بحرٌ عَصيٌّ ، تَحرسُهُ غَيْماتٌ ماكرة .. أناشيد الغيمة المارقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 97
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ترتبط تجارب المجموعة الأخيرة من شعراء قصيدة النثر المصرية بسماتٍ عدة ، إجرائية أو جمالية ، فتتميز مثلاً هذه المشاريع الإبداعية بالأفق المفتوح الذي يرابط أمام نوافذها ولا يتوقف أبداً عن رفدها بالحياة والتنوع الخلاق وكذا بعدم الخضوع لصرامة التصنيف الذي وَسَمَ الموجات الثلاث الكبيرة وأعني بهم جيل السبعينات وجيل الثمانينات وجيل التسعينات (سنضطر كما اضطر غيرنا أن نغض الطرف عن زيف وعدم دقة المفهوم الجيلي العَشْري وجاهزيته كلما كنا بإزاء محاولة للنظر أو إعادة النظر في تجارب شعراء قصيدة النثر المصرية) حيث ترتبط التجارب الأخيرة في فترة ما بعد هذه الموجات المتميزة ، بالسيولة من حيث إمكان انضمام أسماء وتجارب جديدة كل يومٍ وكل ساعة، و بتفلُّت انتماءاتهم الفنية من التأطير والقولبة في جماعات شعرية أو تحت أي علامة رمزية تكون مؤشراً على تَوَجُّهٍ فني بعينه، وبعدم الحماس إزاء فكرة التراتبية المرتبطة بالمناطق الشعرية المطروقة قبلاً حيث يُلَمِّح ويُصرِّح العديد والعديد من أصحاب هذه التجارب – في تحقيقات أدبية أو حوارات أو شهادات الخ – بعدم الاعتداد بفكرتَيْ البناء على المنجز الشعري السابق وكذا مسألة النَسَب الفني لهذه التجارب وهل تعد امتداداً ورافداً لهذه الشعرية أو لتلك من عدمه.. حتى أنَّ تَوَهُج معنى ومبنى ارتباط اسم الشاعر بمشروع خاص ومتميز في الشعرية المصرية أو العربية قد لا يصمد كثيراً كغاية أو مبتغى متوهج أو طموح طبيعي ومشروع وسط إدراكهم الحاد لتسارع وتيرة الحياة وصعوبتها وتقلب الأمزجة الملعون.. إنهم أبناءٌ فقط لواقعهم الملموس وتجاربهم الخاصة ولا يدينون إلا لاتساع مفهوم ونطاق وآفاق الشعرية التي تتيحها قصيدة النثر ولا ينتمون بالضرورة لفكرة أن يطور اللاحق السابق بالمغايرة والاختلاف. إن كلاً منهم يطور مسارات شعريته دون أدنى اعتبار لأي تشابه وتقاطع أو حتى تنافر، مع المنجز السابق وبهذا فهم لا يقصدون إلا رحلة جلودهم وأرواحهم وأبصارهم إلى  ” إيثاكا ” المراوغة التي تتحول وتتحور كل يومٍ باختلاف ملامح الأشعار وأرواحها ، هذه الرحلة التي لا تكترث كثيراً لاقتراب طرقها وشوارعها من الألفة مع أرواح تجارب وشعريات متحققة أو حتى ابتعادها سنواتٍ ضوئية عن صور وأصوات وروائح الآخرين.. لم تهاجم الأجيال الأحدث إذن الأجيال الأسبق كما فعل أفراد كل موجة سابقة ولم يدعي الشعراء كذلك امتلاك تصورات و توجهات فنية خاصة قاطعة تطمح لوسم مشاريع واتجاهات بعينها قد تخص مجموعات وأفراداً، بالتمايز والاختلاف والانطلاق من بحار جديدة.. إنهم شعراء لهم تجاربهم الشخصية وكفى وبهاء الأمر في الحقيقة – يكمن في الانفلات وفي تحليق كل شاعر وحيداً لكن بعيون يقظة على الدوام لكل ما يتحقق بالجوار.. لكن هذه الأجواء الفردية لا تعني بالضرورة أن بعضهم قد يعتبر أن تجربته رمية نرد في هواء بلا جذور بل يؤكد غالبيتهم دائماً على عدم دقة جملة ومعنى (الشعريات السابقة) حيث لا تقاس الأمور الفنية بالحسابات غير الشعرية وإنما بمقدار امتلاك النص أياً كانت فترته الزمنية أو حتى جغرافيته ، للأصالة والقدرة على اجتراح الأسئلة الإنسانية الخالدة وكذا بنيته الخاصة وتشكيلاته المتميزة وفرادة اقتراحه الشعري الخ و بهذا فهم يحرصون على التعاطي مع جميع التجارب، المستمرة في مساراتها أو تلك التي تخرج على منجزها كل مرحلةٍ و تثور… إن ما أقصده هنا أو أحاول رصده والإشارة إليه، هو أن العديد من أصحاب التجارب الجديدة قد لا يحملون (جميلاً شعرياً) لأي شعريةٍ ما حتى ولو تبلورت ملامحها وتم تقديرها واعتمادها وحتى لو حملت النصوص بطبيعة الأمور- تأثيرات السابقين ، بشكل يدعوهم لإعلان الانتماء إلى هذه الشعرية أو تلك أو حتى نقضها ، لأنهم يوقنون بأن مثل هذه المفاهيم الأقرب لرومانسية واستحواذ البطريركية وتعاليها على الزمان والواقع- والتي قد تنتمي للثقافة أكتر من انتماءها للفن- كان لها مشروعية في فترة ما قبل الثورة الاتصالاتية وليس الآن بالتأكيد. وتجدر الإشارة في الحقيقة – باعتبار أن الأمر مبكر بالنسبة لفكرة الرصد الأمين أو الكاشف والقاطع – لكون هذه المقولات لا تعد موقفاً راديكالياً أو مبدئياً مفترضاً وإنما يمكن رد بعضها للحماس الوقتي والفوران الإبداعي ثم للمرحلة السائلة التي نحيا في دواماتها وهكذا يمكن بهدوءٍ وأريحية توجيه البصر والبصيرة للشعر فقط ومن ثَمَّ الاستمتاع بوصول الكثير من التجارب الجديدة للتمايز الفعلي وإعلان القطيعة الفنية مع المجاني والمتاح والإمساك بملامح واضحة تخص المبدع ورؤاه وتنجح في اقتراح شعرية جديدة واكتشاف أراضٍ بكر ، طازجة وغير مستهلكة.. عند هذه النقطة يصح لنا أن نبتعد عن التعميم الذي اضطررنا إليه بغية الوصول لنتائج تخص مجموعات فنية بعينها- ونعود للفكرة المنطقية الأولية والصحيحة والدقيقة في نظرنا – التي تعتبر الشعر مشروعاً فردياً بالضرورة وتظهر ملامحه وسماته بجلاء عند تمايز مشروع الشاعر عن تجارب جيله وليس بالتشابه والتماهي معهم وفيهم… إن تجارب هؤلاء الشعراء تدعو حقاً للفرح نتيجةً للتنوع في الموضوعات وفي الأداءات الشعرية ونظراً للجسارة الفنية التي يمكن اعتبارها أساساً عند كافة المبدعين حيث تعد الحرية سمة لا حياد ولا تنازل عنها وباعثاً رئيساً لتحفيز الخيال واصطياد الشعر من كهوفه وغاباته القريبة والبعيدة ليظهر للوجود ذلك البناء الباذخ والمدهش على الدوام الذي يُسمى الشعر..لا يضع الشعراء مطلقاً ثمة اعتبار للقيم السابقة على التجربة ، كالقوانين الاجتماعية أو الدينية أو الأخلاقية ، فالجميع يتبنى و يدرك أن الشعر لا يتنفس إلا والنوافذ كلها مفتوحة وبالتالي لا يخضع الشعر إلا لقوانين الشعر ذاته لهذا تتميز أصوات كثيرة في هذه المختارات بالانطلاق والبساطة العميقة التي تَعْبُر كل المناطق الشائكة بعفوية وبغير صدمة ولا اندهاش بينما تفتح العديد من التجارب الأقواس على آخرها وتجرب بكل جرأة في شتى المناطق الرؤيوية والفنية ويحمل الجميع صليبه فوق ظهره ولكن بعيون مفتوحة على اتساعها.. ونظرا لانفتاح وسيولة هذه الموجة الشعرية وعدم انضوائها في بوتقة واحدة ،انضغَمَت مع هذه التجارب مشاريع تخص أسماء ليست جديدة بالكلية وشعريات مختلفة التوجهات غاب أكثرها عن تصنيفات الدرس النقدي والتجميع الثقافي الخاص بالأجيال الأسبق، نظراً للغياب الجسدي لبعضهم بالسفر أو عزوف البعض الآخر عن المشاركة في المشهد نتيجةً للإحباط الشخصي أو ربما نتيجة لعدم تسليط الضوء على تجاربهم المتحققة بالفعل ووقوعهم تحت مطرقة التجاهل المتعمد الحاصل كأثر لتفشي الداء المصري والعربي الخالد وهو الشللية والشخصنة وبرغم إدراج بعضهم في الأنطولوجيات المخصصة لرصد الشعرية الجديدة إلا أن حضورهم في المشهد كان منقوصاً.. مثل أولئك المرتبطين إبداعياً، قُرباً وبُعْداً واتفاقاً- ونقضاً؟- مع شعراء مرحلة الثمانينات : سامي سعد ومحمد حربي وإبراهيم المصري وحسونة فتحي ووليد الخشَّاب وماهر نصر وإبراهيم عبد الفتاح وعيد صالح..  أو هؤلاء الذين يدورون مع دوائر التسعينات وحلقاتها وسِمات نَصَّها ومنجزها رغم الأعمار المتفاوتة والتجارب الخاصة والمتمايزة : إبراهيم البجلاتي وخالد أبو بكر وعبد الله راغب وأسامة بدر ومحمد سالم وأشرف الجمَّال وعطية معبد وعمرو الشيخ وكمال أبو النور وإبراهيم محمد إبراهيم وخالد السنديوني ونصر الكاشف وعادل العدوي وهشام محمود وعلية عبد السلام ومنال محمد علي وفردوس عبد الرحمن وإبراهيم جمال الدين التوني ووليد علاء الدين وأحمد المريخي ومهاب نصر وسامح قاسم وسالم الشبانة وأسامة الحداد وعادل سميح ووسام الدويك ومحمد الكفراوي وإبراهيم موسى النحاس ومحمود شرف ويوسف وهيب وعلي عبد الحميد بدر ووليد ثابت وفاطمة منصور ومحمد عبد الحميد توفيق وصبري رضوان ونادي حافظ ومحمود عبدالله ومرفت العزوني وعبد الوهاب الشيخ وسوزان عبد العال وعزة رياض وعفت بركات وصلاح فاروق وأمل جمال وطارق فراج وأحمد الجعفري وأحمد دياب.. وهم الذين ساهمت مواقع التواصل في تحفيزهم وانطلاق مشاريعهم أو لفت الأنظار إليها وتوصيلها للقدر الأكبر من المتلقين و إعادة اكتشافها مرة أخرى ، وهي نفس المواقع التي ساهمت في تشكيل سمات ومنطلقات وعي الجيل الأصغر وقننت استفادته من فكرة موت الرقابة التي ترسخها فلسفة هذه المواقع ، ليُقْدِم على مساءلة التواريخ الشخصية وهتك ملامحها بأريحية مرتبطة بفكرة البوح مع صديق افتراضي غير محدد الملامح وإن كان مُعَيَّناً في (الزمان والمكان): تلك الأبعاد التي أُعيد تفكيكها وصياغتها هي الأخرى وفق وعيٍ جديد …انضمت إذن تجارب الشعراء الأصغر سناً مع التجارب التي أشرنا إليها– من الواجب ألا تفوت الإشارة لحقيقة أنَّ من أكثر الشعراء تحديثاً لتجاربهم ومساهمةً مع شعراء الموجة الأحدث هم شعراء جيل السبعينات الثلاثة :أمجد ريان ومحمد فريد أبو سعدة وجمال القصاص- ليتكون المشهد الأحدث في شعرية قصيدة النثر المصرية من كل هذه الشعريات المتجاورة والمتفاعلة بعيداً تماماً عن ضيق فكرة الجيل وعقمها ..إن هذه القصائد لا تأمل إلا في أن تكون مؤشراً على التنوع الفني الحقيقي والمدهش وعلى الامتداد العظيم لخيوط الشعر الذهبية في الاتجاهات كافة.. ويجدر التأكيد مرةً أخرى على أنها لم تضم إليها نصوصاً لكل من تم تصنيفه وتقديمه وتسكينه وإخضاعه للدرس النقدي وفقاً للتقسيم الجيلي المصري الشهير وذلك بالرغم من أن المشهد المصري في قصيدة النثر يضم كل هذه الموجات والتيارات معاً في ساحة مَوَّارة وثرية ولاهثة ، وأن مساهمة الجميع ممن ذُكِرَ هنا أو لم يُذكر ، بَرَّاقة وفاعلة ومتوهجة ومستمرة ، ولكن يظل هدف توجيه الأبصار والبصائر لأسماء ومشاريع طازجة سواء أكانت جديدة على الساحة الشعرية أو حتى انطلقت مشاريعها من جديد- وهو الأمر الذي يظل فاتناً على الدوام حتى وإن كان بعضها لم يصل بعد لنغمته الخاصة أو كان لا يتوافق مثلاً مع ذائقتي الشخصية-هو الأكثر أَلَقاً وتماهياً مع طموح تقليب التربة الإبداعية المفترض والواجب ،ومساءلة القيم الفنية التي استقرت كيقينيات، كما أنه يقدم في النهاية دليلاً واضحاً وصريحاً على ديمومة تجدد الروح في هذا الجسد الفَتِيِّ الماكر المسمى بقصيدة النثر المصرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ                                        

* الكتاب صادر عن مطبوعات مجلة “نصوص من خارج اللغة” – شبكة أطياف الثقافية للدراسات والترجمة- الرباط ، المغرب 2019

مقالات من نفس القسم