“تحت شجرة العائلة” خطوة أوسع نحو شعرية أكثر بساطة وكثافة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 43
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خطوة أوسع يقطعها الشاعر أحمد يماني في مجموعته الشعرية الثانية "تحت شجرة العائلة" التي أصدرها هذه الأيام على نفقته الخاصة في طبعة محدودة، فقد تخلصت هذه المجموعة – إلى حد كبير- من الاستطراد والحشو والترهل النثري والمماحكات الشكلية التي سادت مجموعته الأولى "شوارع الأبيض والأسود" والتي أصدرها قبل أعوام ثلاثة على نفقته الخاصة أيضا.

في المجموعة الجديدة ينزع الهم الشعري نحو البساطة والتعامل مع مفردات وعناصر الواقع المعيش في منطقها العادي الحي المسكون برؤى وأفكار وأسئلة وتناقضات تنطوي بتلقائيتها وسذاجتها على الكثير من العناصر الصالحة لإثارة الدهشة والتوجس. وبعين طفل يرصد يماني ويتأمل حركة الحياة والأشياء حوله، وعلى مدار سبع متواليات شعرية تضمها المجموعة يتفيأ شجرة العائلة التي تتشابك وتتقاطع في جذورها وأغصانها وأوراقها حالات ومشاهد من الواقع وتتخللها رؤى حيبية عشيقة دنفة، وأنثى مخاتلة مراوغة، وأقنعة أعداء بعيدين، وأجراس غامضة تومض بخفوت فوق سرير ضيق، وتتراءى كذلك – تحت هذه الشجرة- أطياف من حقول طفولة متربة تسحبها ليالي برد قارصة وحياة لاهثة تتبخر فجأة في مرايا الستين، وتشبه عواء قطط شاردة في دهاليز آخر الليل. وكما يقول في إحدى القصائد بعنوان “دراجة بخارية تعبر سريعا”:

“القطط التي تعوي في آخر الليل

كأبناء العائلة الصغار

حين يبحثون جميعا وفي وقت واحد

عن لعبة قديمة تهشمت

والرجل العائد إلى البيت

بعدما صفى مآساته

في عصارة حديدية أنتجت آلاف

الأكواب بلا ملل

كأن ما يحدث وقفٌ على الطبيعة

كأن عليها أن تقول في لهجة صارمة:

اذهبوا أيها الأولاد

مرّ ما مرّ”

إن فكرة القبض على واقعية اللحظة الحاضرة التي تهيمن على معظم قصائد المجموعة، والتي أصبحت من الشواغل الأساسية في مشهد قصيدة النثر لا يجب أن تخدعنا بأن لغة النثر، حسب ما يدعيه البعض، أو ما تغري به هذه اللغة من وضوح وانكشاف بل خفة هي الموازي الشعري الأمثل لدرامية الحياة المليئة بالعقد والأخطاء، فليس هناك ما هو أكثر خداعا ورتابة ومللا من واقعية الحياة نفسها، وفي تصوري أنه ليس ثمة لحظة حاضرة مجردة بذاتها، ما دمنا لا نستطيع أن نخطو خطوة واحدة خارج ذواتنا. إننا نعيش لحظات متراكمة متراكبة من زمن ثقيل ضاغط، قد يتفجر فجأة تحت تأثير نشوة عابرة مباغتة من دون توقع أو ترتيب، ومن ثم ففي رأيي أن فكرة واقعية اللحظة الحاضرة تنطوي على وهم ساذج، وتحتاج إلى كثير من المراجعة والمساءلة النقدية. وسيظل الشعر يهجس دائما في خلفية اللغة، فيما وراء الكلام، وليس من مجرد تثبيت المشهد في أطر وكوادر محددة مهما بلغ بريقها، وكما هو شائع في واقع قصيدة النثر الراهنة، وعلى ذلك فحين يقول الشاعر في ختام قصيدته “أجراس”:

“الرحلة التي خططت لها منذ اليوم الأول وتعلمت كيفية العودة دون نقطة دم واحدة وكم من مرة عدت سالما، لكن هذه المدينة التفت طرقاتها أكثر مما يجب، ومع أنها لا تعرف الضباب تقريبا إلا أن الرؤية غائمة بفعل شيء وهكذا لا يمكن لأحد أن يفكر في العودة سواء للبيت أو للسرير، كل ما يجب أن يتمناه رصيف صغير وأناس يقدرون مصارع العشاق”.

عليّ إذن أن أخمن أي مدينة يتحدث عنها الشاعر، وأن ثمة فرقا بين العودة إلى البيت والعودة إلى السرير، ثم ما هي طبيعة هذه الرحلة التي يتحدث عنها في مستهل الرحلة وحتى آخرها، هل هي الحياة التي أصبحت تشبه حانة صغيرة، تتكرر دائما في أماكن وأزمنة متعددة، هل هي الأنثى التي تعبرها كل يوم آلاف القلوب المتبلة، إذن لا شيء محدد، وكل هذه الأسئلة والهواجس تثيرها القصيدة في الخلفية، في خلفية اللغة، ولا يستطيع الشاعر أن يخرج من ذاته ليفصح عنها بشكل واضح، لأن ما قد يعرفه قد يجهله في اللحظة نفسها.

وإذا ما وضعنا فكرة القبض على اللحظة الحاضرة الآنفة الذكر في مواجهة فكرة “الاحتمالية” التي ترشح بها قصيدة النثر، وتؤسس عليها شعريتها فإن الأمر يبدو شديد السخرية والتناقض، ومع انحسار المجاز بإيقاعه التقليدي، لم تعد اللغة في نظر الكثير من شعراء موجة النثر قيمة عليا مقدسة لها قواعد وأنساق وقوانين خاصة، بل أصبحت شيئا عاديا مبتذلا ورثًا، مما أفسح دورا للاحتمالية كوسيلة وأداة سهلة بل مسطحة لإشاعة الفوضى وزعزعة البديهيات والأساسيات، ليس فقط على مستوى الفكر الإنساني وإنما على مستوى السلوك الثقافي والاجتماعي، إذ من السهل أن أتشكك في الأشياء والقيم والأفكار، لكن من الصعب أن أثبت يقينيتها أو حقيقيتها.

ولذلك فإن الشاعر أصبح يقول الشيء ونقيضه معا، ولا يفترض اليقين والوثوق فيما يقول، بقدر ما يشكك فيه دائما، ويحتال على ذلك بصيغ لغوية مباشرة لا ظلال فيها ولا تدرجات، طامحا حتى إلى التحلل من أبسط قواعد اللغة والفكر والشعر نفسه، وفي هذه الرؤية لا تمثل اللغة له أية شهوة بل أحيانا يتعاطاها كمخدر لإطلاق طاقات اللاوعي المكبوتة، وحتى يستطيع الخروج من ذاته أو ينحرف إلى الخارج خطوة أبعد عنها، وكما يقول يماني:

“ليس شيئا صعبا

أن تحصل على جرعة كافية من البنج

لتطرح نفسك في برامج عامة

يسجلها الأصدقاء بدقة شديدة

كمادة خام للتندر

أو حتى لإسالة الدموع”

وهو ينهي القصيدة بتوكيد يشبه اليقين، لكنه لا يملكه، بل يدعيه، ولا غرو أن يستعيره أو يستوحيه من أي شيء، فالأنا دائما مشتتة بين هم القبض على اللحظة الحاضرة المزعوم، وهم الإفلات من قبضتها في الوقت نفسه، لذلك تظل القصيدة توهمنا بأشياء حدثت، وكأنها لم تحدث، أو هي سوف تحدث إن لم تكن قد حدثت بالفعل، أو كما يقول:

“شتمت حبيبتي السابقة

قبيل أن أفيق تماما

في الحقيقة لم أشتمها

لكنني تنبأت لها بحياة تعسة دوني

بخسارة فادحة

بل وأكدت على أن الدنيا جميعها ستخسر.

الحياة قرية صغيرة

ربما أزورها يوما

بأشعار قليلة

وسرير ضيق في إحدى بقاع العالم الأخير”.

يبقى أن نحيي أحمد يماني الذي يخطو خطوة أوسع نحو الشعر في هذه المجموعة الجديدة، ويحسب له أيضا أنه أحد شعراء قليلين في موجة قصيدة النثر الذين يحسنون التعامل مع اللغة ليس فقط كأداة للكتابة، وإنما كطاقة حية مشعة بالدلالات والأنساق الجمالية والمعرفية.

ــــــــــــــــــــــــ

جريدة الشرق الأوسط 1999

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم