، صراع الكتلة والكتلة، والجماعة والجماعة، والفئة والفئة، حيث تتراجع العناصر البسيطة، ويصبح التعقد والتشابك هما القانون”([1])، فإنّ مسرحيته “الأيام المخمورة” تعمل على مطارحة هموم أفراد ومعاينة مأساة وطن إزاء تحديات سياسية وأخلاقية واجتماعية تعصف بسفينة هويتهم وتهدد الوجود الفردي والجماعي للإنسان أمام رياح الفساد العاتية التي تعمل على خلخلة ثوابت القيم وإبدال مستقرات الأعراف، مما يُخضع القيم لعملية إعادة تقييم، ويضع الضمائر محل اختبار، وتمسي العزائم في امتحانٍ، قياسًا لصلابتها وتماسكها فيما تجابه من تحديات وتمسكها بما تؤمن به من قناعات أمام ضغوطات الحاجة ونقائص العوز وإغراءات الفساد.

 وتكون “الأيام المخمورة” كآخر ما كتب سعدالله ونوس في سفر إبداعه المسرحي خاتمة للغرس الونوسي، ليسدل بها الستار على مسيرة عطاء امتد لثلاثة عقود ونصف من الزمان، لتتضمن “الأيام المخمورة” عصارة فكر سعدالله ونوس وتكثّف خلاصة تجربته ولتحمل كثيرًا من همومه وتُبرز هواجسه سواء على مستوى إنساني وجودي أو وطني قومي، إنه نص يعبِّر عن صيرورة كاتب كبير تنامت رؤاه وتكاملت صياغاته الفلسفية التي تستوعب عالمه المليء بالفساد والزيف، عالمنا المحفوف بالمعاناة والألم.

 وأولى بوابات النص الدلالية عنوانه، إذ إنّ “العنوان لدى السيميائيين، بمثابة سؤال إشكالي، بينما النص، هو بمثابة إجابة عن هذا السؤال، إن العنوان يحيل على مرجعية النص، ويحتوي العمل الأدبي في كليته وعموميته، كما أن العنوان يؤدي وظيفة إيحائية، إذا نحن سلمنا مع (ش. غريفل Grivel) بـ”سلطة النص” التي يؤسسها العنوان- حسب غريفلGrivel) ) دائمًا- (يتضمن العمل الأدبي بأكمله بنفس القدر الذي يتضمن به العمل الأدبي العنوان) ويتدخل الأول في توجيه الثاني، كما يرشد إلى قراءته قراءة تصير خاصة به، وبقدر ما نعتبر العنوان “دليلاً (علامة)، على كون سيميائي هو النص في حد ذاته، بقدر ما نعتبر هذا النص “إجابة” (ردًّا) على سؤال العنوان”([2])، فالعنوان (الأيام المخمورة) بما ينوء به من حمولات علاماتية، هو مركب وصفي يرتسم بين إحداثيين: أولهما زمني يتمثل في (الأيام) والآخر وصفي عضوي يتسرب أثره في قنوات الوعي (المخمورة)، أما البعد الزمني في العنوان وهو (الأيام) فهو يعكس إحساسًا مرهفًا بالزمن في وحدات دقيقة منه وهي الأيام، التي تطوي بين ثناياها معاني التنوع والتمدد وكثرة ما بها من أحداث وتحولات، وكثرة من ترتبط بهم من شخوص، فتكون الأيام مجازًا زمنيًّا مرسلاً عن ناسها وأهلها الذين يدورون في فلكها أو يقفون في مواجهتها، وهو ما يرجحه وصفها بـ(المخمورة)، فالخمر علامة على اهتزاز الوعي، واحتساؤه علامة أخرى على محاولة الوعي للهروب من واقع أليم وإرجاء المواجهة معه، فاحتساء الخمر علامة انسحاب عاجز نتيجة افتقاد القدرة سواء على تغيير واقع مأساوي أو استيعاب قوانينه ومتغيراته، والخمر- من وجهة أخرى- علامة على فقدان الوعي وارتكاب عمل محرَّم، علامة على تغييب الوعي وفقدان الاتزان الشعوري، وهي مادة قد يؤدي تناولها- أيضًا- إلى البوح بمحظورات لا يُمكن الإفضاء بها في حالة صحة الوعي وعدم الدخول في السُّكر، إنه البوح الأَسْيَان بفعل أثر الخمر الذي دفعت الأيام ناسها إليه. ولكن هل تكون “الأيام المخمورة” استئنافًا لـ”يوم من زماننا”([3])؟ حيث واقع مأساوي ملؤه الإثم والعهر، وأناس استباحوا الرذيلة وجعلوا الفساد قانونًا حاكمًا وطبيعة سارية.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 463

الحفيد باحثًا عن هوية

 تُفتتح المسرحية بمشهد لشخصيتها الرئيسية (الحفيد) الذي يمسك بآلة التساؤل حفرًا في أرضية الواقع ونبشًا في أغوار الزمن، استخراجًا للحقائق المطمورة واستنطاقًا للمسكوت عنه، فالحفيد لا يشارك في الأحداث إلا من خارجها، ومع ذلك هو الرابط بينها والمحرك لعجلة البحث المتسائل، وإن لم يكن وحده القائم بمهام الراوي في تلك المسرحية، لكنه الراوي الرئيسي الجامع للحكايات والقائم بالتوليف بينها:

الحفيد :كنت في السادسة من عمري، حين غابت أمي يومين، عادت بعدهما، ومعها امرأة عجوز شديدة الضعف والهزال. في البداية خفت منها، ولكن حين تمليت وجهها، وجدته مضيئًا وآسرًا، لا تشبع العين من النظر إليه. قالت لي أمي… هذه جدتك، وطلبت مني أن أقبِّل يدها، فأمسكت تلك اليد المعروقة الباردة، وطبعت عليها قبلة سريعة. وكانت أمي تواصل كلامها قائلة.. هذا هو العزاء الذي تركه لي قبل أن يُستشهد. طبعًا كانت تقصدني وتقصد أبي. وأذكر أن جدتي أصرت أن يمد فراشها على الأرض. وخلال فترة لا أعرف كم دامت، تعودت أن أراها دائمًا متمددة على ظهرها، ويداها معقودتان فوق بطنها. وكانت لا تكف عن التمتمة، وقليلاً ما تأكل أو تتحدث. ورغم أن لدينا أقارب كثيرين سواء في الشام أو بيروت، فإن أحدًا لم يزرنا طوال وجودها في بيتنا. فيما بعد.. مع نمو إدراكي وفضولي، أيقنت أن في العائلة دُمَّلاً يتستر عليه الجميع. وأدركت على نحو غامض، أني لن استقر في اسمي وهويتي إلا إذا كشفت الدمل وفقأته. بدأت البحث مع أمي. ماطلت كثيرًا، وتهربت طويلاً. وفي النهاية حكت لي عن ذلك الصباح([4]).

 

 يعمل ونوس على استهلال نصه بمشهد ينفرد فيه الحفيد/ الراوي الرئيسي للمسرحية بالحديث وحده المُوجَّه إلى متلقٍّ افتراضي (الجمهور المشاهد العرض/ قارئ النص)، مع إهمال تصدير أوصاف هذا الممثل/ الحفيد أو إعلامنا بها، وكذلك فلا عناية بأية ديكورات يمكن أن تشكِّل خلفية للمشهد، فينطلق الحفيد في دفقة منهمرة من البوح، مؤديًّا فاصلاً ممتدًا، مغردًا فيه بهمومه ومصرحًا بشواغله وعذاباته في كونشيرتو بوح منفرد يعزف على أوتار الاعتراف والبحث المنقِّب عن جذور الألم أملاً في كشف بواعث الخلل، فيكون الحوار مونولوجيًّا، حوار الذات للذات، فيعمل الحفيد على أن ينكأ الجراح ويفقأ الدمل الذي تتحاشى العائلة التعرض له، فمسرح سعدالله ونوس دائم البحث عن الدمامل ليفقأها؛ كما في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” حين نرى المتفرج/ الشعب الذي بدأ يفيق من غيبوبة الوعي في أعقاب الهزيمة- يرفض دعوة المخرج/ المثقف الذي يعمل على تغييب الوعي وتزييف الحقائق طمسًا لعورات السلطة- لمتابعة العرض الموسيقي الراقص عوضًا عن عرض مسرحي لم يُقدم كان سيناقش الحرب التي أتت بالهزيمة، فيقول المتفرج: “إن الدمل ينز، ولا يمكن أن نتجاهله… الدمل ينزف والميجانا لا يمكن أن توقف نزيف الدمامل”([5])، ولكن إذا كان الدمل في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” قوميًّا جمعيًّا، فكيف يكون الدمل في “الأيام المخمورة”؟ هل هو دمل شخصي كما يبدو في مستهل حكاية الحفيد الباحث عن هوية له؟ أم أن لهذا الدمل تمددات أوسع على مستوى جمعي؟

 وعلى صعيد الشخوص يبدو إزاءنا الحفيد والأم والجدة الذين تضمهم العائلة وهو مستوى تمددات زمنية ذات ترميز علامي يحيل إلى محطات تاريخية، أما على مستوى مكاني فهو يتراوح ما بين بيروت والشام (دمشق). أما الشخصية الأبرز فهي شخصية الحفيد فيأتي بلا اسم وبلا هوية، إذ تعمل الصياغة الممسرحة على التنصل من أية تحديدات سيميائية لشخصية الحفيد، فيعمل ونوس على تعطيل سميأة الشخصية قصدًا لجعلها نموذجًا ذا بُعد عام يتملص من أية تعيينات محددة تُخصص الشخصية وتحصرها في مقصودات محددة، “والواقع أن تعطيل سميأة الشكل هو في حقيقته سميأة أعمق تهدف إلى إحالة المشاهد لنموذج إنساني عام وليس إلى شخصية فردية محددة”([6])، فالحفيد هو رمز للجيل الحالي الذي ورث أخطاء الآباء والأجداد وآلت إليه تركات إخفاقاتهم وهو ما جعله مضطربًا في هويته واسمه نتيجة إرجاء المواجهة مع الماضي حتى ينتزع لنفسه هوية مكتملة ومتسقة في الحاضر الذي يعيشه، ولكنَّ لكل مبتغى ثمنًا ولكل مطلب كلفة، ولكل غاية طريقًا لا بد من خوضه والمرور بأشواكه وحصاه، فلا حصول على هوية دون نبش في ماضٍ يتحاشاه الآخرون ويتجنبون الحديث عنه، ولا فوز باسم أي تعيين ذاتي يمنح للذات خصوصية وفرادة إلا بجلاء حقائق تمثل جروحًا غائرة في جسد العائلة. فيبدو أن سؤال الهوية الذي يلح على الحفيد هو سؤال المعرفة المحفوف بالمخاطر والمسيَّج بالمشاق.

 ولكن إذا كان مفهوم الهوية ينحو لأن يكون مفهومًا عامًّا يخص الذات الجمعية أكثر، فأية هوية تلك التي يبحث عنها الحفيد؟ وما علاقة مفهوم الهوية الذاتي بالأسرية والجماعة؟ فمفهوم الهوية في مسرحيات ونوس الأولى كان يقصد تعيينًا جمعيًّا للهوية؛ كما في “حفلة سمر من أجل 5 حزيران”؛ حيث يبرر أحد المتفرجين- أحد أصوات النص- انتصار الفلاحين الفيتناميين على الغزو الأمريكي لبلادهم، وارتباطهم بالأرض قائلاً: “يندغمون بالتراب لأن لهم هوية”([7])، وهو ما يدفع المتفرجين/ الشعب الذي بدأ يراجع نفسه بعد الهزيمة إلى التساؤل بعد التحديق في مرايا الذات الجمعية: “هي ذي المرآة. تعالوا.. تعالوا نسألها من نحن؟”([8]). إذًا يبدو أن ثمة تحولاً في مفهوم الهوية باستبدال السؤال (من أنا؟) بالسؤال (من نحن؟). ولكن المتأمل لمفهوم الهوية بتحولاته وتقلباته يجده أنه يعد “في الواقع الآني- مفهومًا غير واضح، ينتقل- في الآن ذاته- بين حالات مختلفة من التغير والثبات في معظم المجتمعات الحديثة بشكل عام. يعاني مفهوم الهوية المعاصرة من وطأة حياته في سياق اجتماعي وثقافي لأفراد يسعون تحت مظلة القيم الحاكمة لعالمنا الحديث إلى تحقيق خصوصيتهم الفردية”([9]). وبناءً على ذلك النزوح نحو الفردانية في تشكيل الهوية يكون الجدل بين المكونين الاجتماعي والذاتي في تركيب الهوية، حيث “إن سطوة المجتمع المعاصر، ومنظومة قيمه، تدفع الجميع نحو البحث عن هوية خاصة، بطريقة مشابهة لما تقوم به هوية جمعية حين تحدد منظومة قيم مجتمع ما، فكل دور اجتماعي في الحياة تلتصق به على الجانب الجزئي سمات محددة لهوية ما. مثلما تساعد قيم هذا المجتمع المعاصر بالذات على القيام بهذا الدور من جهة أخرى! ربما يكون حث الفرد نحو تكوين هوية خاصة، هو أحد المتغيرات الجديدة التي ظهرت بعد الثورة الصناعية الكبرى، في ظل الثورة المعلوماتية”([10]).

 والبادي أن مقصد الصياغة المشكِّلة للنص من إبطال أية ملامح سيميائية لشخصية الحفيد الذي يمثل العنصر الشكلي المُبرَز على خشبة العرض المسرحي، وكذلك فإن العمل على التجرد من أي ملامح سيميائية للخلفية (الأرضية) وتجميد أي فاعلية سينوغرافية للديكورات والإضاءة التي يمكن أن تشكِّل خلفية للمشهد- هو العمل على تعميم القضية وتخليصها من التلبس بحدود فردية خاصة، مما يخرج بمشكلة هذا الحفيد في محاولة تعيين هوية له من حضور فردي ليمثل علامة أيقونية عامة تتكفل بالإحالة إلى مرموز أعم، لتطمع بأن ينوب هذا الحفيد عن جيل ضائع يتقلب في هويته، والهوية هي علامة خصوصية واستقلال وتحقق ذاتي راسخ الجذور، فتكون المواجهة بين الحفيد/ الجيل الحالي، بحثًا عن علل المشكلة التي تعود إلى الجدة/ جيل الأجداد، في ظل تستر من العائلة/ جيل الآباء، الجيل الأوسط ومحاولته تعطيل الحفيد عن إدراك كنه الحقائق. وفي مقابل الحفيد تبدو الجدة المتمددة بهيئتها البالية وحالتها الواهنة هي مناط التساؤل ومدار البحث عن الحقيقة، تحقيقًا للهوية وفوزًا بالاسم.

 أما تقديم الجدة بهذه الحالة المريضة والهيئة المنسحقة فإنه يدفع المتلقي لكي يشاطر الحفيد شعوره الحائر وبحثه المفتش عن الحقيقة، حقيقة الأسرة وحقيقة الحياة والموت والوجود، إذ إن الجدة “كأنها، بحالتها هذه، تشهد على وجودها في الحيز الملتبس بين الموت والحياة، أو في الحقيقة، حقيقة الوجود الغامضة”([11]). وهذا التصدير المسرحي الذي يضم حديثًا آنيًّا للحفيد يرتد فيه لحادثة في زمن ماضٍ تدفعه للبحث والتفتيش يجعل من حكاية الحفيد أو من مساره الدرامي وكذلك من المشهد التصديري إطارًا أول للبنية الدرامية للمسرحية، “وقد يستلزم التصدير المسرحي (تأطير) جزء صغير من العرض، على حد قول “برشت”، وذلك بعزله عن بقية النص”([12])

 ومن البداية يستقيل الراوي/ الحفيد من الدور المألوف للراوي الذي يسرد الحكايات، ليُوكل للأشخاص رواية حكايتهم كما في نهاية “فصل الأرق والتطير” الذي تحكي ليلى فيه عما خُيل لها من تابعة/ جنية/ شبح تزايل أمها:

الحفيد:في بحثي عن دمل العائلة، كنت أعلم أني سأتخبط كثيرًا في متاهات الأوهام والأكاذيب. ولكن في مثل وضعنا، لم يكن هناك ممر آخر إلى الحقيقة. ولهذا سأتابع هذه الفصول، دون تمحيص كبير، ودون تركيز على حسن التتابع والتنسيق([13]).

 فمن البداية يتحول الراوي (الحفيد) إلى مروي عليه، وكأنه يتنحى عن دوره في رواية الأحداث، فيترك مكانه على خشبة العرض ليختار الجلوس في مقعد المتفرج، أو كأنه أحد المتفرجين ترك مقعد المشاهدة ليعتلي خشبة العرض ليقدم حكاية رويت عليه، فالحفيد/ الراوي بينما هو يدعي الحيادية وعدم اليقين فيما رُوي له من وقائع فهو يمارس فاعلية الإيهام، ولكن في مخاطبته لجمهور الصالة يقوم بكسر للإيهام، “فالفعل المسرحي يتفاعل مع نقيضه ليس عن طريق الغياب بل عن طريق الحضور لينشأ فعل مسرحي جديد هو مزيج بينهما. والتقنية الأساسية لإنجاز ذلك الفعل هو تحويل الراوي الأساسي إلى مروي عليه”([14]). فثمة شكل من الإسناد الروائي في سرد الحكايات التي يتحول بعض أبطالها كليلى وسلمى إلى رواة لها، كما يضع الحفيد/ الراوي/ المروي عليه الحكايات والشهادات في منطقة برزخية بين اليقين والشك، ليتنصل من أية مسؤولية مباشرة عما يروى من أحداث، ويتبرأ من أية غرائبية قد تشملها الحكايات كحكاية الجنية التابعة فيما ترويه ليلى عن أمها. وما أشبه ذلك الإسناد الحكائي بفعل الحكي الشعبي في “ألف ليلة وليلة”، حيث تتخلى شهرزاد عن رواية أحداث الحكايات التي يتكفَّل أبطالها بروايتها.

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 465

الأبناء ومحاولات العصرنة

 من أبرز التيمات والخطوط الرئيسية في “الأيام المخمورة” هو مسعى الأبناء إلى تكريس العصرنة وإرساء ما يرونه من مظاهر الحداثة، وأول من يكون مرمى لمساعيهم هو الأب/ الجد عبدالقادر ذلك التاجر البيروتي المحافظ على شكل متوارث في الهيئة والملبس، وهو ما عمل الأبناء/ الجيل الصاعد وقتها في منتصف القرن العشرين على تحديث هيئة الأب مجاراة للعصر ومواكبة لأنماط حداثته الشكلية، كما في “فصل التمدن والرقي”:

(الصالون مزين، ويبدو كقاعة احتفالات. في الركن الخلفي، وُضع بارافان أنيق… تنبعث من الغرامفون موسيقى غربية ناعمة. يقف الأبناء الأربعة، وقد تجملوا، وارتدوا ثياب المناسبات. يُطل الأب عبدالقادر الطحاوي مرتديًا ثيابه التقليدية، المؤلفة من قنباز حريري وميتان من لون القنباز، وفوقهما سترة وعلى الرأس طربوش من الجوخ الغامق الحمرة).
عدنان:صح النوم يا أبي.
سرحان:هنيئًا يا أبي.
عبدالقادر:(وهو ينظر إلى الصالون بدهشة) ما هذا يا أولاد؟ ماذا يحدث؟
سلمى:بابا.. اليوم عيدك. وما تراه هو احتفال بسيط أعددناه لك.
عبدالقادر :أي عيد؟ وأي احتفال؟
عدنان:كنت يا أبي.. كنت دائمًا يا أبي..

(يتلعثم، فيلكزه أخوه سرحان)

سرحان :(بلهجة خطابية) بفطرتك السليمة، ورجاحة عقلك، سبقت يا أبي أبناء جيلك، في تمييز ومعرفة منافع التمدن. أقبلت على مظاهر الحـياة الجـديدة، دون توجس أو خوف. وغيَّرت البيت والأثاث، والكثير من العادات.
سلمى :وسجلتنا في مدارس أجنبية، كي تضمن لنا التربية العصرية، والعلوم الراقية.
عبدالقادر:أوضحوا لي بكلام مفهوم، ماذا تقصدون؟
سلمى :حان الوقت كي نخلع لباس الأزمان المظلمة، ونرتدي لباس الأيام المضيئة.
سرحان:كل شيء جاهز. وسيبدأ الاحتفال.

(يحيط الأبناء بأبيهم ويسحبونه برفق نحو البارافان)

عبدالقادر:اسمعوا يا أولاد..
سلمى:الاحتفال مقرر، والاعتراضات مرفوضة.
ليلى:هذا عيد وزينة وعرس..([15])

تضطلع العناصر السينوغرافية بدور بالغ بأن تتجاوز سكونيتها الشيئية كعناصر ديكور أو موسيقى أو إكسسوارات أو إضاءة، لتكون مؤثرات علاماتية، تتعاضد مع اللغة وتشاطرها المسؤولية في بث إشارات النص المسرحي وتبليغ دلالاته، إذ يبدو “أن السينوغرافيا فن متكامل في عناصره، يقوم على نقل المجرد وتحويله إلى واقع عن طريق التجسيد وإعادة الخلق”([16])، فتلك الأجواء الاحتفالية تمهد لإعلام المتلقي، القارئ أو المشاهد لما يُتَوقَّع أن يحدث من أحداث هامة تكون موضعًا لحفاوة المحتفلين ومبعثًا لسعادتهم، غير أن الموسيقى الغربية المنبعثة من الغرامفون تكون مؤثرًا علاميًّا دالاًّ على ما يحمله الشخوص، أصوات النص المسرحي، (الأبناء/ الجيل الشاب حينها) من رؤى نازحة نحو التغريب، واعتناق الأيديولوجيا الغربية واتخاذ السمت الإفرنجي، وفرضه على الأب، أما مدى قوة الموسيقى في مقابل انخفاضها أو حدتها في مقابل رهافتها، إذ توصف الموسيقى بالنعومة التي هي معطى ينتمي لمضمار حاسة اللمس أكثر من السمع في إطار عملية تراسل للحواس بما يُطعِّم الأثر الفاعل للموسيقى بمعطى فاعلية إضافي يعكس أثره النفسي، فالموسيقى الموسومة بالنعومة تُشكِّل مرتكزًا إيقاعيًّا للدلالة المحايثة للمشهد، فالموسيقى تُعد شفرة ميتالغوية، إذ إن الموسيقى الناعمة تهيئ الأجواء لما سيحدث من انقلاب ناعم أيضا يقوم به الأبناء على أبيهم بغية تغيير هيئته واستبدال هويته. أما بالنسبة لحركة الشخوص/ الممثلين فتعمل على مؤازرة مقاصد المشهد الدرامية، فحركة الأبناء وإحاطتهم بأبيهم تشي بحالة من الحصار المكاني قرينة للحصار الفكري الذي يمارسه الأبناء إزاء الأب ولكن بشيء من الرفق والنعومة الخادعة في مظهرها المترفق، فثمة دلالة ظلِّية تكتنف حركة الشخوص/ الممثلين، و”تحكم الدلالة الحقيقية- الدلالة بالتضمن كل مظهر في العرض: فالديكور وجسد الممثل وحركاته وكلامه يحدد ويتحدد على الدوام عبر تغيّر شبكة من المعاني الأولية والثانوية. ويعتبر استخدام رصيد محدود من حاملات- العلامة في توليد سلسلة واسعة من الوحدات الثقافية مقومًا أساسيًّا للاقتصاد السيميائي في العرض المسرحي، وتعود هذه القدرة التوليدية القوية التي تملكها حاملات- العلامة المسرحية في جزء منها إلى اتساع قدرتها على الدل بالتضمن. وهذا ما يفسر، علاوة على ذلك، خاصية تعدد دلالة (Polysemy) العلامة المسرحية”([17]).

 وإذا كان للتقابل بين الحدود والتضاد بين العناصر دور هام في إبراز المعاني وجلاء اختلاف المواقف وتمايز الأحوال، فكما “يقول جاكبسون إن التقابل الثنائي أساسي، فبدونه نفقد بنية اللغة. ويوافق ليونز على أن التقابل الثنائي أحد أهم المبادئ التي تحكم بنية اللغات. وبالطبع يشدد سوسير على الفروق بين الإشارات وليس على التشابه بينها”([18])، فإن ذلك التقابل يعمل بين الأشخاص/ الممثلين بما يبرز من تفاوت بالغ بين أزيائهم لدرجة تقترب من حالة التضاد- كما يبدو من ارتداء الأبناء لثياب مناسبات عصرية في مقابل الأب بثيابه التقليدية القديمة المؤلفة من قنباز حريري وميتان من لون القنباز، وفوقهما سترة، وعلى الرأس طربوش من الجوخ الغامق الحمرة- على إبراز البون الشاسع بينهما في المظهر الذي يحيل إلى تباين في الرؤى وتقابل في منظور الطرفين (الأب/ الأبناء) أيديولوجيًّا، فالأبناء يسعون لفرض ما يعتقدونه من مظاهر حداثة على الأب الذي يحمل في مظهره ومعتقده انتماءات تقليدية لأعراف قديمة وعادات متجذرة في انتسابها لزمن سابق، فتنهض ملابس الأشخاص/ الممثلين بدور تأشيري إبرازًا لتقابلات الأفكار بما يثري درامية المشاهد، إذ نجد “أن التقابلات (أو التضادات) تملك وظيفة عملية جدًّا بالمقارنة مع المُرادفات، وهي الفَرز. وجاكوبسون هو الذي اقترح اعتبار الوحدات اللسانية مرتبطة بعضها ببعض بوساطة منظومة تقابلات ثنائية. وهذه التقابلات ضرورية لتوليد المعنى”([19]). أما رؤية الأبناء لعملية الإحلال المتمدن في هيئة الأب التي تعبر عنه سلمى قائلة: “حان الوقت كي نخلع لباس الأزمان المظلمة، ونرتدي لباس الأيام المضيئة”، فأمسى اللباس علامة على الزمن وحاله بين الإضاءة والإظلام- في تصور الأبناء، غير أن المقارنة التي تعقدها سلمى/ الجيل الشاب وقتها بين اللباسين حسب انتمائهما الزمني تُجلي تصور جيل الأبناء لهذا الحراك التمدني المرتبط بالزمن، لتبرز الأيام بلباسها المتمدن في مواجهة الأزمان السابقة التي تُوصف بالمظلمة، وهو ما يعكس تناميًا في تعاطي الوعي مع وحدات الزمن، فالأيام الناشئ فيها التغيير تكون في مواجهة الأزمان، وهو ما يؤسس لتصور لمبدأ الحراك المبتغى إحداثه على فترات وقتية قصيرة المدى في مقابل ثبات نسبي ممتد الآماد لمعالم العادات وأنماط التداول الحضاري كما في الملبس، غير أن ما تصفه سلمى بـ”الأيام المضيئة” يستحضر إلى الذهن عنوان النص “الأيام المخمورة”، مما يحرض على التساؤل: أي وشيجة أو تماثل يصل الأيام المضيئة بالأيام المخمورة، هل تصور الأيام بعد تحديث لباس الأب بالأيام المضيئة مجرد خدعة؟ وما هي إلا أيام مخمورة يتصورها الوعي القاصر أيامًا مضيئة؟! غير أن اتخاذ الأبناء اللباس معيارًا حكمًا على حالة الأزمان ومقياسًا يزن القيمة إنما يعكس مدى سطحية وعي هؤلاء الأبناء وهشاشة تصورهم لفرضيات التمدن وشروط التحضر.

 ولئن كان الحوار- بوصفه المكون البنائي الفارق للجنس المسرحي- هو المسيِّر لحركة الأحداث والمنمي لتطورها الدرامي، والمجلى لمواقف الأشخاص وما يكون بينهم من تمايز في الرؤى، فيكون بوسعنا أن نضع الأبناء (عدنان- سرحان- سلمى- ليلى) في مواجهة الأب فيما يخص الإيمان بالعصرنة لا سيما على صعيد الشكل، غير أن المدقق في بنية الحوار وتركيبه بالنسبة لكل شخصية، يستطيع أن يتلمس من الحوار- بوصفه بنية تجمع بين كونها لغوية وفوق لغوية- ما بين هؤلاء الشخوص من فوارق شخصية سواء في السمات والمواقف.

 فمن حيث مساحة الحوار التي يستحوز عليها أصوات النص في المقطع السابق، فثمة تفاوت واضح في نصيب كل شخصية فيما تحوزه من شريط الحوار مقارنة بغيرها، فجمل عدنان لا تزيد عن (3) ثلاث جمل يقول خلالها (9) تسع كلمات، في مقابل (7) سبع جمل لسرحان يقول خلالها (39) تسعًا وثلاثين كلمة، وهو ما يبدو مؤشرًا على امتلاك سرحان لقدر أكبر من القناعة بضرورة تغيير هوية الأب مسايرة لمتطلبات الحداثة ولو على صعيد الشكل، كما يبين مسار الحوار وجريان جمله عن مدى إيمان قائله به أو مدى قدرته على الإقناع؛ فيبدو عدنان متعثرًا فيما ينطقه من جمل، وتقريبًا يعيد تكرار ما يخرجه من عبارات: (كنت يا أبي.. كنت دائمًا يا أبي) حتى يتلعثم فيلكزه أخوه سرحان، وهو ما يعكس تردده الشخصي أو انخفاض مدى قناعته بذلك التغيير المزمع استحداثه في هيئة الأب مقارنة بأخيه سرحان، وحين نقارن المساحة الحوارية لشخصيتي ليلى وسلمى، نجد أن ليلى لا تقول سوى جملة واحدة في (4) أربع كلمات، بينما تقول سلمى (8) ثماني جمل في (37) كلمة، وهو ما يقارب في الوزن الكتلي للحوار الحمولة الحوارية لأخيها سرحان، فيتبدى لنا أنها أكثر حماسًا وإقدامًا من عدنان وليلى في تبني مشروع العصرنة وتحديث هيئة الأب وتغيير هويته، وبالفعل فبالإمكان ضم جمل سلمى التي تعقب جمل سرحان حتى نجدها شديدة الانسجام مع جمل سرحان التي تتسم بالخطابية وتتمة لها، فلا بأس إنْ لفظها صوت واحد، فصوت سلمى بمثابة امتداد مكمِّل لصوت سرحان.

 أما فيما يخص جمل الأب عبدالقادر التي تبلغ (6) ست جمل في (17) كلمة، فيغلب عليها الإنشائية المتمثلة في الاستفهام: (ما هذا يا أولاد؟ ماذا يحدث؟)، (أي عيد؟ وأي احتفال؟)، والأمر والاستفهام: (أوضحوا لي بكلام مفهوم، ماذا تقصدون؟) أو الأمر المبتور متعلقه: (اسمعوا يا أولاد..)، الأمر الذي يعكس حالة الدهشة والالتباس ومحاصرة الغموض لإدراك الأب أبعاد الموقف، ففقدان الأب عبدالقادر لخبرية الجمل مؤشر علاماتي على فقدانه اليقين أو الخبر واستبداد الحيرة والالتباس به.

 أما عجز المشهد فيتناول تغيير الأبناء لمظهر الأب ظنًّا منهم أن ذلك انتقال لعصر الحداثة والرقي والتمدن:

(ينحني الخياط باحترام طقسي، ثم يبدأ بفتح العلب وإخراج الملابس. ليلى تبدل الأسطوانة، فتصدح موسيقا إيقاعية مقطعة إلى فواصل، وكأنها صُمِّمت كي تضبط حركات لاعبي السيرك. يحيط سرحان وعدنان بالأب، الذي يسيطر عليه خدر المستسلم. ينزعان السترة عن أبيهما).
سلمى:(تتناول السترة، وترميها في الزاوية) ورمينا سترة العصملّي.
سرحان:غير مأسوف على الزمن المولّي.

(ينزع عدنان وسرحان المتيان عن أبيهما)

سلمى :(تتناول المتيان، وترميه) وهذا متيان التأخر والتخلف.

(يدفع الصبيَّان قطعة البارافان أمام الأب والابنين، بحيث يُخفى معظم قاماتهم. ينزع عدنان وسرحان القنباز)

سلمى:(تتناول القنباز، ثم ترميه) ورمينا قنباز البشاعة والتنبلة.([20])

 رغم أن الموسيقى حاضرة في شطري المشهد، غير أن ثمة تفاوتًا بين الموسيقى الناعمة في مرحلة تمهيد الأبناء لأبيهم مسألة تغييره زيه وإقناعهم له باستبدال لباسه، وبين تلك الموسيقى الإيقاعية المقطعة إلى فواصل في مرحلة تنفيذ عملية استبدال الهيئة الخاصة بالأب، التي تُوصف بـ(كأنها صممت لتضبط حركات لاعبي السيرك)، فهذا التفاوت السيميولوجي في المُؤلَّف الموسيقي المصاحب للمشهد يعبر عن تطورات المسار الدرامي لأحداث النص المسرحي، حيث “تعد الموسيقا من أهم المكونات الأساسية في تفعيل العرض المسرحي، وخلق توتره الدرامي وكشف صراعه، وتوضيح تمسرحه الدرامي”([21])، إذ نجد “أن بإمكان الموسيقى أن تنقل معنى أو رسالة… فالموسيقى لغة من نوع ما”([22])، فحركة المعنى التي يبثها النص تبدو قرينة لما يسمى بـ”الحركة الإيقاعية Rhythmic motion، وهي حركة يجري تجسيدها من خلال التحكم الخاص في الموسيقى. إنها بمنزلة الانتقالات بين الصور والمشاهد التي تكون قابلة للاكتشاف من خلال الإيقاع الخاص للموسيقى أو الصوت. إن الهدف من مثل هذه الحركة هو التوليد والإيحاء بوجود الحركة على المستوى الطبيعي الفيزيقي”([23]). فتعمل الموسيقى الإيقاعية المشابهة للموسيقى المصممة لضبط حركات لاعبي السيرك على لفت انتباه المتلقي (قارئ النص/ مشاهد العرض المسرحي) إلى تلك اللحظة المفصلية والنقطة الفارقة في التحول واستبدال هوية الأب، مما يبرز دلالات متنوعة تلوح في ذلك المشهد كاللعب والعبث والمغامرة وكذلك المخاطرة، وهو ما يحيل على عملية تغيير الهيئة والهوية الخاصة بالأب. كما يبدو الفارق جليًّا في مستوى الخطاب بين حالي إقناع الأب بالتخلي عن لباسه القديم التي اتسم خطاب الأبناء فيها ولا سيما سلمى وسرحان بمهادنة الأب والثناء عليه اعترافًا بأفضاله في رعاية الأسرة وتنشئة الأبناء تنشئة حداثية، وبين تنفيذ عملية تغيير ملبس الأب التي شهدت تحولاً بارزًا في خطاب الأبناء الذي اتسم بالهجوم الحاد المنتقد لباس الأب المتخلى عنه الذي وصفوه بلباس التأخر والتخلف، فقد تحول اللباس من مجرد زي/ علامة مادية إلى رمز/ علامة معنوية/ إشارة قيمة، وذلك من خلال العلاقة الدائرة بين الشخوص/ الممثلين/ الذوات والأشياء/ الديكور/ الموضوعات؛ فالأشخاص يضفون على الموضوعات بعدًا علاماتيًّا إضافيًّا يجعل العلامة تتجاوز حدود ماديتها لتستحوز على مضمون قيمة، وهو ما أشار إليه “بيري فلتروسكي” بمفهوم “المتصل الذاتي- الموضوعي(Subjective- Objective- Continuum) الذي من خلاله تتحرك جميع حاملات- العلامة المسرحية البشرية وغيرها في سياق التمثيل. وفيما يكون الممثل “القائد” صورة مصغرة للفاعل الديناميكي (سواء كان الممثل المعتاد أو النموذج المؤتمت) (Automatized) إذ تتحرك العملية الدلالية «بقوة فعله»، ويكون اللازم أو عنصر من عناصر الديكور البدل الأساسي للموضوع السلبي، يكون من الممكن أن تعدَّل العلاقة بين هذين القطبين الظاهرين أو يمكن أن تنقلب”([24]).

 إن خلع اللباس أو السترة المنتمية للعهد العصملي هو خلع لعهد تولى، ويعمل التسوير السجعي للحوار بين جملة سلمى المنتهية بكلمة (العصملي) وجملة سرحان المنتهية بكلمة (المولي) على الإلحاح الدلالي على معنى التخلص من مظاهر عهد بائد، غير أن سترة العصملي المُتَخلى عنها لا تحمل فقط دلالة زمنية بالانتماء إلى زمن بعيد مولٍّ، وإنما تحمل- أيضًا- دلالة سياسية وثقافية تحيل إلى العهد العصملي والتبعية السياسية للحكم العثماني التركي، فثمة نوع من التحول من التبعية الثقافية والسياسية من الولاء للقطب التركي العثماني (العصملي) بالاتجاه للدوران في فلك الثقافة الغربية ومحاولة طلاء الهوية القومية للبنان والشام بطابع غربي بدعوى سداد استحقاقات الحداثة. فهل هي استغاثة من نار الاحتلال الفكري العثماني برمضاء الاحتلال الغربي؟

 إن هذا التعاضد السيميولوجي المشترك بين الشخوص/ الممثلين والأدوات/ عناصر السينوغرافيا يعمل على شحن الصورة المشهدية بإنزيمات الدلالة التي تفرزها العلامات المتجاوزة مدلولها الأوَّلي، “فالصورة تأتي مكثفة بحركة الممثل وعمل عناصر السينوغرافيا على المكان والزمان، وهذا التكثيف هو كالمجاز في اللغة”([25]). والبادي من استعانة ونوس بالصبيان/ عمال المسرح الذين لا دور لهم في الفضاء الافتراضي الذي تدور فيه أحداث النص والحكاية أنه ليس إلا كسرًا للإيهام وتذكير المتلقي/ مشاهد العرض/ قارئ النص أن ما يتابعه هو وهم يحاكي واقعًا ولكن لا يطابقه تمام المطابقة.

 وبعد إتمام عملية استبدال الملبس يبدو عبدالقادر في حالة ارتباك شديد بعد معاينته لذاته وتفحصه لهيئته بعد تحوله إلى نمط مغاير من الملبس ينتمي لزمن الحداثة على الطريقة الغربية:

عبدالقادر:(وهو يتملى هيئته مستغربًا) إني لا أكاد أتعرّف على نفسي. أتظنون أن هذا لائق يا أولاد؟

(تصدح موسيقى التانغو. تعود سلمى حاملة قالبًا من الكاتو، تضعه على الطاولة)

عبدالقادر:(وكأنه ينتبه فجأة إلى رأسه) أين الطربوش يا أولاد؟
سلمى:(صائحة) أي طربوش! ألم تحضر قبعة أيها الخياط؟
الخياط:إن القبعة جاهزة.([26])

 يبدو الأب شاعرًا بالاغتراب الذاتي ومتشككًا في مدى لياقة ملبسه الجديد/ هيئته/ هويته المعدَّلة، وتستمر الموسيقى بتنوعها السيميولوجي في لعب دورها المتمم لمعاني النص والمشكِّل لخلفياته، فمن الموسيقى الغربية الناعمة بالتوازي مع تهيئة الأبناء لأبيهم بقبول التخلي عن لباسه القديم، مرورًا بالموسيقى سريعة الإيقاع المقطعة الفواصل أثناء تنفيذ عملية استبدال الهوية، وصولاً لموسيقى التانغو التي تحمل نشوة الانتصار وإشارة التأكيد على مد جسور الانتماء شطر الغرب، غير أن الأب الذي استسلم لرغبة الأبناء في تغيير ملبسه بالتخلي عن (الميتان والقنباز) يبدي نوعًا من المقاومة بتمسكه بالطربوش، في مقابل طرح الأبناء لا سيما سلمى للقبعة، وهو ما سوف يفضي إلى الفصل التالي (فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة).

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 464

المفاخرة بين الطربوش والقبعة والتوالد الحبكي

 تثير “الأيام المخمورة” أسئلة تتجاوز الحكاية التي يسردها النص المسرحي إلى إشكالية الكتابة المسرحية، وبنية القالب المسرحي، ذلك أن ونوس كان معنيًّا بالتنويع الهندسي لتصميماته لما يشيده من هياكل لبناياته المسرحية، ونوس الذي قضى حياته في ترحال يبحث عن قوالب جديدة يصب فيها سبائكه الدرامية، فعبر هذا النص الونوسي فإن “الكتابة بحد ذاتها تُطرح كموضوع بحث وكإشكالية، بغض النظر عن المضمون الذي تقدمه. من ناحية أخرى، فإن مضمون المسرحية لا يمكن أن يُقرأ بشكل متكامل إلا ضمن لعبة الكتابة هذه”([27])، فسعدالله ونوس الذي كان شديد الولع بالتجريب في مسرحه، حاملاً لواءات ثورة طليعية في الكتابة المسرحية العربية، ثورة على قوالب يراها تقليدية، بحثًا عن حلول جديدة لترسيم فضاءات كتاباته المسرحية، كان يستعين كذلك بالتراث تيمةً وبناءً في حكاياته المسرحية، وهو ما يؤكد عليه ونوس نفسه في شهادته عن مشروع كتابته لتلك المسرحية “الأيام المخمورة”: “إني أفكر بالمسرح وبالموضوع الذي أكتبه.. إن أي كتابة للمسرح هي، هذان الشيئان المتلازمان اللذان سبق وتكلمنا كثيرًا عنهما وهما: مضمون وموضوع المسرحية من جهة، وإعادة نظر في المسرح ذاته كأداة تعبير أو كجنس أدبي وفني، من جهة أخرى. لا بد أنك لاحظت، خلال أحاديثنا الطويلة، إلى أي حد يشكل المسرح كبنية هاجسًا بالنسبة لي. وأنا غالبًا ما أشعر، أن هذه البنية التي سبق واستخدمتها سابقًا، قد استُنفدت، وأني لم أعد قادرًا على تكرارها أو استعادتها. إن نجاح المهمة، بطبيعة الحال يتوقف على التجانس بين هذه الرؤية التي تحملها المسرحية، والبنية الجديدة التي يقترحها أو يلجأ إليها الكاتب.. في عملي الجديد، هناك محاولة لنسف شكل ما من أشكال المسرح، وإغناء إمكانياته”([28]).

 وبالفعل، فإن ونوس في ذلك النص المسرحي يعمل على إعادة تشكيل الخريطة الجينية للجنس المسرحي، بما يُحدِثه من عملية تدجين في الخلية المسرحية، التي يحقنها بجينات السرد الذي يُهَيكل البنية المسرحية بتلاقحه مع جينات النوع الدرامي، فالمسرحية مكونة من ستة وعشرين فصلاً، فيما يشبه نظامي: الكتابة السردية حيث فصول الحكاية دقيقة الحجم، وكذلك الكتابة التراثية في اعتماد نظام الفصول في العنونة، فسعدالله ونوس صاحب مشروع حداثة نوعية قد أسس لثورة عبر نوعية في الجنس المسرحي، ليعيد صياغة ماهية النوع المسرحي بتطويع الدارما والحوار لاستيعاب أنماط وافدة من أجناس أخرى، وإن “هذا الاتجاه في الكتابة يدعم ويطور تيارًا في المسرح العربي، بدأ منذ الستينيات من هذا القرن (القرن العشرين) وكان محطة هامة في البحث بخصوصية المسرح العربي الذي حاول أن يجد لنفسه فرادة عبر تبني منطق الحكاية في المسرح.. وتكمن أهمية المسرحية في الكتابة، في التساؤل الذي تفرضه حول ماهية الدرامي والسردي في المسرح. وفي طرح الحكاية كإشكالية للبحث.. وإعادة النظر في وضعها بالمسرح، وكذلك في تخطي فكرة فصل الأجناس الأدبية التي أخذها الأدب العربي عن الغرب”([29]).

 وإذا كان بريخت قد قال ذات مرة: «لو استطعت أن أمتلك مسرحًا لتعاقدت مع مُهَرجَين يخرجان في الاستراحة ويتبادلان الرأي حول مدلول العمل ويقيسان رد الفعل عند الجمهور، فيبدو أن سعدالله ونوس قد أخذ بنصيحة بريخت فاستدعي فن الأراجوز لمسرحه في نصه الأخير، فدخول المهرجين على البناء المسرحي يعد حيلة ذكية اشتهر عن بريخت أنه كان يستخدمها لتحقيق مبدأ التباعد في مسرحه الملحمي الذي كان يعارض به مبدأ الاندماج والتطهير عند أرسطو، لأن المهمهة الأساسية في رأيه- هي شرح قصة تعليمية وتوصيل مدلولها من خلال تأثيرات التباعد المناسبة([30]).

 وكأن “فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة” هو تتمة شارحة للفصل السابق عليه “فصل الرقي والتمدن”، وفي هذا الفصل يحتدم الجدل بين شخصيتي الأراجوز والصبية:

(يدور الأراجوز والصبية، واحدهما وراء الآخر وكأنهما في غمار مطاردة. يتوقفان فجأة. يتناول الأراجوز طربوشًا ضخمًا، يرفعه فوق عصًا. وترفع الصبية قبعة ضخمة جدًّا فوق عصًا أخرى. يبدآن جدلاً، يتناوشان خلاله بفظاظة وعنف. وينتهي الأمر بهما إلى الشجار)
الأراجوز:الطربوش علامة التدين.
الصبية:والقبعة علامة التمدّن.
الأراجوز:أتمسَّك بالطربوش، لأنه التعبير الوافي عن ديني وقوميتي.
الصبية:لم تذكر الكتب أن الرسول وصحابته، لبسوه أو أوصوا به.
الأراجوز:ولكن آباءنا، وأجدادنا، وأجيالاً من السلف الصالح، لبسوه، فصار ميزة وهوية.
الصبية:ما الطربوش إلا لباس تركي يقمع الرأس قمعًا، وفي الصيف يحجب التفكير تحت ضباب من البخر واللهب.
الأراجوز:ما القبعة على رأس الشرقي، إلا فكرة هزمت فكرة، ورذيلة قالت للفضيلة.. أنا جئت فاذهبي.
الصبية:ما الطربوش إلا جمود ومرض.
الأراجوز:إن الأفكار الإسلامية لا يصونها إلا الطربوش. وهي تحت القبعة تفسد وتبوخ.
الصبية:القبعة حرية وصحة عقلية.
الأراجوز:هي تشبه بالكفار، ومن تشبه بالكفار فهو كافر، القبعة كفر وفجور.
الصبية:والطربوش مسخرة وجمود.
الأراجوز:الطربوش.. هو الأصل.
الصبية :والقبعة.. هي العقل.
الأراجوز:الطربوش..
الصبية:القبعة..

(يتماسكان، ويتبادلان الصفعات واللكمات، فيما يحاول الشاب الفصل بينهما. تختفي الإضاءة)([31])

 يأتي هذا الفصل ردفًا لسابقه، فيبدأ من حيث ينتهي الفصل السابق بالجدال حول الطربوش والقبعة بوصفهما تمثيلاً لقيم منشودة، غير أن أبطال هذا الجدل في هذا الفصل ليسوا شخوص الفصل السابق، فتكون الاستعانة بفن الأراجوز، في فصل يميل للمخاتلة، حيث يعزو الأراجوز الاستعانة بالطربوش لغرض فني وهو تمثيل رواية جديدة، فيقول: “لأن أبطال الرواية وقورون. والناس الوقورون لا يرتدون إلا الطرابيش”([32]).

 وفي حين أن أرسطو كان يرى أن “الحبكة هي روح الدراما ومبدؤها الأول، فهي التي تشد أجزاء العمل الدرامي وتجعلها تتآزر فيما بينها، لتكون كلاًّ واحدًا تنتظم أجزاؤه انتظامًا محكمًا، بحيث لو تغير جزء منها أو نُزعَ، انفرط الكل واضطرب”([33])، فإن سعدالله ونوس بدا في مسرحه عمومًا متمردًا على قواعد تلك الدراما الأرسطية، وأكثر ميلاً نحو تجريبية بريخت الطليعية، لما في مسرح بريخت من رحابة قولبية ومرونة بنائية تسمح للنص المسرحي باستيعاب أشكال متنوعة من الحكايات على مستوى الشكل، وباحتواء المقولات الثورية الكبرى على مستوى المضمون؛ فلقد “أدرك بريخت أن المسرح في صيغته الأرسطية فن محافظ، يتوسل بمواضعاته وتقاليده الجمالية إلى تكريس القائم، وتغريب المقهور عن همومه الحقيقية، وكان الطريق إلى خلق مسرح ثوري، يعني تقويض الشكل التقليدي”([34]).

 وإذا كان فن الأراجوز فنًّا منتميًا للتراث الشعبي، فإن توظيف ونوس له يجيء ضمن لعبة حداثية، وهي تكنيك (المسرح داخل المسرح) الذي أخذه ونوس عن لويجي بيرندلو المؤسس الحديث لهذه التقنية، وإذا كان بيرندلو قد أدخل هذه التقنية في مسرحه خروجًا على رتابة المنطق الكلاسيكي في صياغة الخط الدرامي وتمردًا على الروح الرومنطيقية كما يقول في شهادته عن مسرحيته “ست شخصيات تبحث عن مؤلف”: “ومما يدعوني إلى الابتسام أن أسمع البعض يقول الآن: إن المسرحية لا تحقق كل ما كان يمكن أن تحققه من قيمة، ذلك لأن تركيبها تنقصه الحبكة وتأليفها ليس متناسقًا، بل مختلطًا في جملته لافتقار العمل إلى الروح الرومنطيقية”([35])، فإن سعدالله ونوس- كذلك- يستخدم الأراجوز في مسرحه تحريرًا للحكاية المسرحية من أحادية المسار، تأسيسًا للتعددية في مستويات السرد التي يقول عنها ونوس: “أستخدم مستويات من الـ démystification، وسأحاول أن أجد المعنى باللغة العربية، أظنه نوعًا من “كسر القدسية” مهما كان نوعها، وهذا من خلال عنصر فرجة شعبية وهي الأراجوز، والأراجوز في النص عنصر من خارج “أسرة العمل المسرحي”، أي من خارج أسرة الحكاية الرئيسية”([36]). وإذا كان سعدالله ونوس قد عني في تأسيسه لحداثة مسرحية بتطعيم مسرحه بأنماط من القوالب التراثية وفنون التعبير الشعبي، فإنه كان على وعي بضرورة أن تكون تلك الفنون عناصر مكملة تنتظم في فلك البنية الكلية للعمل المسرحي، لا أن تكون أساسًا له، وألا تُستخدم تلك الأشكال الفلكلورية لتكون هي العنصر المهيمن على بنية الهيكل المسرحي، فقد رفض ونوس ما وصفه باستفادة رشاد رشدي من فلكلور الشعب في مسرحية “بلدي يا بلدي” بتقديم فكرة ضد الشعب ولغير صالحه، كما كان ونوس حريصًا على ألا يكون استخدام العناصر الشعبية تزيدًا يثقل كاهل المنظومة المسرحية، فقد أكد ونوس في “بيانات لمسرح عربي جديد” بأن أمام هذه الحركة التي ترمي إلى تجديد المسرح العربي ما وصفه بـ”أفق واسع للاختيار والتجريب. كما أن لديها إرثًا غنيًّا من الأشكال وأنماط التعبير الشعبية يمكنها الإفادة منها. وهي حتمًا ستستفيد منها، وتوظِّفها بطريقة أجدى وأسلم من تلك التي يتبعها أولئك الذين يريدون أن يبنوا ثقافة على الفلكلور، أو يعوِّضوا نقصًا ثقافيًّا وحضاريًّا بترميم الفلكلور وتطويره، أو يستجيبوا فقط لدواعٍ سطحية في التجديد، وتجريب الأشكال. فالفلكلور في حركتنا له قيمة أخرى ووظيفة مختلفة. فبقدر ما يلتحم مع مضمون، ويحقق بشكل أفضل وصول هذا المضمون إلى أذهان المتفرجين يمكن الإفادة منه، وتوظيفه”([37]). فلا بأس من الاستعانة بالتراث في قالب مسرحي تجريبي، دون الوقوع في تناقض أو تصادم بين البنية التجريبية المؤطرة للنص والعرض المسرحي والعنصر التراثي المدخل في إطار البنية الكلية للنص المسرحي، فقد أكد “ألفريد فرج على الدور الكبير الذي يلعبه التراث والمألوف عمومًا في تكوين بنية التجريب قائلاً: (لا يوجد تجريب بدون تراث، ولا يوجد مسرح تجريبي بدون مسرح تقليدي، ولا يمكن وضع التجريب في مواجهة التراث بل هو يستلهم التراث ويتجه إليه) أي أن التجريب لا يمكنه أن يكون مضادًّا للتراث أو في مواجهة معاكسة له، بل إن التراث يصب في التجريب وهذا الأخير يستلهم منه لتجسيد رؤاه”([38]). وبقدر حرص ونوس أن تكون الاستعانة بتلك الأنماط الخارجية من ألوان التعبير الشعبي كالأراجوز بطريقة تجعل وجود هذه العناصر مكملاً لبنية النص المسرحي ومؤكدًا لمقولاته، بقدر ما كان حرص ونوس على أن يكون توظيفه تلك الفنون الشعبية كفن الأراجوز ملائمًا للإطار الكلي للنص ومطوَّعًا للالتئام ضمن هيكله العام، فيكون ثمة توافق ديناميكي في تفاعل عنصر الأراجوز مع المنظومة الكبرى لمكونات البنية الكلية للمسرحية، فلا يكون الأراجوز جسمًا دخيلاً على جسد النص، فتلفظه مناعته العضوية لغرابته.

 يعمل المشهد على إبراز الجدل المحتدم بين الأراجوز والصبية لموضوع الخلاف الفكري الذي يصل لدرجة النزاع الإيديولوجي عبر الإبراز السيميولوجي العلاماتي لقطبي الترميز المحيل إلى جوهر الصراع القائم بين تيار الحداثة في مقابل تيار المحافظة، وذلك بتضخيمه المبالغ في أحجام حوامل- العلامات كالطربوش والقبعة، في مقابل استبعاد أية عناصر بشرية يفترض أن ترتدي الطربوش أو القبعة، حيث تفيد سينوغرافيا المشهد من ممكنات الفن الكاريكاتوري الذي يتلاعب بأبعاد العناصر تسليطًا لأضواء التلقي نحوهما باعتبارهما مجالاً للجدال وموضوعًا للحجاج ومبعثًا للصدام، وعلى بساط المفاخرة أو بالأحرى المفاضلة بين الطربوش والقبعة يدور النزال الحواري بين الأراجوز والصبية، لتبدو كل ذات منهما ذاتًا ضدًا للآخر، “فالذات المضادة Anti-subject هي تلك التي من أجل أن تحقق غايتها يجب أن تعرقل مطلب ذات أخرى”([39]).

 فيعمل هذا الجدال على إذكاء درامية المشهد، كما تبرز حزمة من ثنائيات القيم المتضادة في إطار هذه المناظرة بين الأراجوز المستمسك بالطربوش، والصبية الداعية إلى استبدال القبعة بالطربوش، فتضع المبادلة الحوارية التدين في مواجهة التمدن باعتبار أن كلاً من الطربوش والقبعة أشياءَ قيمةٍ، فتكون العلامة المادية المحسوسة حبلى بعلامة قيمية مجردة، فالأراجوز يرى الطربوش رمزًا للدين والقومية وعلامة مائزة للهوية، ويؤسس لمشروعية رؤاه على منهج اتباعي للسلف من الآباء والأجداد، وهو ما يلقي بحجر التساؤل في أنهار الوعي تحريكًا لتيارات الشك النقدي حول المسلمات المتوارثة التي حازت حصانة طوطمية بتطاول الآماد، فيمتد النقد ليطول إحدى آفات العقل العربي في تسليمه المجاني للتراث دون فرز واختيار لما يصلح منه للاستفادة به، فذلك الاتباع المطلق لمسلمات التراث لدرجة تقديسه، يمثل “سلطان الماضي على الحاضر هو بمثابة السيطرة التي يفرضها الموتى على الأحياء”([40])، فقد بات التدين، والانتماء القومي والهوية الوطنية رهينة بالطربوش الذي فرضه السلف، وهو ما يثير قضية بالغة الأهمية حول التدين الشكلي، وقصور العقل العربي في إدراكه المفاهيم الكبرى على القشور والشكليات دون إيغال نافذ بلوغًا لجوهرها، وفي هذا الشرك تقع الصبية- أيضًا- بدفاعها عن القبعة باعتبارها مظهرًا للتمدن والرقي الحضاري، فيبدو العقل العربي في إدراكه القضايا الكبرى قاصرًا على الملموسات وعاجزًا عن بلوغ المجردات التي تمثل جوهر المفاهيم وكنهها، كذلك تبدو مشكلة الذات العربية في ميلها في ولاءاتها للتبعية للخارج (تركيا/ الغرب) واستلهام نماذجه مثلاً يُحتذى، مسلمًا به.

 ومن أبرز آفات الشخصية العربية عدم قبول الآخر، والذهاب إلى رميه بأقسى التهم، وهذا جراء السقوط في آبار الدوجماطيقية والتعثر بأوهام امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا غرو أن “الإنسان منذ نشأته، ينشد الحقيقة المطلقة بحكم أن العقل الإنساني ينزع بطبيعته نحو توحيد المعرفة الإنسانية… والإنسان ينشد الحقيقة المطلقة كذلك بحكم إحساسه بعدم السكينة في هذا الكون المجهول”([41]).

 إن هذا الخلاف الذي وصل إلى حد الاشتباك بين الأراجوز والصبية يكشف عورات الشخصية الجمعية التي تفتقد التسامح. إن هذا الصدام يبدو ثنائي الجبهة، فـ”إبستمولوجيًّا التعصب وليد الدوجماطيقية، وسوسيولوجيًّا التعصب وليد التناقض بين الوضع القائم والوضع القادم. بيد أن ذلك لا يعني انفصالاً بين الإبستمولوجيا والسوسيولوجيا، إذ هما متضايفان ومتلازمان. أي دوجما هي مطلق عيني يمكن أن يكون أساسًا للمجتمع، وبهذا المعنى فإن أي نظام اجتماعي يرقى إلى مستوى المطلق فإنه يتعصب ضد أي اتجاه ينشد تغيير الوضع القائم”([42]).

 إن النص الونوسي يبدو متعدد الطبقات في حفرياته السيميولوجية، فثمة مستويات متراكبة من أنظمة العلامات، تتمدد بين العلامات اللغوية والعلامات الفوق لغوية، غير أن هناك نظامًا علاماتيًّا يقع في المابين النظام اللغوي والمابعد لغوي، يتمثل في التوزيع الكاليغرافي للمحتوى الكتابي لتلفظات النص على الفضاء الورقي:

الأراجوز:الطربوش.. هو الأصل.
الصبية :والقبعة.. هي العقل.
الأراجوز:الطربوش..
الصبية:القبعة.. ([43])

 تأتي الجملتان الأولى والثانية متماثلتي البنية في التركيب النحوي والصوت‘ فالجملتان متطابقتان في الأصوات المتحركة (الصوائت) والصوامت وتنتهيان بنفس الحرف (اللام) وهو من حروف الجهر، الأمر الذي يخلق اصطكاكًا صوتيًّا وموسيقيًّا يمثل قاطرة لتعالقات دلالية تتواتر على إيقاعات البنى الصوتية، ولعل التماثل الصوتي بين جملة الأراجوز (الطربوش.. هو الأصل)، وجملة الصبية (والقبعة.. هي العقل)، رغم تقابلهما الدلالي، يجسد حالة من الندية تؤجج الصراع القائم بينهما.

 وإذا كانت الكلمتان/ العلامتان (الطربوش/ القبعة) تمثلان مشهديًّا قطبي الصدام، فإنهما في بنية التركيب الجملي تجيئان مسندًا إليه، أي مركزًا محوريًّا يُكسب العناصر (المسند) هويتها، ثم ما يلبث المسند أن يختفي من التركيب في الجملتين الأخيرتين من المقطع الحواري، ولا يبقى غير (الطربوش/ القبعة) في الجملة متبوعين بتنقيط، مما يستلزم عند الأداء التمثيلي أن يتبعهما وقفة قصيرة قبل استئناف الجملة، وهو ما يسلط عليهما بمفردهما الانتباه مع استبعاد أية عناصر مسندة، ولكن التنقيط يجعلهما يحتملان كثافة عالية من المسندات الممكنة، غير أن الأهمية لكلمتي الطربوش والقبعة تكمن في أن أية مسندات محتملة تدين لهما بالارتباط والاستقطاب.

 وإن لهذا التشكيل الكونكريتي للحمولة الكتابية التي يتبوأر فيها النص المكتوب في تبادلية تجادلية مع النص الصامت المتمثل في فضاء الفراغ الأبيض دورًا في تشكيل الدلالات، فلقد نبه “إيزر” للدور المكمل الذي يلعبه البياض في كتابة الخطاب فيما يسميه “الفراغات أو الفجوات النصية”([44])، وهو ما يسميه “شولر” بـ”مناطق العمى، وهي تقوم على افتراض أن النص لا يستطيع أن يقول ما يعنيه تمامًا، مما يجعل كثيرًا من النصوص تبدو نصوصًا ناقصة أو غير مكتملة، مما يسمح لنا بأن نركز عليها، وتمنحنا فرصة طيبة للقيام بدور فاعل في تفسيرها، إضافة إلى أن مناطق العمى هذه قد تخفف من حدة القصدية الواحدة التي تدور في فلك المؤلف نفسه، ولا تسمح بمقاصد مفترضة أو متخيلة أو متعددة يشارك المؤلف في إنتاجها”([45])، فثمة- عبر المقطع السابق- انزواء للمسندات (هو الأصل/ هو العقل)، مع بقاء بؤرة الصراع (الطربوش/ القبعة)، وهو ما قد يعكس أن استمساك طرفي الصراع (الأراجوز/ الصبية) بهما هو في النهاية تمسك شكلي، بغض النظر عن معللات هذا التمسك وعلل قناعاتهما بأي من العنصرين، كما أن هذا التوزيع المتراوح لمقولات النص بين السواد والفراغ أو البياض يجعل لحيز الخط إيقاعه الخاص، ويتيح لعملية التلقي إمكانية “المزاوجة بين بلاغة العين وبلاغة الأذن، يقول أحمد بلبداوي: “حينما أكتب القصيدة بخط يدي، فإني لا أنقل إلى القارئ معاناتي فحسب، بل أنقل إليه نبضي مباشرة، وأدعو عينه للاحتفال بحركة جسدي على الورق. يصبح للمداد الذي يرتعش على البياض، كما لو كان ينبع من أصابعي مباشرة لا من القلم، ويغدو للنص إيقاع آخر يدرك بالعين مضافًا إلى إيقاع الكلمات المدرك بالأذن”([46]).

 ولكن لمَ جعل ونوس الصبية/ المرأة حاملاً لألوية التغيير ومشاعل الثورة؟ بينما الأراجوز بما يحمله من معاني الذكورية والجمود باعتباره دمية مدافعًا عن الأوضاع الراديكالية ومتعلقًا بأهداب الانتماء للعثمانيين الأتراك؟ هل هي ثورة المرأة ضد التقاليد البالية والمظاهر الجامدة؟

 وإذا فحصنا فصلي التمدن والرقي والمفاخرة بين الطربوش والقبعة، فأي تناظر يجمع بينهما؟ وأي تمايز يفرقهما؟ فالفصل الثالث من المسرحية (التمدن والرقي) يجيء بمثابة متن، أما الفصل الرابع (المفاخرة بين الطربوش والقبعة) فبمثابة حاشية للمتن السابق عليه، أو بمثابة المشبه به بالنسبة للمشبه، فالفصل الرابع “فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة”- بمفرده- بمثابة استعارة تصريحية كبرى، وإعادة توزيع لمعزوفة الفصل الثالث “فصل التمدن والرقي” ولكن بآلات مجازية مغايرة لتلك التي استُخدمت في عزف مقطوعة الفصل السابق عليه.

 غير أن التمايز بين الفصلين يكمن في أن الحوار في “فصل التمدن والرقي” هو حوار متنامٍ دراميًّا، يعمل على تطوير الأحداث، بخلاف الحوار في “فصل المفاخرة بين الطربوش والقبعة” الذي يبدو دائريًّا، يدور في فلك دائرة مغلقة، بلا أي تصعيد يُذكر للحدث.

 بيد أن ما يكون من تكرار تصويري لجوهر الحكاية لا يصيب الحكاية بالجمود نظرًا لتغيير الممثلين، بل تغيير القالب الفني بالانتقال لفن الأراجوز، في ظل تعدد الحبكات وما يجمع بينها من تداخل متواشج العرى، وتوازٍ في المغزى والمضمون، فتجيء بنية تلك المسرحية على “صورة (حبكة- إطار) تولد داخلها (حبكة أخرى)، تتداخل، وتتقاطع خطوط حركتها معها؛ بحرية ومرونة كبيرتين؛ دون أن تفقد أي واحدة منهما تأثيرها أو مفعولها، أو تضيع أهدافها”([47]).

 إن هذا التداخل الحبكي، والتوازي الحكائي، بتضفير خيط فن الأراجوز ضمن نسيج البنية الدرامية للنص المسرحي، يؤدي غرضين: تقوية التغريب أي جعل المتلقي يشعر بغرابة ما هو مألوف وواقعي أو ما يشبه الواقع، بنزع المألوفية عنه، وكسر الإيهام حتى يخرج المتلقي من وهم الحكاية، فيتعطل الوهم التخيلي المتماهي مع أحداث الحكاية في إطارها العام أو ينخفض أثره، بالانتقال لفن الأراجوز في إطارها الداخلي وخطها الموازي.

 غير أن هذا الفصل لا ينتهي لاختفاء الإضاءة، إذ يكون هناك مشهد حواري آخر بين الحفيد وأمه ليلى:

الحفيد:أمي.. ماذا أصاب جدتي يومذاك؟
ليلى:تقيأت.. وتقيأت.. كادت تخرج أمعاءها من بطنها.
الحفيد:هل كانت مريضة؟
ليلى :قالت.. إنه برد، وإنها تحسنت بعد أن أفرغت معدتها. ثم أمرتني أن أتركها، وأعود إلى الاحتفال([48]).

إن انتقال المخطط النصي من مشهد الاشتباك الحاد بين الأراجوز والصبية إلى المبادلة الحوارية بين الحفيد والأم ليلى يؤكد على التواشج الدلالي بين القصتين، بحيث تكون حكاية الأسرة التي دفع الأبناء فيها أباهم إلى الانسلاخ من هيئته وهويته إطارًا أعم للحكاية الرمزية بين الأراجوز والصبية وتجادلهما حول الطربوش والقبعة التي تكون إطارًا متولدًا عن الإطار الأعم وموازيًا له. كما يعمل مؤشر الحركة الدرامي المتأرجح بحركته البندولية بين دفات الزمن؛ وإذ يتوجه سهم الحركة الدرامية نحو الزمن الآني في تفجير الحفيد للقضية موضع الإشكالية، ثم يرتد المؤشر للوراء نحو الماضي، حتى يعود في مسألة الحفيد للأم ليلى للزمن الحاضر، وما بينهما من حكاية الأراجوز والصبية، فهو زمن مراوغ، خارج عن قضبان التحديد الزمني، زمن متمرد على الدوران في فلك التعيين الوقتي، فأي مرونة يتحلى بها النص الدرامي في الارتباط بالزمن، وأي رشاقة يبديها في التقافز ما بين الأزمان؟ إنه نص يكسر الحواجز الزمنية، ويسعى لإلغاء التمييز بين الأزمان، فالحاضر ابن الماضي، والأمثولية الرمزية هي توأم الحكاية الدرامية.

 والمتأمل لبنية الزمن بالتوازي مع بنية الحكي يجد أن هذه المسرحية تطرح “العلاقة بين الخاص والعام. عبر عملية مركبة تقوم على تفتيت مكونات الحكاية إلى جزئيات أولية، هي الأحداث التي تمت في الماضي، ثم محاولة جمع هذه الأجزاء في حاضر بعيد عنها زمنيًّا، ولكنه ليس بالضرورة مختلفًا عنها. وهذا ما يعطي نوعًا من التراكب الزمني، بين زمن البحث والقص وزمن الحدث، الذي يُعرض في الماضي الذي تم فيه، أي سياقه الجغرافي والتاريخي. والحكاية هنا تتموضع في زمن مفصلي هو زمن انتقالي بين مرحلتين تاريخيتين، مما يسمح بطرح مختلف المواقف وانعكاسها على الحاضر المعيش، انطلاقًا من هذا السياق”([49]).

 إن حركة الزمن في الأيام المخمورة هي حركة ضد الزمن، تكسر نمطيته وتنسلخ من عليته الرتيبة، “وهي حركة تتداخل فيها مستويات الزمن الإيهامية بمستويات الزمن الواقعية، فهي تمثل في جوهرها صراعًا بين (الزمن واللازمن)، وبين (الحقيقة والوهم)، وهذه الحركة الزمنية تميزت بها مسرحيات القناع أو المرآة التي اعتمدت بنيتها وسيلة (مسرح داخل مسرح)، وهي تتميز بالتداخل بين أن تكون إيهامية أو غير إيهامية من جهة، وبين أن تستوعب الأزمان الثلاثة من جهة ثانية، فالانتقالات بين الأزمان- في هذا النوع من المسرحيات- تتم بطريقة مرنة وسريعة ومفاجئة إذ إن المستويات العديدة لحركة بقية العناصر الدرامية؛ تجعل حركة الزمن غير مستقرة، ومتغيرة على الدوام، إلا أن كل المتغيرات التي تحدث في هذه الحركة تمتلك مبرراتها المقبولة، وذلك لاتباعها ما تمليه متطلبات الحركة المعتمدة على ثنائيتي (الوهم/ الحقيقة) و(الفن/ الحياة)”([50]).

سعد الله ونوس

استبدال اللغة- إحلال هوية

إن مساعي الأبناء للعصرنة لم تكن فقط بتغيير ملبس الأب وهيئته، ولكن استبدل بعضهم اللغة الفرنسية باللغة العربية:

الحفيد :لا نستطيع أن نحدد متى قررت الخالة سلمى، أن تتكلم بالفرنسية فقط، وألا تستعمل العربية إلا مع الخدم وفي أدنى الحدود. ومرة سألتها.. هل كنتِ تحبين زوجك.
سلمى:كان شابًا متمدنًا وميسورًا، وكانت ليونته، والوسط الذي يعيش فيه، يلائمان تمامًا ما كنت أصبو إليه([51])

 إن اللغة هي مرآة الوعي ومدار الفكر، غير أن تنكر سلمى للغة العربية وتخليها عن عربيتها، واختيارها الفرنسية لغة للكلام يعبر عن تنكر- بوعيٍ أو بغير وعي- للهوية القومية التي تنتمي إليها، فلم تعد تتحدث العربية إلا مع الخدم، فثمة تأسيس لطبقية لغوية، فباتت اللغة الفرنسية، لغة المحتل هي لغة التعامل الغالبة، ولم تعد العربية إلا لغة للتعامل مع الطبقات الدنيا، بما يعكس شعورًا بتدني العربية لغةً وهويةً.

 غير أن ولاءات الخالة سلمى لا تستقر على مركز للولاء ولا تثبت على موقف تتبناه في معتنقاتها التي تحرك منتمياتها:

الحفيد:هل كنت تتعاطفين مع الفيشيين؟ أم أنك أخطأت الحساب، ولم تعرفي كيف تبدِّلين ولاءك في الوقت المناسب؟
سلمى:أتظن خالتك طرطورة يا ابن الخرساء؟ كان الفيشيون أصدقائي، ويقضون ساعات اللهو، وأحيانًا ساعات الجد في صالوناتي. كانوا هم الفرنسيين بالنسبة لي. وكنت بينهم الملكة التي يشاطرونها أسرارهم، ويفوضونها في ترتيب ما يحتاجونه من لهو ومتعة. كانت لي مملكة وكنت أتلألأ فيها.
الحفيد:لو عرفتِ كيف تغيِّرين ولاءك، لبقيت الملكة والمملكة.
سلمى:لا أحب الإنكليز، ولا أولئك الذين كانوا يزحفون وراء الإنكليز، ويتشدقون بأنهم فرنسا الحرة.
الحفيد:هل آذوك حين أوقفوكِ، واتهموكِ بالعمالة لحكومة فيشي؟
سلمى:آذوني..! كان التحقيق مسخرة، وبعد يومين أطلقوا سراحي، كي يواروا خجلهم، ويتقوا سلاطة لساني.
الحفيد:وماذا فعل أخوكِ الملك؟
سلمى: لا تذكرني به.. ولا أعجب أن يكون هو الذي وشى بي، وحرَّض علي. وعلى كلٍّ.. منذ تلك الحادثة انقطع ما بيني وبينه.([52])

 إن ما يكشف زيف ولاءات الخالة سلمى وانتماءاتها الفكرية هو ارتباطها بالتيارات ذات النفوذ والتي تجلس على سدة الحكم في المقام الأول، فحكومة فيشي التي حكمت فرنسا إبان فترة الحرب العالمية الثانية من 1940 حتى 1944 أثناء تقسيم فرنسا لشطرين أحدهما خاضع لحكم الاحتلال الألماني، أما الشطر الآخر فكان تحت حكم حكومة فيشي التي مالأت الاحتلال الألماني للبلاد وعقدت معه هدنة، فهي حكومة أقرب ما تكون إلى كونها حكومة عميلة، تعمل ضد مصلحة فرنسا. في حين كانت هناك حركة فرنسا الحرة وحكومتها التي تتخذ من لندن مركزًا لها لمقاومة الاحتلال الألماني وتحرير البلاد. أما ارتباط الخالة سلمى بالفيشيين رغم أنهم محل شكوك في ولاءاتهم الوطنية لفرنسا، فيكشف أن توجهات الخالة سلمى نحو “الفرنسة” لم تكن إلا بدافع تحقيق المصلحة الشخصية، وتتجلى الأنانية في أقوى صورها في شك الأخت سلمى بأن أخاها سرحان قد زج بها وأبلغ عنها ليقبضوا عليها، فتلك أيام مخمورة يضحي فيها الأخ بأخيه أو بأخته في سبيل تحقيق مصلحته، فبات كثير من الناس يهوذي المسلك، لا يجدون حرجًا أخلاقيًّا في التضحية بأقرب الناس من أجل المنفعة الفردية الخاصة.

 من الواضح أن الاحتلال الأجنبي هو من أفسد الزمن، فأمست الأيام مخمورة، فالاحتلال الفرنسي يقطع الأحداث ويلقي بظلاله على الوقائع:

(الإضاءة خافتة لا تكاد تبدي العتمة. وهي تضفي على الحركات طابعًا شبحيًّا. فراش عريض ووثير في غرفة الأب والأم. سناء تنام على جنبها. يأتي عبدالقادر، ويتمدد وراءها. يمسكها من كتفها، ويحاول أن يقلبها على ظهرها. تنقلب سناء، دون مقاومة، متمددة على ظهرها).
عبدالقادر:إذن لبّي رغبتي، وافعلي ما يرضيني.
سناء :سأفعل.. سأفعل. ولكن لا تغضب، ولا تجعل الأولاد يكشفون أمرنا.
عبدالقادر:(وهو يثبت يديها، ويزحف فوقها) أنتِ لي.. ولن أبتعد إلا فيكِ.
سناء:أرجوك أن تكون لطيفًا.
عبدالقادر:(وهو يمزق سروالها) لا تتفق اللذة مع اللطف.
الحفيد:وكانت تلك الأيام مخمورة، تترنح بالإباحة والشهوة. جاء السيد دي مارتل، مفوضًا ساميًا. كان محنكًا بلا وازع، وماجنًا بلا رادع. خطف عقول القوم، فخلعوا ما بقي من التقاليد والقيم القديمة. وانهمكوا على دين سلطانهم، في البحث عن المباهج والملذات. كانت الأيام مخمورة، تترنح بالإباحة المفاجئة، والرغبات الذاهلة.([53])

إذا كانت الإضاءة الخافتة تناسب هذا المشهد الجنسي، حيث كثيرًا ما تلجأ السينما أو المسرح إلى خفض الإضاءة في مثل هذه المشاهد، التي غالبًا ما تكون بمثابة إيماءة تشير إلى الفعل الجنسي، فيكنى عن الإظهار البارز للممثلين في تلك المشاهد بتصدير الظلال الشبحية، التي تلعب دور (الكناية) في الإعلام بالمضمون الجنسي للمشهد. وما يشهده المشهد من توتر وحدَّة بين الزوجين يمهد الأرض للباحث عن مكنون الدمل وتبيان أسباب المشكلة، فثمة حالة انعدام توافق في ممارسة العلاقة الحميمة بين الجد/ الزوج/ عبدالقادر والجدة/ الزوجة/ سناء، بل يمعن عبدالقادر في استخدام العنف مع سناء وإكراهها على فعل ما لا تريد استجابة لنزقه، ويتبدى الإكراه الذي يمارسه الزوج في حالة تصعيد للعنف الموجَّه نحوها، بتثبيت يديها وتمزيق سروالها وهو ما يمثل إشارات للقهر والإرغام المستخدم ضد الزوجة/ المرأة.

 غير أن تعليق الحفيد/ الراوي في نهاية المشهد- الفصل يثير البحث عن علاقة إرغام الزوج زوجته على معاشرته كرهًا عنها، وفساد المندوب السامي السيد دي مارتل وعبثه بعقول القوم، فهل ثمة وشيجة بين تمزيق الزوج لسروال زوجته وخلع الناس ما تبقى من التقاليد والقيم القديمة؟ حقًا، فمردود كلا الفعلين يؤدي إلى التعري، فالزوجة تتعرى من ملبسها رغمًا عنها، والقوم يتجردون من تقاليدهم وقيمهم القديمة، أي يتعرون من هويتهم، فالأيام المخمورة هي أيام الشهوة والإباحة ومطاردة اللذات دون مقاومة للمحتل، فالناس فقدوا وعيهم بفعل خمر الشهوة، فغفلوا عن الخطر المطبق على الوطن المتمثل في الاحتلال. وتبدو العلاقة بين المشهد وتعليق الحفيد عليه كالعلاقة بين القاعدة والمثال، غير أن العلاقة هنا انقلابية، فقد أتى ونوس بالمثال ثم تلاه بالقانون، فقد أمسى الفصل بمثابة استعارة كبرى عن الإفساد الذي يمارسه الاحتلال متمثلاً في شخص المندوب السامي دي مارتل. ولنا أن نتلقى العلاقة بين المشهد وتعليق الحفيد عليه كتشبيه مقلوب تَقدَّم فيه المشبه به على المشبه، باستخدام ما يمكن أن نسميه “مونتاج التماثل Similarity Montage ويتم بأخذ لقطة ومواجهتها بلقطة أخرى تتشابه مع محتواها، وهو يقوم بدور التشبيه في الشعر.. إنه تشبيه ينطوي على جديلة متشابكة من التشبيهات التي جمعت بين التصوير الشعري البلاغي المعروف والتصوير البصري السينمائي”([54]).

 حقًا، فإن شخصية المندوب السامي السيد دي مارتل، تبدو سببًا محركًا لعديد من السلوكيات، وفاعلاً موجهًا لكثير من الأحداث في مدينة بيروت في تلك الفترة:

البوري :إنها تشبه الموسكوفية، التي يتفانى في عشقها مفوضنا السامي، السيد دي مارتل.
سرحان:تلك المرأة التي لها نصيب من كل تجارة أو وساطة! سمعت عنها ولم أرها.
سونيا:وأين نحن منها! هي تلعب بالملايين، ونحن نخشخش الفرنكات.
البوري:سيأتي حظك يا سونيا.. صدقيني أنه سيأتي. انظري.. إن البلد يفور. يشهد الله إني أحب هذا المندوب السامي.. لقد أبهجنا ونفخ فينا روحًا جديدة. منذ جاء، خلع الناس الحياء، وتفتحوا للدنيا ومسراتها. أحيانًا أحس أن بيروت تتغير، وتتجدد كل لحظة. حين يتمشى المرء في ساحة البرج أو على الكورنيش، يشعر أن الهواء المحمل بالعطر والشهوة، يسري في مجاري الصدر حرًّا ومسكرًا. هواء جاء من بلاد بعيدة. يملأ النفس توقًا إلى نشوة غريبة. نعم.. إن البلد يفور يا سونيا. ولو عرفت كيف تهزّين خصرك، لجاءتك الفرص متزاحمة([55]).

 في تلك الشهادة للبوري أحد الأشقياء بمدينة بيروت، يكشف أثر هذا المندوب السامي في أهل المدينة، فالمندوب السامي/ الاحتلال قد أسرى في الناس روحًا جديدة، ودفعهم لملاحقة لذات الدنيا، والتخلي عن الحياء، فالاحتلال يغير هوية الوطن، يبدل طبائع الناس، ينسخ أخلاقهم، فالهواء القادم من بلاد بعيدة، هواء غربي، هواء الاحتلال يملأ الصدور بالعطر والشهوة، فقد دفع الاحتلال الناس للتجرد من حيائهم، وإبطال وازعهم الأخلاقي، وإخماد صوت ضمائرهم، وهو ما يدين الذين انساقوا وراء المحتل، وخضعوا لإرادته التي أملاها عليهم، نظير الفتات بإشباع غرائزهم، فالاحتلال عمل على خلخلة أنساق القيم المجتمعية وزعزعة الثوابت الأخلاقية، وهو ما يتبدى في دفع الناس إلى العهر والمتاجرة بالجسد، فقد بات الإنسان سلعة في قانون الاحتلال.

 لقد نجح الاحتلال في تلك الأيام المخمورة في شق صف الوطن، وغرس الفرقة بين الناس، وهو ما يتبدى في اختلاف منظوري الأخوين عدنان وسرحان إلى الحياة لدرجة تصل إلى حد التباين:

عدنان:(وهو يضحك) أتطلب مني كما تطلب العامة.. أن أكون منشارًا يلهف على الطالع وعلى النازل؟
سرحان:لماذا يدفع الموظفون إذن رشاوات سخية كي ينتقلوا إلى المرفأ. ألم يقل مندوبنا السامي.. “إن أهل السياسة والعاملين في الدولة مثل المرأة يظلون محترمين مهما خالفوا وأخذوا، شرط ألا يمسكهم الناس، وأيديهم في الكيس”. والله أحب هذا ال دي مارتل ومجونه.
عدنان:ولماذا يشغلك هذا العالم الفاسد الذي يعج بالرذائل؟ توقعت أن تحدثني عن الجامعة، حيث العلم والنقاء والمستقبل الزاهر. لو تعلم كم أنت محظوظ يا سرحان!
سرحان:لا تبالغ في تقدير الجامعة يا عدنان، ولا تتحسر لأنها فاتتك، بين الجامعة والحياة خندق عميق. وما نتعلمه هو أحلام هشة، لا تصمد أمام خشونة الواقع الفعلي. لا.. لن أفني سنوات شبابي في دراسة الأوهام. إن الحياة رغم صعوباتها ومخاطرها تشغفني، وتناديني، كي أنتزع حصتي منها([56]).

 لقد بات الفساد هو الحاكم ومخالفة القانون هي العرف السائد، والانتهازية قانونًا في دولة الاحتلال، وهذه هي استراتيجيات الاحتلال لا سيما في فترات الحروب الكبرى التي ينتهز فيها إحساس الناس بمداهمة أخطار الفناء لهم والعدمية، مع سريان حالة من الشك في القيم العليا ومبادئ الأخلاق، ما يفتح الباب للمحتل لكي يتغلغل في أعماق البنية الاجتماعية ليهدم ما استطاع من أنساق القيم، ومما ينجلي من حديث سرحان الذي يشير إلى المندوب السامي ممثل الاحتلال بعملية اتصال إضماري، فيأتي مضافا لضمير المتكلم الجمعي (مندوبـ نا)، ليؤكد على تحول بوصلة الانتماء لدى العديد من أبناء الوطن شطر المحتل، الذي أمسى مرجعية قيمية، أما الإحالة على المرأة مشبهًا به في الحكم الأخلاقي على الفساد، فهو علامة على عداء المحتل للمرأة وتحقيره لها، كما يضمر نظرة ذكورية استغلها المحتل تحمل شكوكًا وظنًّا تأثيميًّا تجاه المرأة. أما القيمة التي استطاع المحتل إهدارها فهي قيمة العلم، وقد علته قيم المادة، فالأحلام التي يصدرها العلم تتكسر على صخرة الواقع الصلب لهشاشة تلك الأماني التي لا تجد لها مجالاً مناسبًا لتحقيقها.

 ويبدو أن قانون المنفعة هو الحكم، والمصلحة هي التي تحرك البواعث المؤدية للأفعال، وهو ما تجلى في اختلاف مواقف الأبناء والأب في رحيل الأم سناء عن المنزل مع عشيقها، فبينما لم يعبأ سرحان وسلمى بهذا الرحيل، فقد حمل عدنان على عاتقه ملاحقة الأم طلبًا للاقتصاص منها وإزالة ما يراه عارًا أخلاقيًّا، أما الابنة ليلى فقد فقدت نطقها حزنًا وفجيعة بسبب هذا الرحيل. ولم ينجح في مداواة ليلى ومساعدتها في فك عقدة لسانها واسترداد نطقها سوى شامل السيروان خطيبها الذي أمسى زوجها الذي استشهد في غارة الفرنسيين التي ضربت البرلمان رمز الدولة والحرية السياسية.

 أما الأب عبدالقادر فرغم فورة غضبه لرحيل الزوجة مع عشيقها، فقد تناسى الأمر وترفع عن الثأر منها لانهماكه في مصالحه التجارية، في حين أنه نقض عهده التجاري مع أهل زوجته الدمشقيين، في تصرف برجماتي، وإحالة رمزية على الشأن السوري- اللبناني، وتقلبات العلاقات المتشابكة بين الدولتين حسب تقلبات المصالح وتحولاتها.

 

سناء والمرأة القرين: حوار الذات للذات

إن الحكاية الرئيسية والإطار الأعم لبنية الحكاية الدرامية هي قصة الجدة/ الزوجة/ الأم سناء، وعلاقتها الأسرية ببيتها وزوجها عبدالقادر التاجر، وفي شهادتها عن هذا الزواج تقول ليلى لابنها الحفيد: “كان جدي وأخوالي في دمشق يتاجرون بالحبوب والطحين، وكان أبي أيضًا، واحدًا من أكبر تجار الطحين في بيروت. ونشأت بين الطرفين علاقات عمل ومصلحة، تحولت مع الأيام إلى صحبة. وكانت أمي صبية يتغنى الناس بحلاوتها. كان عمرها خمسة عشر عامًا، حين اتفق أبي وجدي على توثيق التجارة والمودة بينهما بالمصاهرة والزواج.. وأقيم عرسان واحد في الشام والآخر في بيروت. وتم الزواج بين أبي وأمي([57]).

 يعمل الحوار المعتمد على الحكي على طي فترات زمنية طويلة واحتواء مراحل واسعة في أضيق مساحة ممكنة من السرد، كما يعتمد أسلوب الحكاية المَثَل قناعًا سيميولوجيًّا للحكاية الواقعية المحال إليها، فهذا الزواج الذي قام على المصالح بين جد الحفيد وجدته، هو رمز علامي للعلاقة التاريخية المعقدة والزواج السياسي القائم بين لبنان وسوريا على المصالح المشتركة وحسابات الفائدة والربح، فالمسرحية تنبش ولو بالترميز الأمثولي في المسألة السورية اللبنانية، كما يعمل أسلوب الحكي على تحفيز مخيال المتلقي على التصور، مختصرًا زمنًا كان سيُنفق في العرض لو تمَّ تمثيل هذه المشاهد، فبنية تلك المسرحية المغايرة للبنية التقليدية الكلاسيكية والمباينة للمفهوم الأرسطي للحكاية المسرحية تخرج على القواعد التنظيرية القديمة للمسرح القائلة بوحدة الزمان والمكان والحدث، فالرؤية المسرحية الطموح باتت تترفع عن الاكتفاء بفتات الأحداث وتناول الأحداث الصغرى، طمعًا في أن يضم النص المسرحي الشمس بكفي مؤلفه ليمسك برؤية بانورامية عميقة تستوعب العالم في مبادئه الكلية الكبرى وأحداثه المفصلية العظمى.

 إن حكاية سناء هي مفتاح تقرير المصير وحسم الهوية بالنسبة للحفيد، فهي الحكاية ذات الإطار الأعم المرتبط بالإطار الرئيسي للحكاية المسرحية (حكاية الحفيد)، فهي الدمل الذي يجب أن يُفقأ، والجرح الذي يحتاج للكي من أجل التطهر والتخلص من صديد الماضي المسكوت عنه في العائلة، بيد أن حكاية سناء تأبى إلا أن تدور في فلك من الغرائبية التي تبرز في علاقة سناء بتلك المرأة التابعة التي تمثل شبحًا لها كما في “فصل سناء والتابعة”:

(تمضي سناء بخطى قلقة نحو النافذة، لكن قبل أن تصل إليها، تنفتل مبتعدة عنها. تتهاوى على إحدى الكنبات. تُخرج من صدرها حجابًا مثلث الشكل، تقبله، وتضعه على جبينها مرات ثلاث).
سناء :(بضراعة.. هامسة) اللهم لا تحبس رحمتك عني. يا رب.. وأنت العارف ما في السريرة، احمني من شر نفسي، وطهرني من الوسواس، الذي يكدر روحي. يا رب.. إن عبدتك في محنة ما بعدها محنة. فاحمني من مكائد الشيطان وتزاويقه. يا رب.. إني أفوض أمري لك.

(تدخل امرأة تماثل سناء في الطول والقوام، ترتدي ثوبًا ناريًّا. وجهها شديد البياض، تبرز فيه عينان، سطوتهما لا تقاوم. تربط شعر رأسها بمنديل حريري موشى بزهور ملونة وصغيرة. تقترب منها، وتجلس قربها).

سناء:(تبتعد عنها بإعياء وغضب) ما الذي جاء بك؟
المرأة:ألهمني قلبي، أنك تتمنين حضوري.
سناء:لم أتمنَّ حضورك، ولا أريد أن تفسدي ابتهالاتي.
المرأة:(وفي صوتها بحة وخشونة) هل تبتهلين إلى الله، أن يعذبك ويجعل أيامك شقية؟
سناء:أبتهل إليه أن يحميني. إني امرأة متعبة، ولا أتحمل هذا الوجع.
المرأة:هذا وجع يختلف عن الوجع. إنه وجع ممتع، ولا يعرف القلب كيف يميز، أين الممتع وأين الموجع.
سناء :لا تبدئي في تنويمي. عزمت على أن أحسم أمري.
المرأة:وهل أطلب إلا أن تحسمي أمرك.
(تظهر ليلى، وهي تحمل صينية عليها ركوة القهوة والفنجان. تتلكأ في مشيتها، وهي تحملق في الكنبة، حيث تجلس أمها).
سناء:حاذري.. إن ابنتي قادمة.

(تتوارى المرأة)

ليلى :(مرتبكة) هذا غريب.. كأني رأيت امرأة أو هيئة غريبة إلى جوارك!([58])

تترواح حركة المشهد بحركة سناء القلقة نحو النافذة بين الداخل والخارج، الفضاء المغلق والفضاء المفتوح، ولكن أي تردد يساور سناء حين تتوجه إلى النافذة/ الخارج؟ وإذا كانت لثنائية الداخل/ الخارج حضور سيميولوجي أبعد من دلالاتهما المكانية، فكما يرى “باشلار” أن الخارج والداخل يشكلان “انقسامًا جدليًّا.. لهذا الجدل حدة النعم واللا، التي تحسم كل شيء.. وحين يواجه الفلاسفة الخارج والداخل فإنهم يفكرون بمصطلحات الوجود والعدم. وهكذا، فإن الميتافيزيقا العميقة متجذرة في هندسة ضمنية، تضفي- سواء أردنا أم لم نرد- مكانية على الفكر، وإذا كان عالم الميتافيزيقا غير قادر على الرسم الهندسي، فماذا سوف يظن؟ المفتوح والمغلق، تصبحان بالنسبة له، أفكارًا، استعارات يلحقها بكل شيء، حتى بمذهبه. في محاضرة جان هيبولايت عن الهيكل الدقيق للإنكار.. تحدث الفيلسوف عن (أسطورة أولى للخارج والداخل). ويضيف: تشعر بالدلالة الكاملة لأسطورة الخارج والداخل في الاغتراب، الذي أقيم على هذين المصطلحين، فوراء ما هو معبر عنه، بخصوص صراعهما الشكلي، يقع الاغتراب والعداء بين الاثنين”([59]). إن هذا التردد بين الإقدام والإحجام، المبادأة والتراجع المتبدي في حركة سناء القلقة ثم تهاويها على إحدى الكنبات يعمل على تصدير حالة التوتر من الممثل/ الشخصية إلى المتلقي الذي يوالي الشخصية/ الممثل في حركاته ومصدراتها الانفعالية، الأمر الذي يدفع بالمتلقي للبحث عن أسباب ما تمر به الشخصية من اضطرابات نفسية تنبثق من اضطرابها الحركي، حيث إن “الممثل قد يتحرك بطريقة تمكنه من الكشف عن بعض أفكاره أو نواياه، أو قد يتحرك بدلاً من ذلك، بطريقة أقل توجهًا، نحو هدف معين، ومن أجل أن يعبر من خلال هذه الحركة غير الموجهة عن انفعال معين”([60]). ولكن النافذة- بحكم أنها مقصد الحركة- تكون علامة ورمزًا للانفتاح على الخارج، ومعاينة العالم، رمز التطلع والشوق إلى التحرر، وكذلك فهي تدفع للمفاضلة بين الداخل والخارج، حيث يطالع عبرها الداخل/ الذات- الخارج/ العالم، فالنافذة وسيلة لكسر العزلة الداخلية والتمكن من رؤية بانورامية للعالم، فثمة شعرية للتنافذ ومعاينة النافذة، وهو ما أشار إليه الباحث العراقي “شاكر لعيبي” في مقاربته لقصيدة للسياب تحضر فيها النافذة بشكل بارز، “ويشير الباحث إلى أن قصيدة السياب تُظهر النافذة بدلالتها التي تعبر عن الوحدة والتوحد والوحشة التي تعيشها المرأة، حيث تبدأ القصيدة بتسليط الضوء على التناقض الذي تشتمل عليه النافذة، فهي مطلة، وفي الوقت نفسه معزولة، هذا التناقض بين الوحدة واللقاء هو العصب الذي يحرك القصيدة من طرف خفي”([61]).

 أما انتقال المشهد من الإفراد إلى التعددية أو العكس في أصوات شخوصه وحضور الممثلين، فهو يعمل على إبراز التطور الدرامي في علاقة الذات/ الداخل بالذات/ الداخل، أو علاقة الذات/ الداخل بالآخر وبالعالم/ الخارج، ولكن ماذا إذا كان العنصر الطارئ على المشهد يحمل في تكوينه المادي أو ملامحه الشكلية عديدًا من التماثلات مع العنصر/ الممثل سلفه في الحضور إلى المشهد؟ وهو ما يدفع المتلقي لمحاولة تبيان ما بين العنصرين/ الشخصين/ الممثلين المتشابهين من علاقة وكذلك تلمس ما بينهما من تمايز وما يقوم بينهما من جدل. وتعمل هنا إكسسوارات المرأة المماثلة لسناء جسدًا على إظهارها بشكل لافت وغرائبي، يتخالف مع شكل سناء على الرغم من التماثل الجسدي بينهما، فهل يمثل حضور هذه المرأة وجودًا شبحيًّا تفعيلاً لممارسات غرائبية ستدور مما يرسخ فاعلية التغريب في المسار الدرامي للحكاية المسرحية؟

 إذا كان المسرح الحداثي البريختي الذي يمثل منبعًا ملهمًا ارتوى منه المسرح الونوسي في سقي رؤاه الفنية حول شكل المسرح ومضامينه التعبيرية وتيماته الدالة، فإن استدعاء ونوس لتلك العناصر التغريبية هو وسيلة لرفع حيوية اللعبة المسرحية وتنمية محتواها الدرامي، ومن تلك الوسائل التغريبية التي استحضرها ونوس في “الأيام المخمورة” كانت الشبحية، وهو ما لا يتعارض مع منظومة الدراما المسرحية، إذ إن الجسد المسرحي مرحب بحلول الروح الشبحية فيه، “ثمة روح شبحية في المسرح، ثمة غياب حاضر، وحضور غائب، ثمة قوة للتكرار، لعودة الغائب، وللحضور المتكرر للسحر، للحيوية للخيال، وعودة للابن الضال، للشبح الذي يحن إليه الجميع، للقرين الذي يُظن أن في يديه الحل، للغريب الذي يكون حضوره مثيرًا للشك والدهشة، الغريب الموجود في داخلنا، إليه نرنو ونتمنى، ومعه نحلم بالخلود، ومن خلاله نقاوم الموت”([62]). ويبدو تعيين الشخصية الغريبة المقتحمة المشهد بالمرأة دون تسمية إمعانًا في تأكيد الغرائبية وتأجيج الالتباس حول كونها قرينًا لسناء وظلاًّ شبحيًّا لها، لكن التوتر والحذر يخامران سناء في حضور تلك الأخرى/ المرأة الغريبة/ الذات الشبح، فسناء تتهم المرأة بإفساد ابتهالاتها إلى الله، أما المرأة الأخرى فتحاول أن تخلخل قناعات سناء بالغرض من تلك الابتهالات التي قد تعود على أيامها بالشقاء، وهو ما يستدعي عنوان النص بما يقوم به من “إحاطة نصية”([63])، فما الذي يربط أيام الشقاء بالأيام المخمورة؟ هل باتت الأيام أو أناس هذه الأيام لما فيها من شقاء بحاجة إلى أيام مخمورة كي تتجاوز حالة الشقاء؟

 من هذه المرأة التي تدفع سناء إلى التمرد؟ وما علاقة هيئتها النارية بما تسعى لأن تشعله من نيران التحريض في وعي سناء بملبسها الناري؟ ولنا أن نلاحظ العلاقة بين معنى اسم سناء الذي يعني الضوء أو الضوء المتعالي وبين نارية الثوب الذي ترتديه المرأة المحرضة، فللنار حمولة ضوئية قوية وحادة وكثيفة، وللنار حرارة كما أن للضوء حرارة، غير أن حرارة النار أعلى من حرارة الضوء، فهل تكون تلك المرأة هي القرين الذاتي لسناء، ولكنها القرين الأكثر نارًا ونورًا وجسارة وإقدامًا؟ وما العلاقة بين بحة صوت تلك المرأة وخشونته في حال إعياء سناء؟ هل هذه المرأة هي صوت القوة الذي يقاوم في سناء ضعفها؟ إنها الصوت الذي يحاول أن يقلب موازين الحسابات بالنسبة لسناء، فيستحيل الوجع ممتعًا. وإذا كانت لعبة الإيهام الدرامي تقوم على التدرج في تشكيل صورة الشخصية والتراكب المنبني على المواقف في تكوين الشخصية دراميًّا، فإن التباس الابنة ليلى وعدم قدرتها على تعيين هيئة تلك المرأة الشبحية التي كانت تجاور الأم يؤكد على الكينونة الشبحية لتلك المرأة لدى المتلقي. وإذا كان من الغالب على حضور الأشباح في المسرح استدعاء الموتى، أو قد يكون ممثلاً لقوة خفية توجه الفرد كما كان شبح الأب المغدور في مسرحية “هاملت” لشكسبير، أو قد يكون الشبح ممثلاً لإثنية الفرد المنشطر كما في “أطياف ماركس” لجاك دريدا التي تُظهر الفرد منشطرًا على ذاته بين حالتي جد وهزل، فالطيف الذي يستدعيه ونوس في الأيام المخمورة أقرب إلى أطياف ماركس لدريدا.

 تمر جولات الحوار بين سناء والمرأة الشبحية بمنحنيات مختلفة، زمنية ومكانية، بين ممانعة سناء لما تدفعها نحوه تلك المرأة، وبين استجابتها لما تمارسه عليها من ضغوط:

ليلى:(ما زالت تتلفت حولها) ألا تريدين شيئًا آخر يا أماه؟
سناء:مع رائحة القهوة الطيبة، تحسّن مزاجي. ضعي لنا أسطوانة عبدالوهاب، حتى تكتمل بهجة هذا الصباح والقهوة بالغناء.
ليلى:هل تفضلين أغنية معينة؟
المرأة:“من قد إيه كنا هنا”.

(تصب سناء القهوة، بينما تضع ليلى الأسطوانة على الغرامفون، وتخرج. ينبعث صوت عبدالوهاب صادحًا بالغناء. بعد قليل، تظهر المرأة)

المرأة:إنه ينتظر.
سناء:اخرسي، ولا تذكريه. هذا جنون لن أستسلم له.
المرأة:بدأ الجنون منذ القديم يا سناء، ولن تستطيعي أن تفري منه إلا بالموت. (يغدو صوتها حالمًا ومؤثرًا) كنتِ في الرابعة عشرة من عمركِ، وكنتِ تجلسين مع عمتك في عربة الحنطور، التي تختبئ في زقاق قريب من حارة “اليهود”. كان الطقس باردًا، والمطر يهطل مدرارًا. وكان أخوكِ البكر يقف على الرصيف، وهو يشد عباءته على جسده العملاق، غير عابئ بالريح أو المطر. انتظرتِ.. وانتظرتِ وحين بدأتِ تيأسين، انفرج باب، وأطلت منه تلك الصبية، التي لا تحمل إلا صرّة ثياب صغيرة.
سناء:أينبغي أن تنبشي تلك الذكريات بالذات! (يرق صوتها، ويكسو نظرتها لمعان وحنين) حين رأيتُ تلك الصبية، التي تتحدى إرادة أبيها على جبروته وغناه، وتجري كعصفور مبلل وراء حبها وحريتها، شعرت أني ألتهب بالحسد والشوق.
المرأة :كانت فاتنة ويزيدها الشحوب والخوف فتنة. ووثب الأخ نحوها وشعرتِ أن قلبك يسقط إلى أسفل حوضكِ. وهزكِ شعور ككي النار، لن يُمحى أثره ما حييت. وحين انطلقتم، كان كل ما فيكِ يجيش، ولم تكوني تميزين تلك المشاعر المتدافعة كزخات المطر. هي الحسد والشوق، هي الرغبة والحمى، هي الحلم وحكة الرغبة. هل عرفتِ ما أصابك يومها!
سناء:(منكسرة) نعم.. عرفت. وُلد في داخلي حلم لن ينطفئ ما حييت. وحين أويت إلى فراشي، لم أنم، ولم تجف دموعي.
المرأة:أرأيتِ.! في تلك الليلة سكنكِ الحلم، ولن تعرفي السكينة والغبطة حتى يتحقق.
سناء:ها أنت توهنين عزمي.. يا رب.. إني رخوة وضعيفة. كنت أحسب أني تجاوزت زمن المخاطر.
المرأة:لا يتجاوز المرء خفقان الحب إلا بالموت([64]).

 يزيح الحوار بما يحمله من توزيعات الجمل الحوارية الستار- شيئًا فشيئًا- عن هوية تلك المرأة، فرد تلك المرأة على سؤال الابنة لأمها سناء عن تفضيلها لأغنية معينة، واستجابة الابنة ليلى لما أملاه عليها الصوت- صوت المرأة- يزيد الترجيح- لدى المتلقي- بكون تلك المرأة هي القرين الظلي لسناء، أما تلك الأغنية التي تطلب المرأة سماعها “من قد إيه كنا هنا” لمحمد عبدالوهاب، فهي تعمل على تجسيد حالة النوستالجيا عبر إحداثيي الزمان (من قد إيه) والمكان (كنا هنا)، فهي محاولة لاستعادة الزمان في المكان، تشكيلاً لهوية المكان بالزمان المنشود استعادته. كما تعمل كلمات الأغنية على تمرير مدلولات الدوال:

من قد إيه كنا هنا

من شهر فات ولا سنة

أيام ما كنا لبعضنا

والدهر غافل عننا

 فمآل تلك الأغنية يذهب إلى استعادة الأحبة لماضي الهوى وعهوده، في غفلة من الدهر، فهل تحيل كذلك إلى حالة الوفاق بين ذاتين تحاولان (الآن) استعادة ما كان بينهما من صفاء وألفة، كانت تربطهما في هذا المكان (هنا)، فتمحور (الآن) و(هنا) اللذان يعتبرهما “بيرس” من “المؤشرات المنتمية إلى العلامات اللغوية([65]) يوجه الانتباه للبحث في تلك التحولات الحادثة عبر الزمان المطلق يد الفاعلية في المكان وشخوصه باعتبارهم يشغلون حيزًا في المكان، هل تحاول الذات القرين/ صوت الماضي والانطلاق والتحرر أن تستعيد لسناء ماضيها وحالتها الأولى الظمآنة للتحرر والمرتوية بالحلم والجنون؟ وما علاقة غفلة الدهر (الدهر غافل) بـ(الأيام المخمورة)؟ فالدهر يتلاقى مع الأيام باعتبار زمنيتهما، والغفلة تلازم كثيرًا الخمر واحتساءها. هل يحمل ذلك مدلولاً إيجابيًّا للأيام المخمورة يضاد غيره من المدلولات السلبية؟ ولِمَ لا؟ “والتوصيف الأكثر حداثة في مسرح اليوم هو ثنائية الاحتمال، فكل موقف درامي يحمل النقيضين، ليس هناك وضوح محدد محسوم، بل دائمًا غموض موحٍ لاحتمال قائم. والمتلقي في الدراما يبقى في دوامة تتابع دائري عبر علائق تحمل ثنائيات الاحتمال ونقائض المواقف بفعل تحول استبدالي يعمل على تغيير مواقع الاحتمالات ليضع المتلقي إزاء مفاجآت صادمة محفزة لمتابعة واعية أكثر مما هي متماهية، بما يضاعف من الظلال الإيحائية للمواقف الدرامية، التي تتغير حتمًا في سياقها الصراعي مع ما يسبقها وما يليها في تكوينات مركبة تتشكل في وعي المتلقي بأكثر من معنى”([66])، فهل الأيام المخمورة هي تلك الأيام التي كانت فيها الذات في حالة مصالحة مع نفسها في غفلة من الدهر؟

 ولئن كان التشابك هو سمة من سمات الدراما، فإن ثمة تعالقًا ينشأ بين الحدود وتشابكًا بين العناصر، فيمسي (الجنون) ملازمًا للحياة ولا فرار منه إلا بالموت، كذلك يكون الجنون معادلاً للحب، فلا يتجاوز المرء خفقان الحب إلا بالموت، وبإعمال القياس فالحب والجنون ملازمان للحياة، يتراكبان في مصفوفة تبادلية، تقوم على متوازيات علائقية، كذلك يكون التشابك بين المتقابلات، فـ(البلل) الذي هو صفة للعصفور المشبه به، الصبية الصغيرة في انطلاقها الحر البريء يؤدي إلى (التهاب) الفتاة سناء حسدًا وشوقًا للتمتع بالحرية والانطلاق غير العابئ بالقيود والمحظورات، أما (وثوب) الأخ نحو تلك الصبية، فيؤدي إلى (سقوط) قلب تلك الفتاة، فثمة شبكة من الدوال المزدوجة. هذا، و”يعتبر المنظرون البنيويون أن الدالات المزدوجة جزء من بنية النصوص “التحتية [أو الكامنة]”، وهي تبلور قراءة النصوص المفضلة. وقد يبدو أحيانًا أن التقابلات قد حُلَّت لصالح أيديولوجيات سائدة؛ لكن بحسب مفكري ما بعد البنيوية، يبقى دائمًا التوتر بين التقابلات من دون حل. لا توجد القدرة البلاغية لهذه التقابلات باعتبارها منعزلة، إنما في تمفصلها من حيث هي ترتبط بتقابلات أخرى”([67]).

 ولكن أي نبش في الماضي تقوم به المرأة القرين لسناء، في مواجهة الذات للذات، بتمشيط أخاديد الذاكرة، واعتصار مسام الذكرى إفرازًا لرحيق الحنين لذلك الزمن المتحرر؟ فقد يكون الشبح القرين “تكأة تفتح بوابات الذاكرة وتجلب ما كان مخزونًا مكبوتًا فيها منذ ماضٍ بعيد وتظهره”([68])، وتبدو الشبحية قرينة مناسبة لاستدعاء الماضي، و”قد تكون الذات الإنسانية- كما يشير بعض النقاد الآن- مجرد طيف أو شبح، حيث يصبح عالم الفن كله عالم أشباح، خصوصًا عندما يتعلق بأمور وأحداث تنتمي إلى الماضي لا الحاضر”([69]).

 وإذا كانت المقاطع الحوارية في هذا المشهد يغلب عليها الطول النسبي للجمل التي يحويها المقطع الواحد في انثيال دافق للبوح واجترار الذكريات، يتضافر فيه استرجاع الأحداث وسرد الوقائع مع الغنائية المتمثلة في استعادة المشاعر التي اكتنفت تلك الوقائع، فإن تحولات نبرات الصوت- فالمرأة (يغدو صوتها حالمًا ومؤثرًا) وسناء (يرق صوتها، ويكسو نظرتها لمعان وحنين)- تجسد تحولات المواقف وانعطافات الشعور، فإذا كان الصوت وسيطًا لتبليغ الرسالة المبثوثة، فإن نبرات الصوت المتبدلة بمثابة مؤشرات لافتة لتبدلات المواقف.

 وإننا لنلاحظ التحول الظاهر في موقف سناء من ممانعة المرأة/ القرين الظلي ومقاومة تحريضها لها على الانطلاق والذهاب لمن ينتظرها إلى مجاراتها في استدعاء الذكريات التي تدغدغ مشاعرها وتحرك عواطفها، في وضعية تذبذب نفسي بين أقطاب متقابلة، وهذا الجدل بين الذات والذات القرين، بين الإحجام والإقدام يمثل حالة أقرب ما تكون إلى العصاب وتخلخل استقرار الذات التي تعيد تأسيس خياراتها، فالعصاب “هو محاولة للتوفيق بين الرغبة والدفاع تقوم أو تعرض أو تدرس على أساس الأطروحة Thesis ونقيض الأطروحة Antithesis والعصاب يمثل الجمع بين الأطروحة ونقيض الأطروحة وهو ما يعرف باسم”Synthesis ([70]).

 ويلعب الاستدعاء الذاكراتي القائم على الحكي السردي لمشاهد الأحداث ووصف المواقف على استغلال ما تتيحه أيقونية العلامات من إمكانية للتحول اختزالاً للوقت ودفعًا لخيال المتلقي- لاسيما مشاهد العرض المسرحي- لتمثل تلك المشاهد، “ويتحكم قانون قابلية العلامة للتحول في الأيقونة، فمن الواضح أن التشابه المباشر يمكن الاستغناء عنه إذا كان هناك نظام من العلامات يستطيع أن يقوم بعمل نظام آخر. ويمكن الاستشهاد بالمشهد السمعي عند هونتزل لتوضيح هذه الفكرة. وفي المسرح الإليزابيثي تقوم اللغة- بالإضافة لوظيفتها الإشارية- بوظيفة وصفية شبه أيقونية في تصوير المشهد الدرامي”([71]).

 إذن، فإن تقرير المصير، وتحقيق الهوية، يكون بحوار الذات مع الذات، وتَوافُق الذات مع نفسها، واستعادة الذات لماضيها الأول، حيث الحلم المتوثب والشوق المتمادي، فتكون الهوية ضد الزمن وضد التابوهات. فالذات وحدها هي مالكة قرارها ومقررة مصيرها، لذا “لم تعد الحوارات النصية تتوجه إلى الناس في الصالة، وإن كان العرض سيجري أمامهم. بل هي حوارات بين الـ أنا والـ أنا في مراياها الداخلية. لذا تشتغل السياقات الحوارية في النص المسرحي كمخاطبة داخلية، وتبقى في المساحة النصية، داخل زمنها، لا بين مساحتين أو زمنين. أنا تحاور أنا داخل الذات باعتبارها كائنًا بشريًّا، مجتمعيًّا، لكنه يعيش صبوة الحب كقرين للحياة، ويعاني كوابح سقيمة تقوده إلى الموت ويجاهد للتحرر منها”([72]).

 

سناء/ حبيب: العشق حياة تدافع الموت

 تمثل علاقة سناء بحبيب الدمل الذي يتستر عليه الجميع في العائلة، الذي يحاول الحفيد فقأه حتى يستقر في اسمه وهويته، فسناء التي مانعت صوتها الداخلي/ المرأة/ ظلها القرين في دعواه بالاستجابة لنداءات الحب، تتراجع عن موقفها السابق لتذهب للالتقاء بحبيب في “فصل الارتباك والحب”:

 

 

(غرفة في بيت الخياطة نورا. حبيب، وهو رجل وسيم في الخامسة والأربعين من عمره، يذرع الغرفة بهدوء رواقي لطيف. تدخل سناء، مرتبكة ومنكسرة النظرة. يقف الواحد منهما تجاه الآخر، وتمتد بينهما فترة صمت طويلة ومتوترة).
حبيب :هل ترتعشين؟ (فترة صمت) أنا أيضًا أحس رعشة في قلبي وأحشائي. ما عدت أعرف أيهما أوجع.. ألم انتظارك أم فرح حضورك!
سناء:هل آلمك الانتظار؟
حبيب:لا.. لا يحق لي أن أشكو. رتبت حياتي على الانتظار. لم يعد لديَّ ما أفعله، إلا أن أنتظرك. لماذا لا تجلسين؟
سناء:(وهي تجلس) إن الخوف يرهقني، ولم أعد أعرف نفسي. قل لي ماذا تريد مني؟
حبيب :تخيلي رجلاً يصاحبه السأم مثل ظله، ويجر كالمرض الأصفر شحوب الرغبة والأمل في داخله. وفيما هو يتداعى نحو مغيبه، تباغته رؤيا تصعق خموله، وتجدد فيه الحياة والرغبة. كل هذا لغو.. لن أستطيع أبدًا أن أشرح مشاعري نحوكِ. وحياتي لم تعد شيئًا إلا هذا النداء الموجوع، الذي ينتظر بصبر لا يكل ردك وحضورك.
سناء:ارفق بي! أنا لم أحب من قبل. وحين أصغي إليك، أشعر أني أدوخ، ويختلط كل شيء في داخلي.
حبيب:إنك تقطِّرين الكلام مدهشًا ومسكرًا. أحقًا لم تعرفي الحب من قبل؟
سناء:كنت دائمًا أنتظر شيئًا ما. أشعر فجوة في أحشائي، أو رقة في قلبي. وكنت أشرد حالمة وحزينة. وحين كنت أراقب في دارنا بالشام زوجًا من الحمام، وهما يتبادلان الحب والحنان، ويمضيان أوقاتًا مديدة في تبادل القبلات والمداعبات، كنت أحس أن أشواقي تكاد تخنقني، وأني أريد أن أغني، أو أنوح. كنت دائمًا أحس أني أنتظر شيئًا غامضًا. وكما ترى.. تأخر هذا الشيء الغامض، حتى غدوت شجرة خريفية تتساقط أوراقها.
حبيب:ماذا تخرِّفين؟ أنت شجرة دائمة الخضرة، تتجدد مع كل فصل ريانة، كأرزة مباركة. ينبغي أن تعرفي أنك شجرة الحياة بالنسبة لي. أنت غذائي، ومستقبلي، ولا حياة لي بعيدًا عن فيئك وثمارك([73]).

 يسعى النص إلى أن يُسمِعنا صوت الصمت بما يحمله من مدلولات تنطق- أحيانًا- بالصمت ما لاينطقه الصوت، فما هي أسباب الصمت؟ هل رعشة الحب؟ أم مفاجأة اللقاء؟ وقد بات اليقين القائم لدى حبيب، هو فقدان اليقين، فالوجع قاسم مشترك سواء في الانتظار المؤلم أو اللقاء المفرح، ولكن أي وجع هذا الذي يخامر الفرح شأنه كشأن الألم؟ أي وجع الذي يحضر سواء في الانتظار أو في الحضور واللقاء؟

 ولكن ما كل هذا الوجع الذي يحضر في هذا اللقاء؟ ولمَ هذا كل هذه الإشارات المنغمسة في كثبان الألم والتشاؤم؟ ولئن كان النص محتملاً التعالق مع نصوص أخرى، فكما يذهب سوسير بأن “سطح النص مكوكب، تبنيه وتحركه نصوص أخرى، حتى ولو كانت كلمة مفردة”([74])، وكما يرى ميشيال فوكو بأن “ليست حدود الكتاب أبدًا واضحة المعالم، هي تتجاوز العنوان والسطور الأولى ونقطة الوقف الأخيرة والترتيب الداخلي والشكل المستقل. إنه يدخل في منظومة من الإرجاعات إلى كتب ونصوص وجمل أخرى. إنه عقدة في شبكة… وحدته متغيرة ونسبية”([75])، فإن من يطالع المقطع الذي يطلقه النص عبر حبيب: “تخيلي رجلاً يصاحبه السأم مثل ظله، ويجر كالمرض الأصفر شحوب الرغبة والأمل في داخله. وفيما هو يتداعى نحو مغيبه، تباغته رؤيا تصعق خموله، وتجدد فيه الحياة والرغبة” بالتنقيب في حفريات النص التحتية والتفتيش في جيوبه الخبيئة ومسح طبقاته الجيولوجية بما فيه من إشارات إلى السأم والمرض والشحوب والتداعي في مقابل الحياة والرغبة والأمل، فلسوف يستدعي كلمة سعدالله ونوس التي وجهها لليوم العالمي للمسرح في مارس 1996، قبيل رحيله بحوالي عام بالتزامن مع كتابته لهذه المسرحية “الأيام المخمورة”، فقد قال ونوس: “منذ أربعة أعوام وأنا أقاوم السرطان. وكانت الكتابة وللمسرح بالذات أهم وسائل مقاومتي خلال السنوات الأربع. كتبت وبصورة محمومة أعمالاً مسرحية عديدة، ولكن ذات يوم سئلت وبما يشبه اللوم: فيمَ هذا الإصرار على كتابة المسرحيات في الوقت الذي ينحسر فيه المسرح ويكاد يختفي من حياتنا؟ باغتني السؤال وباغتني أكثر شعوري الحاد بأن السؤال استفزني بل وأغضبني، طبعًا كان من الصعب أن أشرح للسائل عمق الصداقة التي تربطني بالمسرح، وأن أوضح له أن التخلي عن الكتابة للمسرح وأنا على تخوم العمر هو جحود وخيانة لا أحتملهما، وقد يعجلان برحيلي… مهما بدا الحصار شديدًا، والواقع محبطًا، فإني متيقن أن تضافر الإرادات الطيبة وعلى مستوى العالم سيحمي الثقافة، ويعيد للمسرح ألفته ومكانته. إننا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”([76]).

 إذا كانت هناك دعاوى تقوم على فصل الخطاب عن شخصية الكاتب، وعزل أصوات النص عن مؤلفه الحقيقي كما تدعو البنيوية، فنرى بارت يقول “إن اللغة هي التي تتحدث، وليس المؤلِّف؛ الكتابة هي… الوصول إلى نقطة اللغة وحدها هي التي تفعل، (تؤدي دورًا) وليس (أنا)”([77]). غير أن ما يبدو من تعالق بين نص ونوس الخطابي الموجهة لليوم العالمي للمسرح وكلمات حبيب في الأيام المخمورة يذهب بنا إلى الاتجاه المعاكس لما ذهب إليه بارت. فهل يكون حبيب قناعًا لسعدالله ونوس؟ هل تسرب صوت ونوس إلى شخصيته المسرحية حبيب، فأمسى حبيب بالأيام المخمورة صدى لصوت سعدالله ونوس المثقف الذي يعاني محنة المرض وشحوب العمر وأزمة المسرح؟ فحبيب الذي يدافع السأم والمرض والشحوب والتداعي والمغيب (الموت) بتلك الرؤيا (عشق سناء) التي تصعق خموله، وتجدد فيه الحياة والرغبة، في صراع دائر بين مصفوفتين تجمع كل واحدة حزمة من المثيرات والاستجابات (السأم- المرض- شحوب الرغبة والأمل- التداعي- المغيب) في مقابل (الرؤيا- صعق الخمول- تجدد الحياة والرغبة)، أما كلمة ونوس فيبرز فيها (الوقوف على تخوم العمر- تراجع الكتابة للمسرح) في مقابل (مقاومة الموت– بـ الكتابة للمسرح- الارتباط بالأمل)، فإن ثمة تناظرًا بنائيًّا بين المصفوفتين بما يتفرع عن كل واحدة منهما من عنقودين متقابلين، فهل تكون سناء بالنسبة لحبيب بمثابة الرؤيا الإبداعية لونوس؟ وما هذا الانتظار الذي يتشارك فيه حبيب مع سناء؟ هل هو انتظار وجودي أو نوع من “الانتظار الميتافيزيقي”([78]) الذي يرمز لانتظار الخلاص، هو انتظار وإن يعاني من الزمن، فهو يسعى للتغلب عليه ومقاومة الموت والفناء، انتظار التحقق وتحقيق الحلم.

 ولكن لِمَ يغرس النص حالة (الانتظار) في أرض مجازية؟ لِمَ يعود جذر الانتظار إلى (الاستعارة)؟ فالانتظار مرتبط بمشهد زوج من الحمام يتبادلان الحب بينهما، وإذا كان “من منظور سيميائي، تتضمن الاستعارة مدلولاً يعمل كدال يُرجع إلى مدلول آخر”([79])، فإن للحمام كرمز مدلولات عديدة، وإذا كان الحمام ينتمي لجنس الطيور، فللطيور دلالات في التفسير الأسطوري، “فهي أجسام تطير دون أن تتأثر بالنار أو اللهب. كما أن من تفسيراتها النفسية النزوع إلى الحرية في الفضاء بعيدًا عن العالم الأرضي المليء بالمتاعب”([80]). كذلك فإن “الحمام الأخضر عند يونج مثلا هو النفس الحالمة وهي في طريقها، إلى الرحم السماوي مرة أخرى”([81]). كذلك فإن الحمامة تكون “رمزًا للنجاة في قصة طوفان نوح”([82])، فرفرفة الحمام في سماء وعي سناء وتحليقه بذاكرتها يعبر عن توقها للحرية والانعتاق، فما أشبه سناء في توقانها للتحرر والتمرد على تابوهات المجتمع وأعرافه بـ”مؤمنة”/ ألماسة في طقوس التحولات والإشارات، و”فاطمة” في ملحمة السراب التي تتمرد على زوجها “يوسف” صاحب الدكان لجشعها، لتتحول عنه، مقيمة علاقة حميمة مع “بسام” الذي يحمل لواء المقاومة في الضيعة المسكونة بالفساد، بعد ما كانت المرأة في أولى مسرحيات ونوس “ميدوزا تحدق في الحياة” خاضعة لإملاءات الأب الذي يمثل السلطة البطريركية والسلطة السياسية الحاكمة، فكانت ألعوبته في التفريق بين العالم والفنان اللذين تنافسا في حبها، إذ لم تكن تمثل أكثر من وسيلة أو دمية في يد الأب/ الحاكم لبث الشقاق بين قوى الثقافة والمعرفة في المجتمع. وعمومًا فالمرأة في مسرحيات ونوس الأخيرة- غير المرأة في مسرحياته الأولى- فقد خرجت من شرنقة السلبية وفقدان الإرادة، بعد أن امتلكت القدرة على الاختيار، وأدركت حقها في تقرير مصيرها، بل انتفضت المرأة ضد الهيمنة الذكورية وتخطت الحواجز الاجتماعية وتجاوزت خطوطًا حمراء وكسرت إشارات المنع عابرة بتصميم مارق نحو تحقيق ذاتها وتملُّك حريتها، فيبدو أن “هذا التطور الواضح في دور المرأة إنما يعني- على المستوى العام- مزيدًا من رحابة عالم المسرحي، وانفساح دائرة رؤيته، وقد يعني- على المستوى الشخصي- إقرارًا بدور المرأة التي وقفت جانبه حتى الرمق الأخير: زوجًا وصديقة ورفيقة ومناضلة”([83]).

 غير أن سناء لطول انتظارها لهذا الشيء الغامض المرتبط بمشهد الحمام/ تبادل الحب والحرية قد أشعرها بأنها شجرة خريفية تتساقط أوراقها، فإذا كانت الشجرة رمزًا للحياة المتجددة، فتمثل سناء بالنسبة لحبيب الحياة التي يتمسك بها ويرفض تساقط أوراقها/ أفولها. أما في المآل الأسطوري، فإن الشجرة ترمز إلى “المكان الذي يرتكز عليه الإنسان بثبات في مرحلة تمهيدية لعملية تالية هي الارتقاء إلى السماء… فالشجرة هي الكائن الحي الثابت في الأرض بواسطة الجذور، الأمر الذي يحمل معنى ضمنيًّا بالجلال، حيث القدرة على الوقوف بثبات في وجه التغيرات والصراعات، تمامًا كالشجرة القوية في مواجهة الرياح”([84])، فهل يريد حبيب لسناء أن تكون شجرة ثابتة في مواجهة رياح التردد وأعاصير الأعراف والتقاليد في مجتمع ذكوري يأتي على المرأة بالتأثيم الحاد في حالة اختيارها رجلاً آخر غير زوجها حبيبًا لها؟ لكن دلالات الشجرة تستعصي على أحادية المآل، فللشجرة مآلات رمزية أخرى، فهي أيضًا “القطب الكوني أو قطب العالم الواصل بين ثلاثة عوالم، العالم تحت الأرض (بجذورها) والسماء (بفروعها) عبر الأرض. وبهذا المعنى أصبحت الشجرة- في أساطير عالمية أخرى- نوعًا من الطريق المفتوح بين الأرض والسماء، صعودًا أو هبوطًا…، وهكذا تتمثل الصلة بينهما- الأرض والسماء بطريقة رمزية في صورة شجرة، هي في الوقت نفسه شجرة الكون أو العالم، وعلى نحو فُهمت معه هذه الشجرة الكونية- فيما بعد من قبل الصوفية برمزية معقدة، تربط بين العوالم الثلاثة: عالم الله، وعالم الإنسان، وعالم الكون”([85]). فهل سناء هي الشجرة الكونية التي تصل حبيب بسماء الحب أو هي الرؤيا الإبداعية الخلاقة التي تصل ونوس بسماء الإبداع؟

 ولئن كان عالم الدلالة يتسم بالنهم، فلا يكتفي بأن تكون سناء هي العشق لحبيب/ الرؤيا الإبداعية لونوس، ولكن ثمة متسعًا لمدلول ثالث، في لعبة تأويل متشجر في تفريع مدلولات الدال، و”يتحدث جاك دريدا عن (لعبة) الدالات، أو (اللعبة الحرة) للدالات: ليست ثابتة الارتباط بمدلولاتها، إنما تشير إلى دالات تتخطاها (في إرجاع لا ينتهي من دال إلى مدلول). ترجع الإشارات، إذًا، إلى إشارات أخرى، فلا توجد إشارة أخيرة ترجع فقط إلى ذاتها. يرأس دريدا (حركة تفكيك) المنظومات السيميائية الغربية، وينكر وجود معانٍ نهائية ممكنة التحديد”([86])، فوصف سناء لنفسها بالشجرة الذابلة ورفض حبيب لهذا التوصيف يستدعي الحوار الأخير لسعدالله ونوس الذي أجرته معه جريدة النهار، فيقول سعدالله ونوس: “إن إحساسي الجنائزي سيتضاعف أكثر وأكثر.. وأنا على حافة هذه التخوم الرجراجة بين الحياة والموت… جعلتني إسرائيل أعيش في زمن يُعتبر فيه الحديث عن جمال شجرة جريمة. ثم إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري. وإنها أفسدت على إنسان عاش خمسين عامًا مثلاً، الكثير من الفرح، وأهدرت الكثير من الإمكانات”([87]). فهل تكون سناء هي الشجرة: شجرة الحب/ شجرة الرؤيا الإبداعية التي يقاوم بها حبيب/ سعدالله ونوس الكاتب الموت؟ أم هي شجرة الوطن الذي يتحدى الموت الذي تحاول أن تفرضه إسرائيل على الشعب العربي والسوري؟ ولكن شتان ما بين إحساس جنائزي متفاقم وحزن أسيف يائس يداخل سعدالله ونوس في حواره الصحفي/ عالم الحقيقة والواقع، وبين رفض حبيب/ سعدالله ونوس الكاتب والفنان للموت والاستسلام للهزيمة في نصه الأخير “الأيام المخمورة”، مما يؤكد على أن عالم الفن/ عالم الكتابة هو حصن ونوس من اليأس ومنطلقه لهزيمة الهزيمة وتجاوز الألم وعبور المحنة، فالكتابة شجرته التي تصله بالسماء، الكتابة شجرته التي تكفل له الخلود الأبدي وتحفظ له البقاء السرمدي بتجدد المضامين الجمالية لإبداعه.

 

هوية الجسد واستملاك الماضي

برحيل سناء مع عشيقها حبيب وتوثبها على عقبات ذات حساسية بالغة- كطيها حياتها الأسرية، وارتباطها برجل مسيحي فيما يعد كسرًا للأعراف وخوضًا في المحظورات- تحاول سناء أن تبدأ حياة جديدة:

(غرفة نوم في بيت صغير وجميل، تحف به أشجار الصنوبر. إنه بيت ريفي ينزوي على رابية بعيدة قليلاً عن المدينة، التي تمتد تحتها وحتى شاطئ البحر. سناء وحبيب يجلسان على السرير باسترخاء. ويتبادلان نظرات ولمسات مثقلة بالهيام).
حبيب :أكان ذلك ممتعًا؟
سناء:(تدير وجهها بحركة ساحرة) إني أستحي.
حبيب:هذه قشور ينبغي أن نزيلها.
سناء:لا تنسَ كيف تربيت، وكيف عشت.
حبيب :(وهو يقبِّل أصابع يدها واحدًا بعد الآخر) والآن.. سنبدأ تربية جديدة، وعيشًا جديدًا. هل كان ذلك ممتعًا؟
سناء:ألا يمكن أن تتمهل عليَّ بالأسئلة؟
حبيب:هل أفهم أنه كان مخيبًا؟
سناء:(مندفعة) لا.. لا.. لم أجرب شيئًا كهذا في حياتي.
حبيب:اصغي إليَّ يا حبيبتي! بعد انتظار وطول شقاء، وجدنا الجنة، التي تخصنا. وفي الجنة لا ثياب، ولا حياء، ولا خوف. ينبغي أن يقشر كل منا الآخر. أن يغسله وينقيه، حتى نغدو عريًا صريحًا وجميلاً. إن الجنة التي ندخلها، تعدنا بلذات لا تنفد، ومسرات لا تحصر([88]).

 إن فضاء المشهد يبدو جامعًا بين الانفتاح على الطبيعة الثرية المتمثلة في أشجار الصنوبر وشاطئ البحر والتمركز على رابية بما يشي بالتعالي الحر، وبين الخصوصية المحددة المتمثلة في سكن العاشقين ببيت صغير يمثل مركز العاشقين في الإطلال على العالم واستبصار الوجود. إنه جنتهما الخاصة في هذا العالم، عالمهما الخاص الذي ينعمان فيه بالحرية والاستقلال.

 يبدو أن حبيب يسعى لإعادة تشكيل الهوية الذاتية لسناء عبر كسر حاجز الحياء لديها والانطلاق في إشباع حاجات الجسد وسد حاجات اللذة وري ظمأ الشبق، لكن قد يكون من التعجل في الحكم النظر لعملية التداخل الجسدي الحميمي بين عاشقين على أنه مجرد سداد شهوة أو إشباع حاجات غريزية، فللجسد كينونة تتخطى حدود بيولوجيته، إذ نجد “أن الحداثة العالية جعلت الهوية الشخصية عمدية (Lyotard, 1989). لم تعد الذات لبًّا متجانسًا، مستقرًا يكمن في داخل الفرد (Shils, 1981). عوضًا عن ذلك، تُشكل الهويات انعكاسيًّا من خلال طرح الأسئلة وإعادة التنظيم المستمر للسرديات الذاتية التي تحمل في جوهرها اهتمامًا بالجسد (Giddens, 1991). هكذا تصبح الهوية الذاتية والجسد (مشاريع منظمة حداثيًّا)”([89]). فثمة نزوح في تحديد الهوية نحو الذات أكثر من الجماعة، ونحو الجسد أكثر من قيم تلك الجماعة، حيث “إن الجسدية التي ينشغل بها نص سعدالله الأخير هي جزء من رؤيته ودعوته لتغيير المجتمع.. هز استقراره وتفكيك علاقاته وكسر ثوابته”([90])، فالجسد أمسى مرمى للضبط وهدفًا لإعادة التشكيل والصياغة، “وكما بيّن إيرفن جوفمن، الضبط المنتظم للجسد جوهري للمحافظة على الهوية الذاتية وتقدير الآخر. على ذلك تزايد الضبط الذي قد يمارس على الجسد في الحداثة العالية. في هذا الصدد، يجادل جيدن بأنه أصبح من الصعب بشكل متزايد التشبث برؤية الجسد كشيء (معطى)، جانبًا من الطبيعة لا تتحكم فيه عمليات التدخل الإنساني إلا بشكل هامشي”([91]). وقد أمسى التلاقي الجسدي الحميم بمثابة عملية غسل وتنقية حتى يُعاد تشكيل الهوية الذاتية من جديد عبر إعادة هيكلة الجسد، ويمسي العري المنشود معادلاً لحالة الميلاد الجديد، فالنص الونوسي الأخير يقتحم حقول المحظورات، ليسافر في مملكة الجسد، ولكن هل هذا الاحتفاء بالجسد في نصوص ونوس الأخيرة بمثابة شكل من أشكال التعويض والمقاومة لحالة مرضه؟ ولكن لعبلة الرويني رأيًا آخر، إذ ترى أنه “برغم أن نفس المريض هي بالدرجة الأولى جسدية، فإن حضور الجسد، وهذه الحسية الملموسة في نصوص سعدالله الأخيرة لا ترتبط بوضعية المرض قدر ارتباطها بصعود الفردية والاحتفاء بالذات وتأكيد فكر عقلاني ووضعي علماني.. هكذا تنقلب القيمة المخصصة للجسد في المسرحيات الأخيرة من علامة سقوط إلى طريق للخلاص وشكل من أشكال الخروج والانعتاق (الأيام المخمورة- يوم من زماننا- طقوس الإشارات والتحولات). شكل من أشكال التمرد وتحرر الفرد من قيود ورسوخ البنية الاجتماعية وهيمنة القوانين التي تطبعها المؤسسة الاجتماعية والدينية على أجساد المواطنين بحثًا عن ترويضهم وإخضاعهم”([92]).

 بيد أن عملية استبدال الهوية الذاتية لا تكون فقط بإعادة التعاطي مع الجسد بشكل منفتح على فضاءات رحبة من الحرية والتلذذ الغريزي، ولكن ثمة نزوحًا نحو الماضي:

حبيب:(وهو يقبل يدها، ويداعب شعرها) ستظل هذه الوساوس تقلق بالك، ما لم ننفض الذاكرة، ونعيد ترتيبها، حدثًا حدثًا، وتفصيلاً تفصيلاً. لا يكفي أن يدير المرء ظهره للماضي، كي يمنع الماضي من ملاحقته.
سناء:وهل تظن أن ذلك ممكن؟
حبيب:قبِّليني أولاً، ثم أجيبك. (تقبله). سنبدأ منذ كنتِ طفلة تحبو في ذلك البيت الدمشقي. حين تتوغلين في تذكر طفولتك، ما هي الذكرى الأولى التي تخطر لكِ؟
سناء:(تغمض عينيها، وتفكر. بعد فترة) أرى أبي يدخل الدار، وأنا أجري للقائه والتمسك بساقه. رفعني عن الأرض، ثم رماني في الهواء، وتلقاني بيديه المفتوحتين، وقبلني على خدي، ثم أنزلني إلى الأرض.
حبيب:وأنا كنت أنظر إليكِ، وأغبطكِ. والآن ما هي الذكرى الثانية التي تخطر ببالك؟
سناء :أنتَ.. وأين كنت؟
حبيب :كنت على سطح بيتنا، أختلس النظر إلى أرض دياركم.
سناء:لم أستوعب بعد ما الذي تحاوله!
حبيب:أريد أن أبعد عنك الهواجس، وأن أجعلك لي بالكلية. سنحفر بأناة حول كل ذكرى، كما لو أنها قطعة أثرية، ثم نعدِّل ترتيبها قبل أن نعيدها إلى مكانها. وهكذا.. مع نبش الذكريات، وعيشها من جديد، سنشعر يومًا بعد يوم، أننا كنا معًا منذ الطفولة.
سناء:أتعتقد أن ذلك ممكن؟
حبيب:سنحاول.. ما هي الذكرى الثانية التي تحضرك؟
سناء:لست متأكدة.. ربما تلك الدمية القماشية التي رافقت طفولتي. كنت أنزع المنديل عن رأسها، وأجردها من فستانها. كنت أحب أن أحممها.
حبيب:وكنت إلى جوارك، ألعب معكِ، وأعاونك.. سأحضر الطشت والماء.

(يبدو حبيب وسناء طفلين يلهوان بدمية وهمية، ويحممانها بأدوات وهمية. يلوح عليهما الانهماك والمتعة)([93]).

 لماذا النكوص إلى الوراء والارتداد إلى الماضي؟ أي تفكيك يقوم به حبيب في بنية الذاكرة لدى سناء؟ إن الرجوع للماضي وإعادة صياغة أحداثه هو محاولة للانقلاب على الزمن والثورة على حتمية التاريخ، إنها الرغبة في زعزعة سكون عهود مضت، وإعادة تشكيل أزمنة تولت. إن الارتداد لزمن الطفولة ما هو إلا ضرب من أحلام اليقظة، كما يدفع باشلار بنزوع الإنسان نحو طفولته الأولى: “وكيف لا نشعر أن هناك اتصالاً بين وحدة الحالم ووحدات الطفولة؟ وأنه ليس من قبيل العبث أننا، في تأملاتنا المطمئنة، نتبع غالبًا المنحدر الذي يعيدنا إلى وحدات طفولتنا”([94]).

 غير أن ما يسعى إليه حبيب يتعدى مجرد الرجوع إلى الماضي إلى محاولة تغيير معالمه وإعادة بلورة أحداثه، إنه يسعى لإعادة خلق الماضي، لغرس ذاته في هوية سناء، إن استرداد الطفولة هو محاولة لتقويم مسارات حياة وإعادة توجيه مقصود لمسلكنا في الوجود، فالحلم غالبًا ما يطرق أبواب الطفولة. إنه “ثمة جمال انطلاقٍ يحركنا، يرمي فينا دينامية جمال الحياة. في طفولتنا كانت تمنحنا التأملات الشاردة الحرية. وإنه لمن عجيب الأمر أن يكون المجال الأخصب لتلقي حس الحرية هو بالتحديد التأملات الشاردة. وإن فهم هذه الحرية عندما تمر في تأملات طفل ليس مفارقة إلا إذا نسينا أننا نحلم بالحرية كما كنا نحلم ونحن أطفال. وأي حرية أخرى عندنا غير حرية الحلم؟”([95]).

 فما كان رجوع سناء إلى ذكريات الطفولة بما تحمله من مشاهد الاحتواء الأبوي واللهو بالدمى الذي يعكس استراتيجات الطفولة نحو استيعاب العالم وفق منظور البراءة الطفولية الواعية التي تختار للموجودات نظائر تنوب عنها بهدف الإمساك بزمام العالم وتحقيق الألفة فيه- إلا إعادة تكوين للعالم بصبغة طفولية، حيث “إن ثمة طفولة كامنة موجودة فينا، وحين نذهب لإيجادها في تأملاتنا الشاردة، أكثر منه في واقعها، نعيشها ثانيةً في إمكانياتها. نحلم بما كان ممكنًا أن يكون، نحلم بحدود التاريخ والخرافة”([96]). فعملية استعادة الطفولة تتم مسرحيًّا بالاستعانة بالدمى لسمطقة المشهد ومسرحته، ولإدخال الدمى المشهد دوران: أن تنوب أيقونيًّا- لدى الوعي الطفولي- عن الأشخاص عن طريق المحاكاة، فالدمى تحاكي لدى الطفل من يراهم من البشر، وكذلك فللدمى دور- لدى المتلقي- في كسر الإيهام ليتقبل ذلك المشهد الذي تختلط فيه الواقعية بالغرائبية.

 يبدو أن العودة للطفولة ليس فقط للحنين إليها، ولا بغرض إعادة تشكيل الماضي فحسب، ولكن تكون عملية استعادة الطفولة شكلاً من أشكال مقاومة الموت ومدافعة الفناء ومكافحة الشعور بالعدمية، لذا فإن “الحنين إلى الطفولة يكفل للإنسان عيشًا وهميًّا مريحًا، وهذا العيش الوهمي يقود الإنسان إلى الإحساس بتوقف العمر عند مرحلة الطفولة كزمن أولي جديد، والشعور الخفي بتكرار زمن جديد، والشعور الخفي بتكرار زمن الطفولة أي بتجديد الحياة وتمديد فترة البقاء والديمومة. إن الحنين إلى الطفولة إجابة محتالة عن سؤال الموت والعدم. ونداء سري على الحياة وإقبال عليها، ومن هنا يكون هذا الحنين شرطًا إنسانيًّا مكين الحضور في الذاكرة. والطفولة ذكرى خالدة غير قابلة للمحو والنسيان، ففي داخل كل منا حسب- نيتشه- طفل يلعب، لأن زمن الطفولة كامن في الحلم ما دام الإنسان حيًّا”([97]).

 ولكن هل ستستمر تلك اللعبة، لعبة الذاكرة والجسد؟ أم أن للذات رأيًا آخر، تعدل فيه عن استراتيجياتها السابقة:

سناء:ما الذي يقلقك إذن؟
المرأة:هو شيء غامض، لا أعرف كيف أصفه! إن اندفاعه أو شغفه، أو نهمه هو الذي يقلقني، ويخيفني.
سناء :وهل يخلو الحب الحقيقي، من بعض النهم!
المرأة:معك حق.. ولكن أحيانًا أحس أن المسألة تكاد تتجاوز الحب. أخافتني الشراهة التي ينبش بها الماضي، كي يستملكه، ويضيفه إلى الحميميات الأخرى التي يجردك منها.
سناء :الله.. الله.. هل بدأنا نتبادل الأدوار؟
المرأة:لعل من المفيد أن تظل واحدة منا مبصرة وحذرة. ماذا تشعرين وأنتِ ترينه ينتزع ذاكرتكِ لبنة لبنة([98]).

 إن معاودة المرأة القرين/ الظل الشبحي للظهور يعكس ارتيابًا بدأ يطفو على سطح وعي سناء فيما يخص العلاقة التي تربطها بحبيب وعمله على تعرية الذاكرة بمثل عمله على تعرية الجسد. فحوار سناء مع المرأة القرين هو حوار يزن الأمور وفق حسابات متقابلة، فما يدور بين سناء وظلها القرين الذي يمثل صوت وعيها الباطن ووجه لا شعورها الداخلي أقرب إلى عمليات العصف الذهني التي تدوِّر الأفكار في مختبر المساءلة، بتدارس الحجة والحجة المضادة. وتُعمل الشك فيما يبدو من معطيات، غير أن عمليات الجدل العاصف هي داخلية، بما تقوم بها الذات من تبدلات لأدوارها ومراجعات لمواقفها، وما أقرب ونوس في ذلك من “يونيسكو” الذي كان “يبحث عن مسرح يهجر فيه وحدة الشخصية وبنيتها النفسية والعقلية الممنطقة والتي تميز هذا المسرح التقليدي، وينظر إلى الشخصية أو الإنسان باعتباره مجموعة من التحولات الإنسانية، أو مجموعة من الأدوار المتعددة وليس كشخص ساكن أو فرد ثابت”([99]).

 غير أن حبيب الذي أخذ سناء للعيش معه ببيته المطل على فضاء مفتوح يعود ليبني سورًا يحيط بالبيت بعد زيارة الابن عدنان لأمه سناء بهدف تصفيتها غسلاً للعار، غير أن قواه التي خارت حالت دون تحقيقه الهدف الذي حضر له:

سناء:لا تستطيع الجدران مهما كانت سميكة وعالية، أن تحتجز موجات العمر، وما تحمله من ذكريات ومشاعر وصور. آه يا حبيب.. يبدو أن شعورنا بالانعتاق، وبأننا نبدأ من نقطة طاهرة، وليس لها ذاكرة، لم يكن إلا وهمًا بددته زيارة.
حبيب:إنك تنزلقين إلى اليأس، دون مقاومة. أنا أفهم الصدمة، التي تعرضتِ لها. لا أفهمها فقط، بل أشعر مسها الصاعق في سويدائي. ما بيننا لا يستوعبه ما يقال عن الروابط والصلات. ما بيننا هو تزاوج العصب مع العصب، ونبضة الدم مع نبضة الدم. ما زال درب السعادة طويلاً أمامنا. وإن تركنا اليأس يتسلل إلينا، فسنغرق في الوضاعة والرتابة والموت.
سناء:في خريف العمر، لا يستطيع المرء أن يربط ماضيه كبقجة ملابس، ويرميها في زاوية الخزانة. انظر كيف يتدافع الماضي ممسكًا بتلابيبي! لن يستطيع قلبي بعد اليوم، أن يرفرف طليق الجناحين، لأن عذاب ابني كسر جناحي. وسأشرد عنك، كلما خطر لي هل نطقت ليلى أم لا..([100])

 تأخذ نبرة خطاب سناء مع حبيب في التبدل، بعد أن استفاق وعيها على صدمتي فقدان ابنتها ليلى للنطق، وانكسار ابنها عدنان وشعوره بالخزي والعار، فترفض سناء ما يقوم به حبيب من تحديد المكان وتسويره بجدران عازلة، “ويرتبط المكان ارتباطًا لصيقًا بمفهوم الحرية، ومما لا شك فيه أن الحرية- هي في أكثر صورها بدائية- هي حرية الحركة، ويمكن القول إن العلاقة بين الإنسان والمكان- من هذا المنحى- تظهر بوصفها علاقة جدلية بين المكان والحرية، وتصبح الحرية في هذا المضمار هي مجموع الأفعال التي يستطيع الإنسان أن يقوم بها دون أن يصطدم بحواجز أو عقبات، أي بقوة ناتجة عن الوسط الخارجي، لا يقدر على قهرها أو تجاوزها”([101]). وإذا كانت طبيعة المكان في المسرح تنزع نحو الوحدة أو الاقتصاد في فضاءات المشاهد، إلا أن فضاءات الأماكن في “الأيام المخمورة” قد اتسمت بالتمدد والتعدد، حيث تنتقل المشاهد مترواحة بين عدة أماكن، مغلقة ومفتوحة، داخلية وخارجية: في بيت عبدالقادر الطحاوي بين الصالون وغرفة النوم أو عند النافذة، وكذلك في مخزنه حيث يعمل، وفي بيت نورا الخياطة حيث تدور مفاوضات العشق بين حبيب وسناء، وفي بيت العشيق حبيب، في غرفة النوم وفي ردهة البيت، وأيضًا في مقر عمل سرحان، وكذلك في غرفة مغلقة، حيث كان لقاء سرحان بالبوري وسونيا، وأيضًا في مقهى شعبي حيث التقى عدنان بأخيه سرحان. أما الساحة فقد كانت مجالاً لفرقة الأراجوز، فثمة نوع من “الكسر المكاني (حيث تنتقل أحداث المشاهد بين أماكن مختلفة، فكل مشهد يكون بمكان غير مكان المشهد الذي كان يسبقه) ينوب عن الكسر الزماني، حيث يبدو الفضاء بما يتميز به من تشتت دالاًّ استعاريًّا عن الزمان عما يتميز به من تشتت أيضًا”([102])، غير أن المكان بحركته النشطة والقلقة لم يقوَ أمام رسوخ الزمان ولم يقدر على نسخ آثاره، فلم يستطع (المكان) أن يمحو آثار (الزمان)، فتكتشف أن هذا السور سواء بمعناه المادي المكاني بهدف عزل البيت عن العالم تأمينًا له، أو بمعناه المجرد الرمزي بهدف إحاطة الوعي وعزل الذاكرة عن أحداث الماضي قد فشل في تحقيق هدفه، فلم تستطع سناء الانسلاخ من ماضيها ولم تقوَ على مغالبة آثار الزمن على الذاكرة، فعادت من رحلتها إلى الماضي لإعادة صياغته بالإخفاق، وبدأت شمس الحب التي توهجت في سماء العاشقين في الأفول رغم مساعي حبيب الجاهدة لإنعاش هذا الحب:

سناء:وماذا تتصور لنا؟
حبيب:بدلاً من نبش الذاكرة، أريد أن أسكن فيها.. أريد أن أسكن في داخلك.. أن أسكن في أحشائك.. أن ألتف على نفسي في رحمك..
سناء:إن صوتي الداخلي هو الذي أخبرني.. لن يشفى نهمك إلا إذا أكلتني.
حبيب:ليتنا نمتلك الجسارة!
سناء:أتريد حقًا أن تأكلني!
حبيب:حين أراد المسيح أن يطعم الناس خبز الله الحقيقي، وأن يجعلهم يبصرون نوره الوهاج، طلب منهم أن يأكلوا جسده، ويشربوا دمه، وقال.. من يأكل جسدي، ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه. ولو استطعنا لعرفنا طعم الخبز، الذي نفتش عنه منذ ولادتنا([103])

 يأتي تطوير حبيب لمسعاه في تعالقه بسناء من نبش الذاكره إلى سكناه في داخلها والالتفاف في رحمها تعبيرًا عن رغبة في الاحتماء بداخلها من عالم خارجي قاسٍ ومحبط، إن سناء هي بمثابة الرحم لحبيب، والرحم هو مكان التكوُّن وحضن التشكل ومبعث الإطلاق للحياة، فلواذ حبيب برحم سناء إنما يأتي احتماء به من الموت ورغبة في تجديد الحياة وتنشيط ديمومتها، فسناء لحبيب الذي يريد أن يأكلها هي نهمه ومسيحه، هي حياته وأبديته، رحمه وميلاده ومخلده “فبعد إغلاق المكان (أي بناء السور) تصبح سناء، في نظر حبيب، داخلاً أنثويًّا مكتملاً، أو حسب تعبيره (المرأة المكتملة، والمفعمة بالأسرار والخبايا والكنوز). وهو يود أن يفض أختام هذه الأسرار والخبايا والكنوز، ويصل إلى الكشف عن طريق التوحد بالجسد الأنثوي، المعشوق، الرامز باسمه سناء، إلى البهاء، وبنوعه (الأنثى) إلى البهاء”([104])، فرغبة حبيب في التكور في داخل سناء والاتحاد بها كما رغبة الصوفي في الذوبان في المعشوق والفناء فيه. ولكن الزمن بواقعيته يقف حائلاً ضد هذه الرغبة، و”إلى الفشل تنتهي تجربة المتخيل النصي، أو حلم الأبدية الذي يسعى حبيب إلى تحقيقه. ربما لأن سناء عادت إلى فرديتها الواقعية. إلى أن تكون أم عدنان وذاكرة زمنها الذي ما زال قائمًا! لأنها لم تدرك بأن الآلام التي شعرت بها هي ضرورة، هي الانزلاقة نحو البهاء والتلاشي في وحدة الوجود (بحيث يعود المرء ليصبح عنصرًا من عناصر هذا الكون، جزءًا من التراب، من الماء، من العشب، من الزهر، من أشعة الشمس) كما يقول ونوس في الحوار الأخير. ألم سناء قادها إلى العجز.. ربما لتبقى شهادة على زمن واقعي يستعصي على الذاكرة التحرر منه فتعيش حلم الوجد وخفة الحياة!”([105]). ولكن لِمَ استحضر ونوس على لسان حبيب كلمات المسيح في عشائه الأخير مع تلاميذه؟ العشاء الذي يفصل بين الحياة والموت؟ هل لأن ونوس في برزخيته بين الحياة والموت يستدعي العشاء الرباني الأخير الذي بعده هزم المسيح الموت بقيامته؟ هل كان ونوس يشعر أن “أيامه المخمورة” هي عشاؤه الأخير وفِصحُه الوداعي ونصه الختامي في سفره الكتابي الذي سيهبه خلودًا يحفظ اسمه من الفناء وسيمنحه حياة أبدية تنتصر على موت الجسد؟

 

الأراجوز وجريمة العصر

 يعود ونوس في “فصل جريمة العصر” ليستعين بالأراجوز عقب حكاية سناء في “فصل الارتباك والحب”، فيكون الأراجوز فصلاً ممتدًا للحكاية:

(مع نداءات الأراجوز، يقوم الشاب ببعض الحركات البهلوانية، فيقف على رأسه، ويتسلق السلم، ورأسه مدلى إلى الأسفل. أحيانًا يتوقف الأراجوز، ويصفق للشاب، فيتبعه الحاضرون بالتصفيق.

يتناول الولد آلة هارمونيكا، ويعزف في البداية نغمات متقطعة وإعلانية. تتحول تدريجيًّا إلى أنغام حزينة ومؤثرة. تظهر سناء والمرأة على الشرفة المطلة على الساحة، وتتفرجان باهتمام. يزداد عدد المتزاحمين حول الحلقة).

الأراجوز:سنروي لكم جريمة العصر التي روعت بلاد الشام في كل ريف ومصر.
الصبية:(تقفز متجهة نحو الأراجوز. تدفعه في صدره، وتبصق) سنروي لكم قصة حب، كان يمكن أن يتحلى بها العصر وأن تلف بالشوق والحلم، كل ريف ومصر.
الأراجوز:إذن اسمعوا أيها الأماجد والأكابر!

كان رفقي الغازي واحدًا من الرجالات المرموقين، كان علمًا وطنيًّا.

الصبية:وأنا امرأته صفية الحافي، أدرى به من الأتباع والمرائين. كان سقيمًا، وخائرًا.. كان عنينًا.
الأراجوز:كان النضال من أجل الوطن يستنفد كل طاقتي. وزاد ضعفي حين أصابتني قرحة في معدتي.
الصبية:عرفتك مع النضال والقرحة، وعرفتك دونهما. ولم يكن لديك في الحالين ما تدَّعيه أو تتباهى به.
الأراجوز:كانت امرأة..

كانت امرأة معتلة بالشبق والنهمة..

كانت امرأة مأبونة وفاسدة.

الصبية:كان يتعشم بعد أن درس علوم المتمدنين، وتمتع بعاداتهم ونسائهم، أن يجد عند عائلة دمشقية عريقة، طفلة عمياء، يربكها الحياء، ورضا زوجها هو الغاية والرجاء.
الأراجوز:نعم كنت أبحث عن فتاة تتسربل بالحياء والحشمة، لا عن تنور يفور بالسوقية والغلمة.
متفرج :شو هالحكي.. شو يعني غلمة؟
الأراجوز:الغلمة يعني شدة الشهوة.

(ضحكات وتعليقات. يعلو صوت الهارمونيكا، ويدور الأراجوز بين الناس، وهو يرجوهم الحفاظ على الهدوء).

الصبية :(وهي تقفز بحركات بهلوانية) أيها العالم الكبير، والوطني الخطير.. لا تنقص البيت الذي طرقت بابه الفضيلة أو التقاليد. وما تجهله هو أننا نرث، رغم التزمت والتقاليد، تربية تعلمنا كيف نحول الزواج فرحًا ونشوة وسعادة.
الأراجوز:(يتناول عصًا وينهال بالضرب على ظهرها وعجزها) ما هذا؟ أيكفي أن نغفل لحظة، حتى تفلت كل براغيكِ. ألم أوصيكِ أن تحذفي هذا المقطع المشين.([106])

 إن ما يقوم به الشاب من حركات بهلوانية في بداية العرض يعمل على تحقيق تصدير لافت للانتباه، غير أن التحول التدريجي من الإيقاعات اللاهية إلى الأنغام الحزينة يعمل على دفع المتلقي لمتابعة هذا التحول والتفكر في أسباب الارتداد عن اللهو إلى الحزن. أما إطلالة سناء والمرأة القرين من الشرفة المطلة على ساحة العرض، فيمثل نوعًا من كسر الإيهام الذي يُكثر ونوس من استخدامه في هذه المسرحية في ظل توالد حكائي وتداخل حبكي، وهو ما يدعو المتلقي لأن يحاول الربط بين الحكايات المتوازية بما يجمعها من تماثل أو ما يفصلها من تخالف، فيبحث فيما بين حكاية سناء وحكاية الأراجوز والصبية من صلات.

 يمثل الجدل والصراع الذي دائمًا ما ينشب بين الأراجوز- المدافع دومًا عن قيم راديكالية والصبية التي تحمل الجرأة في محاولة الخروج على ثوابت القيم- عصب التوتر الدرامي، الذي يبدأ بالاختلاف على توصيف الحكاية وعنونتها، فالأراجوز يراها جريمة العصر التي كان لها أثر يصفه بالمروع، في حين أن الصبية تراها قصة حب كان يمكن أن تكون حكاية العصر، وما بين التأثيم والاستحسان سوف يتحرك المتلقي للحكم على تلك الحكاية.

 يبدأ الأراجوز والصبية الحكاية كراويين يقدمان الشخصيات، ثم ما يلبثان أن يقوما بدور الشخصيتين الرئيسيتين في تلك الحكاية، في ضرب من الالتفات يعمق عملية كسر الإيهام المسرحي، الذي تتوافر عليه عناصر أخرى مساعدة أيضًا في العرض، كتوافر جمهور للفرجة على عرض الأراجوز على خشبة العرض المسرحي، وبالاشتراك في مسار الحكاية بالاستفسار عما لا يفهمه أحد المتفرجين أو بالضحكات والتعليقات، فتشهد هذه المسرحية عودة المتفرجين للمشاركة في العرض، وهي الآلية التي استخدمها ونوس كثيرًا في مسرحياته السبعينية رغبةً منه في تفاعل الجمهور مع الأحداث ومناقشة الخشبة/ منصة السلطة فيما تصدره من مشاهد، في حين غابت تلك الآلية عن مسرحياته في أواخر الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات. وكذلك يكون كسر الإيهام بمطالبة الأراجوز للصبية بحذف أحد المقاطع الذي يراه مشينًا. ويكون موضوع الحكاية حول قصة صفية الحافي امرأة السياسي رفقي الغازي الذي لا يشبعها في العلاقة الجنسية، فتقيم علاقة مع الشاب ابن أخيه بعد أن كانت ترفض إقامته بمنزلهما، وتنتهي تلك العلاقة بقتل رفقي الغازي.

 إن ثمة خيطًا يجمع بين حكاية الأراجوز/ رفقي الغازي والصبية/ صفية الحافي وحكاية سناء، فالمرأة في كلتا الحكايتين تقرر مصيرها بنفسها، وتختار عشيقًا آخر غير الزوج الذي تفشل معه علاقتها الجنسية. كلتاهما تخوض في المحظور وتنقلب على الأعراف وتحطم القيود الاجتماعية. كما أن ثمة قدرًا من التماثل بين شخصية الشاب وشخصية حبيب، فالشاب يصف انفعاله نحو صفية: “كانت بحرًا من السحر والجمال وكنت أغرق فيها بلا رجاء”([107])، وهو ما يتماس مع رغبة حبيب في الذوبان في سناء وسكنى رحمها، وعمومًا فالأراجوز يستخدم كفن شعبي باعتباره “فن تجريس القهر”([108])، حيث نجد “ظاهرة الأراجوز بوصفه ممثلا لرحلة فنثقافية تمارس اللعب بالرمز مرة بالحكي المكثف الذي لا يخلو من “قفشات” السخرية التي تتسلح بالتقفية، أو فن القافية، وهذه السخرية تتم من شخوص ونصوص وعادات وتقاليد ونماذج إنسانية سيئة”([109])، فالأراجوز في هذه المسرحية يجرس القهر الذكوري والقهر السلطوي في آنٍ.

 يقوم ونوس في رسم شخوصه بنوع من تفتيت الشخصية وذلك بتوزيع حمولاتها الرؤيوية وشحناتها النفسية ومنظوراتها من المواقف والمتغيرات على أكثر من شخص، فتتفتت الذات الواحدة إلى ذوات متعددة، وما تلك الذوات- في الحقيقة إلا أقنعة للشخصية الأصل وظل لها، وهي تقنية بريختية تعمل على “كسر وحدة وتماسك الشخصية كصورة عن الإنسان الفرد فتبدو كشيء قابل للتشكل حسبما يريد مؤلفها. كما تتفت الشخصية إلى أكثر من صوت”([110]).

 إذن، فاستخدام ونوس للأراجوز يأتي لإعادة تدوير الحكاية الأصل في حكاية موازية تتماس معها مع قدر ما من المخالفة، فتموقع الحكايات وتلاقي القصص يجعلها من بعضها كالمرايا المتعاكسة، فالعلامة الحكائية تتكاثر، والدوال تتناسخ في الإشارة إلى نفس المدلول، إذ تمسي الحكاية والحكاية الموازية لها التي يحكيها الأراجوز بمثابة علامتين توأمين في الإشارة إلى نفس المدلول، فثمة شكل من البولفونية في الحكاية المسرحية، التي تعتمد أسلوبًا حلزونيًّا في سرد الحكايا يرتد كدورة اللولبي اعتمادًا على تعدد الأصوات “يتقدم إلى الأمام ثم يعود إلى الخلف، مستعرضًا الماضي من خلال الحاضر، ومقدمًا الأشياء والأحداث من وجهات نظر متعددة؛ لأنه يثبت أننا لا نستطيع التوصل إلى المعرفة أيًّا كانت طبيعتها: معرفة العالم، معرفة الآخر، معرفة أنفسنا. وكل ما هنالك إدراكات أو انطباعات تتركها الظواهر على وعي الذات المدركة. ومن هنا يصبح كل شيء نسبيًّا طبقًا لإدراك الذات التي تختبر الظواهر، بل إن هذه الظواهر ليست سوى إسقاطات من قبل الذات نفسها، فيصبح العالم المعرفي شتاتًا من الإدراكات لا يربط بينها سوى وحدة كيان الذات المدركة”([111]).

 وما بين الصورة والظل، الصوت والصدى، الحكاية ومرشحها المتمثل في مشاركات الأراجوز يتحرك الحفيد ململمًا نثارات الحكايا وجامعًا شذرات الوقائع التي يترك لأصحابها روايتها، والحق أن “العنصر الأهم هنا هو عملية فصل الراوي (أو جامع الحكاية) في المسرحية عن الذي يقول أو يسرد أجزاء الحكاية. هذا يؤدي إلى تعددية وجهات النظر، وتعددية زوايا الرؤيا، التي تشمل المواقف في حاضر الحدث، والموقف في حاضر السرد، لذلك فإن النص ينتقل بشكل دائم بين ماضٍ وحاضر، وهذا يعطي أيضًا للنص نوعًا من الانفتاح ماض/ حاضر”([112]).

 وإذا كان التوالد الحبكي الملازم لتقنية المسرح داخل المسرح التي استخدمها ونوس للمرة الأولى في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” كان قد اتسم- في تلك المسرحية- بتراكب الحبكات للحكايا المتضمَنة في الحكاية أو الحبكة الإطارية، حيث اتسم بالنمو المتصاعد الذي يتخذ خطًّا رأسيًّا، فإن التوالد الحبكي في “الأيام المخمورة” قد اتخذ خطًّا عرضيًّا، إذ تتوازى الحبكات بتوازي الحكايا في مسار أفقي.

 

الحقيقة الضائعة

 في الفصل الأخير “فصل الملاعب والخواتم” يتوق المتلقي أن يبلغ شاطئ الحقيقة بعد أن طوَّف مبحرًا مع الحفيد في بحار البحث حيث تقاذفته تيارات التساؤل:

الأراجوز:وتفرَّج يا سلام..

على الشاب الغرّ، الذي يبحث عن إبرة في مزبلة.

الصبية:ما هي الحقيقة؟
الأراجوز:إبرة ضاعت في مزبلة..
الصبية:هناك روايات وأخبار عن الحقيقة.. أما الحقيقة..
الأراجوز:فإنها إبرة ضاعت في مزبلة..

(فاصل هارمونيكا)

الشاب:وجدت الدمل دمامل، والطريق إلى الحقيقة متاهات وفجوات. فلم أجد أمامي إلا أن أتخيَّل، وأركب المشاهد. وبدلاً من الحقيقة أعدت صياغة العائلة في رواية.
الصبية:(وهي تشخص ليلى) في 29 أيار 1945 وكان عمرك سنتين ونصفًا، استشهد أبوك شامل السيروان مع حامية الدرك، التي أبيدت، وهي تدافع عن البرلمان ضد القوات الفرنسية، التي كانت تريد السيطرة عليه. إياك أن تنسى هذا التاريخ. في 29 أيار 1945..
الأراجوز:وتفرَّج يا سلام. على المآسي والأحزان.
الصبية:خلال أربعة أشهر وسبعة عشر يومًا، كان يأتيني شامل السيروان في المنام، ويقول لي..
الأراجوز:(بصوت فخم وآمر) لا تجعلي موتي مضاعفًا، وتذكري أن طفلنا يحتاج عنايتك.
الشاب :وأذكر أن جدتي أصرت أن يمد فراشها على الأرض. وخلال فترة لا أعرف كم امتدت. تعودت أن أراها دائمًا متمددة على ظهرها، ويداها معقودتان فوق بطنها. وكانت لا تكف عن التمتمة، وقليلاً ما تأكل أو تتحدث.
الأراجوز:وتلك هي الرواية.
الصبية:كانت الناس تتمايل..
الشاب:وكانت الأيام مخمورة..
الأراجوز:نهر يجري حاملاً الغرائب والخبريات ومسالك الناس المتعثرة..

(يدور وهو يردد، دون أن يغطي صوته على عزف الهارمونيكا)

وتفرَّج يا سلام.. وتفرَّج يا سلام.

(تختفي الإضاءة)([113]).

إذا كان الحفيد/ الشاب قد كلف نفسه مشاق البحث عن الحقيقة، التي كانت منذ البداية منشده وهدفه المصبو إليه، فإن ما انتهى إليه هو العودة لنفس النقطة التي انطلق منها، ليقف على تخوم اللايقين، فالحفيد/ الشاب أراد أن يفقأ الدمل، وفقء الدمل يعوزه بلوغ الحقيقة، والحقيقة غائبة بل تائهة كإبرة في مزبلة، وها نحن “نعود إلى بداية النص لنقرأه ثانية، في ضوء نهايةٍ ترى الحقيقة كسؤال، الجواب عليه مجرد استعارة (إبرة) تفيد عن ضياع هذه الحقيقة، وعن وهم من يعتقد أن بمقدوره الوصول إليها، أو القبض عليها. إذ لم تعد الحقيقة معادلاً لواقع، بل لمتخيل يروي روايات وأخبارًا عن الحقيقة، ويدخلها في اللايقين أو في النسبي والمختلف”([114]).

 لقد باتت الحقيقة ضربًا من المجاز، والمجاز مراوغ، والمراوغة تنهك الباحث عن الحقيقة، التي صارت كإبرة في مزبلة، كيانًا صغيرًا، جسدًا ضئيلاً، تحويه مزبلة، فالحقيقة تكتنفها الأوساخ وتلوثها، واليقين ضائع في ثنايا القبح، فالقبح قد ابتلع الحقيقة وحجب اليقين.

 لقد كان ونوس طوال رحلته مع الكتابة باحثًا عن الحقيقة، وكان التساؤل طريقًا يسلكه تفتيشًا عن اليقين ومختبرًا لما كان من مسلمات وحقائق، ليس ترفًا فلسفيًّا أو نهمًا معرفيًّا، وإنما كان التساؤل المار بدروب الشك نشدانًا لبلوغ اليقين جسرًا يصل ونوس بجوهر الوجود ومكنون العالم. وما بين اليقين والشك، الحقيقة والوهم، الثبات والتردد تراوح النص الونوسي متذبذبًا في كل مرحلة من مشروعه الكتابي. وإذا كانت أسئلة ونوس في مرحلة البدايات تعرف إجابات لها لا تخلو من مسحة تساؤل أو شك، فإن أسئلة ونوس في مرحلته الأخيرة قد زاغ عنها اليقين، وانقطعت عنها سبل الحقيقة، وأُلغزت الإجابات التي أعادت الإشكاليات إلى نقطة التساؤل.

 لقد أعيت الحقيقة الشاب/ الحفيد، الذي وجد الدمل دمامل، مما يعيده ثانية إلى نقطة المنطلق، وها هو يكرر جملاً قد قالها في مفتتح النص عن جدته: “تعودت أن أراها دائمًا متمددة على ظهرها، ويداها معقودتان فوق بطنها“، فبنية النص المسرحي بنية دائرية ملتفة، وحركة الأحداث حلزونية تعود لتنغلق على نفسها، وبنية الزمن دائرية مغلقة، فالزمن يبتلع الزمن، وينفيه خارجه. كما بات التساؤل كساقية تحرث في نهر جامد، راكد المياه، تغرق فيه الحقيقة وتضيع.

 أما الحقيقة الوحيدة الجلية فهي الموت والقتل، المرتبط بتاريخ 29 أيار 1945، تاريخ استشهاد شامل السيروان أبي الشاب/ الحفيد الباحث عن الحقيقة، ولكن أية وصية يسديها الأراجوز/ شامل السيروان إلى الصبية/ ليلى بألا تجعل موته مضاعفًا؟ وأية توصية يذكرها فيها بعناية طفلهما؟ فهل سعدالله ونوس في وقوفه على الأعراف بين الحياة والموت ومشارفته الرحيل يوصي الصبية/ ليلى برعاية طفلهما/ حلمه/ غرسه الإبداعي، الذي خلفه ابنًا حيًّا له يقاوم الموت ويعيش مهما امتد الزمن؟ إنه يوصي الصبية بما تحمله من معاني الشباب والحياة والخصوبة بطفلهما، غرسهما المشترك، فالصبية/ الشباب والحيوية التي قد تكون معادلاً موضوعيًّا للحياة هي المؤتمن على الابن/ مخرجه الجمالي إلى الدنيا.

 والحقيقة أن توافر الشخصيات كالأرجواز والصبية على تقمص أدوار أكثر من شخصية بتبديل الأقنعة يعمل على الربط بين تلك الشخصية وغيرها من الشخصيات المتماسة معها من ناحية الربط الدلالي لأصوات النص، في مقابل أنه يعمل على تفكيك الشخصية وتفتيت هيكلها التكويني، كما يُخرِج المتلقي من حالة التماهي المطلق مع شخوص النص.

 وتجيء النهاية لتعلن أن الأيام مخمورة والناس تتمايل مترنحة، مسالكهم متعثرة في نهرها الذي يحمل الغرائب، ومع دعوة الأراجوز الناس للفرجة، فإن صوته لا يستطيع أن يغطي على صوت عزف الهارمونيكا، صوته يخالطه التشويش، صوت منتقص الفاعلية ومطموس الهوية، حتى تختفي الإضاءة، مما يعني إظلام العرض، فأية فرجة يدعو إليها الأراجوز، والمشهد مظلم والأجواء التي يُرجى العثور على الحقيقة فيها معتمة؟ فهي فرجة منزوعة القيمة وبحث يفضي إلى اللايقين والعدم، وإذا كان ثمة رابط يقيد الهوية والاستقرار فيها بالحقيقة ومعرفتها، فتبدد الحقيقة يبدد الهوية.

ومما يتبدى من النهاية المفتوحة لهذه المسرحية أنّ ونوس يضاعف التأكيد على جعل أثره المسرحي “أثرًا مفتوحًا” كأنّه يشايع- في ذلك بريخت، فانفتاح الأثر يؤكّد “شعرية المسرح عند بريخت Brecht، فالحدث الدرامي يتم تصوره كعرض إشكالي لبعض الانفعالية التي من أجلها لا يقوم رجل المسرح- وهو يتبع في ذلك تقنية اللعب «الملحمي» الذي يكتفي بتقديم الأحداث إلى المتفرج- باقتراح الحلول، فعلى المشاهد أن يستخلص الخلاصات النقدية مما شاهده. وبالفعل فمسرحيات بريخت تنتهي بشكل غامض… وعندئذٍ يكون الأثر «مفتوحًا» فيتحول إلى نقاش إننا ننتظر ونرجو أن يتحقق الحل، لكنّ الحل يجب أن يولد من وعي الجمهور، وهكذا يصير الانفتاح وسيلة تربوية ثورية”([115])، فتبدد الحقيقة وغياب الحل وانفتاح النهاية يفضي إلى توتر مستدام وبحث قلق لدى المتلق عن “حل” أو عن دلالة محسومة، فتتعدد الحلول بتعدد المشاهدات والقراءات، وتتكاثر الدلالات بتنوع المشاهدين والقُراء.

…………………………………………………..

 (*) نشرت هذه الدراسة في مجلة “فصول” في العدد 87/ 88 في يوليو 2014، وهي الفصل الرابع من رسالة ماجستير للناقد الدكتور رضا عطية تحت إشراف الناقد الكبير الدكتور صلاح فضل وقد نشرت في كتاب بعنوان بعنوان “مسرح سعد الله ونوس: قراءة سيميولوجية”.

الهوامش:

[1]– محمد بدوي، “تجليات التغريب في المسرح العربي”، قراءة في سعدالله ونوس، (مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثالث، 1982)، ص87.

[2]– جميل حمداوي، “السيموطيقا والعنونة”، عالم الفكر، المجلد الخامس والعشرون، العدد الثالث، (الكويت، يناير 1997)، ص108.

[3]“يوم من زماننا” مسرحية لسعدالله ونوس، تبدو أجواؤها أقرب إلى العبثية والغرابة، حيث يكتشف “فاروق” المدرس بإحدى المدارس الثانوية للبنات أن طالباته يمارسن الدعارة في بيت بالمدينة، في ظل قبول رموز المجتمع لهذا العهر؛ كناظر المدرسة وإمام المسجد والمحافظ الذي يخبره المدرس بأن ابنته من رواد هذا البيت الذي يمارس فيه الفحش فلا ينكر ذلك أو يغضب لشرفه المهدر، كما يكتشف المدرس أن زوجته تتردد على بيت الدعارة ذاته، مما يؤدي بزوجته إلى الانتحار بعد اكتشاف زوجها لأمرها.

[4]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص 5.

[5]– سعدالله ونوس، حفلة سمر من أجل 5 حزيران، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، (بيروت، دار الآداب، طبعة 2004)، ص ص189- 190.

-[6] أحمد مجاهد، مسرح صلاح عبد الصبور قراءة سيميولوجية (الجزء الأول)، (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، 2001)، ص 144.

[7]– سعدالله ونوس، حفلة سمر من أجل 5 حزيران، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، (بيروت، دار الآداب، طبعة2004)، ص201.

[8]– سعدالله ونوس، حفلة سمر من أجل 5 حزيران، الأعمال الكاملة، المجلد الأول، (بيروت، دار الآداب، طبعة2004)، ص205.

[9]– علاء عبد الهادي، “شعرية الهوية ونقض فكرة الأصل: الأنا بوصفها أنا أخرى”، (الكويت، مجلة عالم الفكر، المجلد 36 العدد الأول، 2007)، ص280.

[10]– علاء عبد الهادي، المرجع السابق، ص 291.

[11]– يمنى العيد، “هي هذه الانزلاقة”، مقال منشور بكتاب سعدالله ونوس الإنسان المثقف المبدع (شهادات وقضايا) لمجموعة من الكُتاب، (دمشق، دار كنعان، شتاء 2000)، ص172.

[12]– كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ترجمة رئيف كرم، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992)، ص31.

[13]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص8.

[14]– حازم شحاته، “المؤلف المشارك: مدخل إلى قراءة نصوص سعدالله ونوس”، (مجلة فصول، المجلد السادس عشر، العدد الأول، صيف1997)، ص368.

-[15] سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1997، ص ص15- 16.

[16]– جميل حمداوي، مدخل إلى السينوغرافيا، كتيب ملحق بمجلة إبداع، العدد9 شتاء 2009، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص25.

[17]– كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ترجمة رئيف كرم، (المركز الثقافي العربي، بيروت، 1992)، ص20.

[18]– دانيال تشاندِلر، أسس السيميائية، ترجمة طلال وهبة، (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى 2008)، ص161.

-[19] دانيال تشاندِلر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص162.

-[20] سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1997، ص17.

[21]– جميل حمداوي، مدخل إلى السينوغرافيا، كتيب ملحق بمجلة إبداع، العدد9 شتاء 2009، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص12.

[22]– جوردون جراهام، مدخل إلى علم الجمال، ترجمة محمد يونس، (سلسلة آفاق عالمية، مصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2013)، ص144.

[23]– شاكر عبد الحميد، عصر الصورة، (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد311، يناير2005)، ص298.

[24]– كير إيلام، سيمياء المسرح والدراما، ترجمة رئيف كرم، (بيروت، المركز الثقافي العربي، 1992)، ص26.

[25]– جواد الحسب، “عناصر السينوغرافيا في العرض المسرحي”، مقال منشور بموقع الحوار المتمدن، شبكة المعلومات (الإنترنت)، بتاريخ 11 مارس 2011.

[26]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص 18- 19.

[27]– ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بكتاب سعدالله ونوس الإنسان المثقف المبدع (شهادات وقضايا لمجموعة من الكُتاب)، (دمشق، دار كنعان، شتاء 2000)، ص191.

[28]– ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بمرجع سابق، ص193.

[29]– ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بمرجع سابق، ص192.

[30]– صلاح فضل، إنتاج الدلالة الأدبية، (القاهرة، مؤسسة مختار للنشر والتوزيع، الطبع الأولى، 1987)، ص13.

[31]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص21-22.

[32]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص20.

[33]– مجيد حميد الجبوري، البنية الداخلية للمسرحية، (لبنان، بيروت، منشورات ضفاف، 2013)، ص25.

[34]– محمد بدوي، “تجليات التغريب في المسرح العربي”، قراءة في سعدالله ونوس، (مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثالث، 1982)، ص91.

[35]– لويجي بيرندلو، ثلاثية “المسرح داخل المسرح”، ترجمة وتقديم: محمد إسماعيل محمد، (الكويت، سلسلة من المسرح العالمي، العددان359 و360، 2012)، ص45.

[36]– ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بمرجع سابق، ص ص193-194.

[37]– سعدالله ونوس، “بيانات لمسرح عربي جديد”، سعدالله ونوس، الأعمال الكاملة المجلد الثالث، (بيروت، دار الآداب، الطبعة الأولى، 2004)، ص26. وكانت هذه البيانات بمثابة مانيفستو يطرح رؤى ونوس لتجديد المسرح العربي، وقد كُتبت هذه البيانات ونشرت في مجلة “المعرفة” عدد تشرين الأول عام 1970.

[38]– ليلى بن عائشة، التجريب في مسرح السيد حافظ، (القاهرة، مركز الحضارة العربية، الطبعة الأولى، 2005)، ص75.

[39]– برونوين ماتن- فليزيتاس رينجهام، معجم مصطلحات السيميوطيقا، ترجمة عابد خزندار، (مصر، المركز القومي للترجمة، 2008)، ص40.

[40]– زكي نجيب محمود، تجديد الفكر العربي، (بيروت، دار الشروق، 1971)، ص51.

[41]– مراد وهبة، ملاك الحقيقة المطلقة، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999)، ص225.

[42]– مراد وهبة، ملاك الحقيقة المطلقة، مرجع سابق، ص36.

[43]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص21-22.

[44]– علي بختي، “طروحات فولفجانج إيزر في التلقي: بين المصطلح والمفهوم”، مجلة فصول، العدد المزدوج85/86، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، ربيع/ صيف2013)، ص515.

[45]– علي بختي، السابق، ص515.

[46]– جميل حمداوي، القصيدة الكونكريتية، كتيب ملحق بمجلة إبداع، العدد 19، صيف 2011، (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، ص ص40- 41.

[47]– مجيد حميد الجبوري، البنية الداخلية للمسرحية، مرجع سايق، ص62.

[48]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص23.

[49] – ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بمرجع سابق، ص192.

[50]– مجيد حميد الجبوري، البنية الداخلية للمسرحية، مرجع سابق، ص134.

[51]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص32.

[52]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص105.

[53]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص25: 27.

[54]– محمد عجور، الأسلوب السينمائي في البناء الشعري المعاصر، سلسلة كتابات نقدية، (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، 2011)، ص 127و129.

[55]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص ص28-29.

[56]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص49.

[57]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص23.

-[58] سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص ص9-10.

[59]– غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، (المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 1984)، ص191.

– [60] جلين ويلسون، سيكولوجية فنون الأداء، ترجمة شاكر عبد الحميد، (الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 258، يونيو2000)، ص219.

[61]– جعفر العقيلي، “شعرية التنافذ.. مقاربة بين قصيدتين للسياب وريلكه”، مقال بجريدة الرأي الأردنية بتاريخ الجمعة 22 نيسان- 2005.

[62]– شاكر عبد الحميد، الفن والغرابة، (مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010)، ص379.

[63]– دانيال تشاندِلر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص346.

 -[64] سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص ص19-20.

[65]– سيزا قاسم، “السيموطيقا: حول بعض المفاهيم والأبعاد”، مقال منشور بكتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف: سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، (مصر، دار إلياس العصرية، 1986)، ص33.

[66]– عبد الوهاب عبد الرحمن، “التجريب في المسرح: الوهم المزدوج”، مجلة فصول، العددان 85/86، 2013، (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، ص620.

[67]– دانيال تشاندِلر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص177.

[68]– شاكر عبد الحميد، الفن والغرابة، مرجع سابق، ص396.

[69]– شاكر عبد الحميد، المرجع السابق، ص385.

[70]– عبد الوهاب بن علي الحكمي، دراسات أدبية، كتاب الرياض، العدد 180، ص17.

[71]– كير إيلام، “العلامات في المسرح”، مقال من ترجمة سيزا قاسم، منشور بكتاب أنظمة العلامات في اللغة والأدب والثقافة: مدخل إلى السيميوطيقا، إشراف: سيزا قاسم ونصر حامد أبو زيد، (مصر، دار إلياس العصرية، 1986)، ص254.

[72]– يمنى العيد، هي هذه الانزلاقة، مقال منشور بمرجع سابق، ص ص180-181.

[73]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، مصدر سابق، ص ص32- 33.

[74]– نهلة فيصل الأحمد، التفاعل النصي، (سلسلة كتابات نقدية، الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، 2010)، ص95.

[75]– دانيال تشاندِلر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص338.

[76]سعدالله ونوس الإنسان المثقف المبدع (شهادات وقضايا)، (دمشق، دار كنعان، شتاء 2000)، ص28.

[77]– دانيال تشاندلِر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص333.

[78]– محمد عبد الله حسين، ظاهرة الانتظار في المسرح النثري، (سلسلة دراسات أدبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998)، ص 198.

[79]– دانيال تشاندلِر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص219.

[80]– علياء الداية، الرموز الأسطوية في مسرح وليد إخلاصي، (سوريا، دار الحوار، الطبعة الأولى، 2010)، ص21.

[81]– محمد رجب النجار، توفيق الحكيم والأدب الشعبي، أنماط من التناص الفلكلوري، (القاهرة، دار عين للدراسات، الطبعة الأولى 2001)، ص199.

[82]– علياء الداية، الرموز الأسطوية في مسرح وليد إخلاصي، مرجع سابق، ص20.

[83]– فاروق عبدالقادر، “قراءة في مسرح سعدالله ونوس: مرحلتان متمايزتان في إبداعه”، مقال منشور بكتاب سعدالله ونوس الإنسان المثقف المبدع (شهادات وقضايا لمجموعة من الكُتاب)، (دمشق، دار كنعان، شتاء 2000)، ص59.

[84]– علياء الداية، مرجع السابق، ص89.

[85]– محمد رجب النجار، توفيق الحكيم والأدب الشعبي، مرجع سابق، ص 192: 194.

[86]– دانيال تشاندلِر، أسس السيميائية، مرجع سابق، ص146.

[87]سعدالله ونوس الإنسان المثقف المبدع (شهادات وقضايا)، (دمشق، دار كنعان، شتاء 2000)، ص ص188-189.

[88]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص64.

[89]– كرس شلنج، الجسد والنظريات الاجتماعية، ترجمة: منى البحر- نجيب الحصادي، (الإمارات، دار كلمة- مصر، دار العين، الطبعة الأولى، 2009)، ص237.

[90]– عبلة الرويني، حكي الطائر سعدالله ونوس، (مصر، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005)، ص15.

[91]– كرس شلنج، الجسد والنظريات الاجتماعية، مرجع السابق، ص238.

[92]– عبلة الرويني، حكي الطائر سعدالله ونوس، مرجع سابق، ص15.

[93]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص66-67.

[94]– غاستون باشلار، شاعرية أحلام اليقظة، ترجمة جورج سعد، (بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1991)، ص86.

[95]– غاستون باشلار، المرجع السابق، ص88.

[96]– غاستون باشلار، المرجع السابق، ص88.

[97]– راشد عيسى، استدعاء الطفولة في الأدب، (كتاب الرياض، العدد183، 2013)، ص19.

[98]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص:82- 83.

[99]– رضا غالب، الميتاتياترو: المسرح داخل المسرح، (مصر، أكاديمية الفنون، 2006)، ص163.

[100]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص108.

[101]– سيزا قاسم، القارئ والنص: العلامة والدلالة، سلسلة مكتبة الأسرة، (الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014)، ص45.

[102]– آن أوبرسفيلد، قراءة المسرح، ترجمة: مي التلمساني، (وزارة الثقافة، مهرجان القاهرة الدولة للمسرح التجريبي، 1994)، ص242.

[103]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص ص110-111.

[104]– يمنى العيد، “هي هذه الانزلاقة”، مقال منشور بمرجع سابق، ص184.

[105]– يمنى العيد، “هي هذه الانزلاقة”، مقال منشور بمرجع سابق، ص188.

[106]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص 41:39.

[107]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص43.

[108]– مسعود شومان، “الأراجوز فن تجريس القهر”، (أخبار الأدب، العدد1110، الأحد19-يناير-2104)، ص22.

[109]– مسعود شومان، “الأراجوز فن تجريس القهر”، مرجع سابق، ص22.

[110]– رضا غالب، الميتاتياترو: المسرح داخل المسرح، مرجع سابق، ص ص68-69.

[111]– عادل عوض، تعدد الأصوات في الروايات المحفوظية، (مصر، سلسلة نجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009)، ص51.

[112]– ماري إلياس، “الأيام المخمورة قراءة في مسرحية سعدالله ونوس”، مقال منشور بمرجع سابق، ص201.

[113]– سعدالله ونوس، الأيام المخمورة، (سوريا، الأهالي للطباعة والنشر والتوزيع، 1997)، ص125: 128.

[114]– يمنى العيد، “هي هذه الانزلاقة”، مقال منشور بمرجع سابق، ص171.

[115]– أمبرطو إيكو، الأثر المفتوح، ترجمة: عبد الرحمن بو علي، (سورية، اللاذقية، دار الحوار، الطبعة الثانية، 2001)، ص26.

مقالات من نفس القسم