بسمة وضي

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

قصة .. الطاهر شرقاوي

 

لم تكن بسمة ـ في أوقات فراغها ـ تحب القعود مع أمها في الدكان، فبعد أن تنتهي من شغل البيت، كانت تفضل أن تقعد مع نفسها في حجرتها، حيث عتمة خفيفة تحيط بها، وأربع جدران زينتهم بالصور الملونة، لممثلات ومطربات، وأصوت تدفق المياه في مواسير الصرف، تأتيها على فترات متقطعة، من شباك المنور. لكنها كانت تضطر إلى أن تقعد في الدكان غصبا عنها، وهى تتذمر وتبرطم بكلام غير مفهوم، عندما تروح أمها في مشوار، لجلب بضاعة، أو إثناء أداء الواجبات الاجتماعية التي لا تنتهي، بدءا من عيادة المرضى، وزيارة المعارف، حتى تقديم واجب العزاء في موتى لا تعرفهم، وكانت تصيح في أمها، المشغولة في ضبط الطرحة على رأسها : بأنه لا احد يزورهم أصلا، وإنها لا تأخذ من مشاويرها هذه، سوى التعب وقلة القيمة. فلا ترد عليها، ثم توصيها ببعض الأشياء وتخرج .

تقعد بسمة على كرسي خشب، له رجل قصيرة، مستمتعة بتحريك جسدها في رتابة، إلى الأمام والخلف، بعد أن تشغل الكاسيت القديم المربوط بسلك، والمسنود فوق الثلاجة، ثم تبص على الشارع من فتحة الدكان، بعينين خاليتين من أي تعبير، مشغولة مع نفسها بممارسة لعبة مسلية، حيث تصف الذين يمرون من قدامها مصادفة، كانت تقول عن سمكري السيارات، انه ابن كلب، وعينه زائغة على الحريم. أما بطة فهي نمامة، وان السر يظل يقطع في مصارين بطنها، ولا ترتاح حتى تطلعه. وضى النهار غلبانة وطيبة. والشيخ سبولة يكفينا شره، هو في حاله ونحن في حالنا. وأم عمار مناخيرها متعلقة بالسماء. وان سعيد أهبل وسيدخل الجنة بدون حساب، بينما هند عينها جريئة، وفارغة، ولسانها عقرب.

مع مرور الأيام، نمت صداقة بين بسمة وضي النهار، ورغم الفروق الجسدية بينهما والذهنية أيضا، إلا أن هذه الصداقة ازدادت بينهما عمقا، فبينما كانت بسمة نحيفة، وطويلة، وذات وجه اسمر ذو انف غليظ، ورثته عن أبيها الصعيدي، الذي لم تره أبدا، كانت ضى النهار ممتلئة، وبيضاء، ذات وجه مدور، وعينين عسليتين، وشعر اسود كثيف، يصل عندما تفرده حتى آخر ظهرها، كانت قد ورثت كل ذلك عن أمها، ولم تأخذ شيئا من أبيها، سوى قصره الواضح. كانتا تقعدان اوقاتا طويلة مع بعضهما، وهما تتكلمان في كل شيء، وتتبادلان الحكايات والأسرار، ثم تختتمان القعدة بمحاولات حثيثة قي فك طلاسم أحلام بسمة، تلك الأحلام التي أصبحت تزورها بشكل متكرر.

في البداية كانت ضى النهار، تضطر لاستخدام حمام بيتهم، ثم بدأت تقعد مع بسمة فترات طويلة، عندما يكون الشغل قليلا في الورشة، وكانت عيني بسمة خلال ذلك، تروح كثيرا على صدرها الممتلئ، الذي يهتز كلما ضحكت، أو تكلمت، وأحيانا كان يتحرك حتى وهى قاعدة في صمت، ضايقها هذا في البداية، متسائلة مع نفسها: ألا يتوقف قليلا عن الاهتزاز؟. لكنها تعودت بعد ذلك على رؤيته يتحرك، دون أن يثير لديها مشاعر الضيق. وعندما شافته يوما، وكانت ضى النهار تغير هدوم الشغل، لم تقدر على رفع عينيها من عليه، كان جميلا، في لون ابيض، تتوسطه حلمة سمراء في حجم حبة الفول، محاطة بحلقة كبيرة وردية اللون، جعلته شهيا، لدرجه دفعتها لإغماض عينيها، وهي تبلع ريقها الذي جرى في فمها، مقاومة رغبة ملحة سيطرت عليها في تلك اللحظة، في الاقتراب منه، والقبض عليه بيديها، ثم غرس أسنانها في لحمه الطري، استعدادا لأكله.

 كان أولاد الحلال يأتون لبسمة في النوم، كانوا كثيرين ووسيمين، نجوم سينما ومطربين، وآخرين لا تعرفهم، تبدو عليهم السعادة، وهم يتكلمون معها ويضحكون، لم تكن لهم مواعيد محددة، كانوا يأتون في أيام متفرقات، حاولت بسمة أن تحدد الأيام التي يأتون فيها، أو حتى تخمنها، لكنها فشلت، وظلوا هم من ناحيتهم، مصرين على إخفاء اليوم الذي يختارونه لزيارتها، باعتباره مفاجأة لا يجوز البوح بها. كانت بسمة ترى نفسها في أحيان كثيرة، تلبس فستانا ابيض، وحولها لمة، وبنات صغيرات لا يكففن عن الحركة والصياح، والجري وراء بعضهن، وموسيقى صادحة لا تعرف تحديدا من أين تنبعث، وان كانت تبعث في الموجودين إحساسا بالبهجة، فيواصلون في مرح ممارسة صخبهم وضحكهم. ثم تصحو وهى تحس بالضيق، وتظل حتى الصباح، تتقلب في فراشها دون نوم، ولما تحكى ما رأته ـ في هذا الحلم تحديدا ـ لضى النهار، كانت تغلق الباب عليهما، وتقوله بصوت هامس، متقطع، وكأنها تذيع سرا خطيرا، قبل أن ترتمي على صدرها الممتلئ، ويد ضى النهار تتحرك على ظهرها ببطء، وإحساس يتولد بداخلها في تلك اللحظة، أن التي تنهنه في حضنها، راقدة في استسلام، ما هى إلا ابنتها، فتشعر نحوها بحب، يدعوها إلى أن تقبل جبهتها، وتحضنها أكثر، ثم تمسد شعرها بلطف. في نفس الوقت، تكون بسمة قد أغمضت عينيها، وهى تشم رائحة الثديين الطريين، تلك الرائحة التي عشقتها، شاعرة برغبة قوية في النوم، وظلام خفيف يجرفها نحو أعماقه، وأشباح بنات صغيرات، ورجال وسيمين، تتزايد من حولها، حتى تكتظ بهم الحجرة.

 

ــــــــــــ

روائي من مصر

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون