بيتنا القديم.. نستولوجيا لزمن ماض أو تحذير مما هو آت؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. زينب العسال

  يعد المكان – فى أغلب الروايات الحديثة – أحد عناصر السرد الروائي، التي يوليها الكاتب/ السارد أهمية قصوى، فدوره لا يقل عن باقي العناصر السردية الأخرى، كالشخصية والزمن والحدث واللغة، فلا يمكن تصور قصة أو حكاية تقع أحداثها بدون مكان، الحدث يأخذ مشروعيته ومصداقيته ، بل ووجوده من المكان المحدد والزمان المعين( ابن منظور، لسان العرب، بيروت دار صادر د.ط، ص 113)

المكان- إذن- يمثل الحاضنة الاستيعابية داخل العملية الإبداعية، هو الإطار العام الذى تتحرك فيه الشخصيات وتتفاعل معه” ( نبهان حسون ، بنية تشكيل الخطاب ، قراءة في الرواية العربية، دار غيداء للنشر والتوزيع ، عمان ، ط2، 2015، ص 61)

ويربط غاستون باشلار المكان وعلاقته بالمبدع الكاتب، فالمكان الإبداعي هو المكان الذى عاشه الكاتب وخبره كتجربة حياتية، ومن ثم يتسرب المكان الذى يعيش في داخل الجهاز العصبى كمجموعة من ردود الأفعال المختزنة، والتي تظهر حينما نسترجعها، أو يظهر مثير قوى يستدعيها.

“بيتنا القديم” إحدى الروايات الصادرة حديثًا للكاتب رضا صالح  تنتمى إلى رواية المكان، حيث يتسيد المكان المغلق ممثلًا في البيت، فغالبية شخصيات الرواية يقطنون هذا البيت، منه ينطلقون إلى أماكن أخرى مغلقة كالقهوة، وقسم الشرطة، والمدرسة، المسجد، حيث تتفاعل العلاقات بين الشخصيات والأحداث، فتؤثر على طبيعة العلاقات التي تحكم وتتحكم في سكان البيت القديم، كما أن البيت يرتبط  بالمكان المفتوح، الساحة، الميدان، البحر، سكان البيت  ينطلقون إلى مدن إقليمية، أو أحياء شعبية في القاهرة، وقد يضطر بعضهم إلى السفر خارج الحدود، بحًثا عن فرص أفضل للعيش، فتتغير مشاعرهم تجاه البيت وسكانه، بل تجاه الوطن الأم.

  يبدأ  الخطاب الحكائى من نقطة قريبة من نهاية الرواية، ممثلة في العودة  النهائية “خالد أيوب عمران ” وفى فترة انتظاره وصول حقيبته الوحيدة، يتم استدعاء حكاية البيت القديم.

 البيت كمكان يرتبط – بالضرورة – بالزمن ممثلًا فى تاريخ أسرة ” خالد أيوب عمران”،  وعلاقة كل فرد من أفراد الأسرة بالبيت، إضافة إلى  تنازع  السكان الغرباء، ومحاولة الاستيلاء على هذا البيت القديم الذى تهدمت حوائطه، لكن ظل الكل يطمع فى امتلاكه، والاستيلاء عليه.   

 بذكاء شديد لا يجعل الكاتب التنازع على ملكية البيت بين الملاك الأصليين أو الورثة ، بل يشاركهم كل من أجر دكان أو شقة، وصل الأمر حد تدخل الحكومة فى أمر البيت بعد أن  استأجرت شقة استخدمتها استراحة لموظفي إحدى شركاتها، صارت الشقة إحدى أصول الشركة!

 البيت القديم يشهد تحولًا آخر فى العلاقات, بين الأخوة، فثمة من يطمع في الاستيلاء عليه، ومن يرى أن من حقه العيش في هذا البيت بعد وفاة الابنة، أما جيل الشباب فيرفض السكن في البيت، تغيرت القيم واهتزت المعايير، الأمر الذى يستدعى أن يسأل “خالد ” نفسه” ترى متى يكون التحرر من هؤلاء المحتلين الذين يدفعون ما لا يسمن ولا يغنى من جوع؟”

فى لقطات سريعة يروى السارد العليم قصة العائلة: الجد عمران الآتي من الصعيد بحثًا عن الرزق، عيناه تمسحان المكان، فيصف البيت قائلًا:” المنزل له شرفات وحجرات رحيبة، عالية الأسقف. كان فرحًا بوجود البواكي أسفل المنزل، ثم يربط هذا الوصف بالمنفعة العائدة على الإنسان، أى تفاعل المكان مع الشخصية” تسرى خلالها تيارات هوائية منعشة أيام الصيف لتطفئ لهيب الحر، وفى الشتاء تحمى المارة من الأمطار الغزيرة والرياح”

كوّن الجد أسرته بعد أن تزوج وأنجب أولى أولاده ” فتنة”  التى تدب خطواتها الأولى خارج البيت، حيث الشارع المرصوف بالبازلت، وتغوص قدماها الصغيرتان في رمال رمادية، عبر مشواره اليومي إلى المدرسة التأهيلية، سيظل السارد يحدثنا عن حياة عمران بعد وفاة زوجته الأولى أم فتنة، ثم زواجه من ابنة عم زوجته الأولى، فيرزق منها بزكى، ثم أيوب، ومحمود، وعايدة، يرحل محمود أصغر الأبناء، بعدما أدي دوره في امتلاك البيت من الأجنبي، يمزج السارد بين أحداث العائلة وأحداث تاريخية، حتى نصل إلى حكاية البيت القديم. فبرناسوس صاحب البيت القديم، يتفق مع محمود عامل البوابة على تسهيل خروج سيارة من بوابة الشركة محملة بأدوات السباكة مثل المواسير والحدايد والبويات والحنفيات، إن سر هذه الأشياء المهربة هو استكمال الخواجة بناء بيته في حي الغريب!

 ثمة فجوة سردية مسكوت عنها، على المتلقي أن يستكملها، وهي فترة ما قبل حرب 56،  نحن نفاجأ بأن ” برناسوس”  لم يهنأ بالبيت الذي بناه، فيقرر الرحيل إلي موطنه الأصلي، يقفز السرد على أحداث سياسية مهمة كحرب 1956، وما تعرضت له السويس من معاناة  نتيجة لهذه الحرب، وكيف غادر الأجانب المدينة، وتركوا أملاكهم، أو تنازلوا عنها للعمال المصريين. هل يعود البيت إلى أصحاب الأرض؟، ألم يشيّد في حي الغريب، وهو الحى العربي الذي يقطنه أهل السويس الأصليين، والنازحين من الدلتا والصعيد للعمل فى ميناء السويس. بالطبع البيت مكتنز بالمدلولات العديدة، التي يؤكد عليها رضا صالح فى ثنايا السرد.

يبدو أن الاقتصاد الشديد الذى اتبعه الكاتب في تناوله لأحداث الرواية، لم يتح للسرد مساحة متاحة، وكافية، خاصة أن ” البيت القديم ” رواية نهر / أو رواية أجيال. فإذا عرفنا أن الرواية بلغت 191 صفحة من المقطع المتوسط، فسندرك إلي أي مدي تم اختصار أحداث وحكايات، فضلًا عن أن عدد الشخصيات، وعلاقاتهم المتشابكة مع باقي السكان وأصحاب البيت، يشكل بنية سردية متعددة الرؤى، كاشفة لنا عما عاصره البيت القديم وسكانه من أحداث.

يمهد الكاتب لروايته بمقتبسات من القرآن الكريم: سورة الأنبياء ” وأيوب إذ نادى ربه إنى مسّنى الضر وأنت أرحم الراحمين” ثم مقتطع من الأدب الفرعوني ” شكوى الفلاح الفصيح : ” .. من عرف بلاء غيره، هان عليه بلاؤه!. هل الرواية شكوى، وزفرة من زفرات النفس تؤكد على مدى تغير القيم والعادات، وتخبط العلاقات بين البشر، الأخوة تحديدًا، بين القيم المادية، والثراء على حساب صلة الرحم، هل يستعيد المال ما أفسده الجشع، ونكران الجميل، والاستقواء بالسلطة، والتعالي على البسطاء؟

  انقسمت الشخصيات إلى  شخصيات مضغوطة تلتزم بالقيم الإيجابية التي يرى غيرها أنها صارت لاتتواءم مع روح العصر، ومن ثم تعانى الشخصية من الأزمات الاقتصادية، والوجودية وعانت من الاغتراب، وشخصيات أخرى تسير مع التيار تغيير القيم تبعًا لمصالحها، فصارت  شخصيات انتهازية، هل كان محمود من تلك الشخصيات؟ هل كان تواطؤه مع الخواجة سببًا فيما عاناه البيت القديم؟

 البيت هو همزة الوصل بين الداخل والخارج، ثمة شركة سياحة، والبمبوطية، وعالم الصيادين، والسفن الكبيرة التي ترسو في ميناء السويس.

قسمت الرواية إلى أربعة وأربعين قسمًا مرقمًا، بدون عناوين. أما حركة السرد فهى تسير – كما سبق القول – من نقطة تقترب من النهاية: حكاية البيت وسكانه وملاكه، منذ أن سكنه     الجد ووالده ثم ما آل إليه البيت بعد الأزمات الاقتصادية التي تعرض لها الوالد صابر، وتنازله عن جزء كبير من البيت لأخيه زكى، ويصبح هم الابن: كيف يعيد البيت للأسرة، بعد طمع أهل زوج ابن عمته عايدة، ومحاولتهم المستميتة للاستيلاء على الشقة، وادعاء ملكيتهم لها بعد الاستيلاء على أثاث العمة وابنتها، وسرقة مصوغاتها.

ارتبطت بور توفيق – كمكان مفتوح  – بتنزه الأسر، والمناخ المعتدل، وجمال الطبيعة، وإقامة الأفراح فى نادى الشاطئ، وتعبر المحكمة عن معاناة الشخصية، وقلة حيلتها، وفشلها في حل مشكلات العمارة. كما تعبر الغربة عن القلق والهواجس الكابسة على أنفاس خالد صابر أيوب، والتي جعلته حيًا على لحظات شجية من حياته فى البيت القديم.

يختصر السارد حياة واحدة من بنات العائلة بقوله: ” صيف وخريف وشتاء وربيع، هكذا إلى أن تراكمت السنون والدهون والأحزان، وثقلت “فتنة” وقلت حركتها” 

ويبئر الخطاب السردى على حياة رئيس قسم الشرطة، بداية من التعرف إلى زوجته العروس المتعالية على سكان البيت القديم، ومالكيه، وعلاقته بزوجته وأسرتها في القاهرة، وتتبع حياته العملية فى القسم، ورجوعه إلى السويس بعد أن أحيل إلى التقاعد، ( ونتذكر فيلم أحمد زكي وميرفت أمين” زوجة رجل مهم” ) إلا أنه يرفض ترك شقته في البيت القديم، وبدا الحل الوحيد لرجوع البيت إلى أصحابه هو اللجوء إلى القانون.

صار البيت عالمًا متسعًا تشعبت فيه الأهواء والأطماع، واتسعت الشروخ والتصدعات، فهل يجد من ينقذه؟

قدم رضا صالح ملامح لعالم يتشكل، يذكرنا برواية” أحزان مدينة” لمحمود دياب ، إلا أن رواية رضا صالح لم تغفل هذه التحولات الاجتماعية الناشئة من التغيرات السياسية التى شهدتها منطقة القناة، قبل الثورة، وبعد حرب السويس، وعصر الانفتاح.  

مقالات من نفس القسم