بحثاً عن شوبنهاور

نوافذ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

البشير الأزمي

حدث ما خفتُ حدوثَه..

” لا تحدثني ثانية في هذه الحماقات التي تسميها فناً.. “.

كلامُ أبي وقع في أذنَيَّ كقنبلة انفجرت أمامي وأحدثت صمماً بهما. الأرض تَتَرَنَّحُ وتَميدُ بي وخطواتي مضطربة.. نَفَسِي متقطع ومختنق، وشرخي يتضاعف عندما تنهض في مخيلتي صورة أبي وقد أصابته نوبة غضب، وحار كيف يخفي غضبه.. لفحتني نظرته، أحسست بلظى نارها، مَرَّرْتُ يدي على خديَّ فوجدتهما حارقين. غمرني إحباط.. تكسَّرَت في أعماقي أشياء..دخلتُ إلى حجرتي، خلوتُ إلى نفسي وأجهشتُ بالبكاء..

قالت أمي، وهي تؤنبني: “ما كان عليك أن تكلم أباك بتلك الطريقة.. تعرف أنه يعاني من أزمة صحية. كُفَّ عن عنادك..”..

عبثاً حاولت أن أقنع أبي أن الفنونَ التشكيلية مادةٌ كباقي المواد الدراسية، وأن متابعةَ الدراسة بشعبتها كمتابعتها بباقي الشعب الأخرى، ووظيفةَ الفن، في أشكاله المتعددة، سيكولوجية واجتماعية، وبها يتعلم الانسان أُولى أسباب حياته ويتعرف على ذاته. ليست المرة الأولى التي يصرخ في وجهي أن ما أسميه فناً هو مخالفة لأوامر الله وقوانين السماء. وأن من أسميهم فنانين إنما هم أناسٌ يريدون أن يضاهوا الله في خلقه، وهذا شرك.  كَسَّرَ مرةً تماثيلَ صغيرة كنتُ اقتنيتها من معرض فنان نحات، معللاً أنها أصنامٌ مصغرة. حاولت إقناعه أن الفنون لا تتعارض مع الدين والأخلاق، بل هي التزام بقيم الحق والخير وتقود إلى التسامح والحب..

لم ولن يُنْصِتَ لي أبي وأنا أحدثه عن الفن والحق والخير والتسامح والحب. كلمةُ الحب يَمْقُتُها، ما سمعتُ يوماً أحداً ينطق بها في البيت، كانت بالنسبة إليه تعادل اللاأخلاق. الحب بيعٌ للجسد، هذا ما رسخ في ذهنه. والأُسَرُ المتخلقة لا تسمح لهذه الكلمة أن تتداول في البيت.

لن يسمح لي أبي أن أحدثه عن المادة والشكل والتعبير، وإن فعلتُ سيرميني بالجنون، وسيقترح على أمي، كما فعل مرَّاتٍ عديدة، أن يضعني في مستشفى الأمراض العقلية، وسَيُلِحُّ على ذلك، لأنه إن تساهلتْ في ذلك سيضيع مستقبلي، وسأضيع.

نعم سأضيع..

سأضيع إن أنا لم أحقق رغبتي وهدفي، وسأخذل ابنَ سينا إن لم أفعل. وسيبدأ صدى كلمات ابنِ سينا كطنين في أذني تردد إن المعرفة قيمة من قيم الفن، وإن المحاكاة والتخيل ليسا مجرد نسخ للطبيعة، بل إنهما جزءان من عملٍ فني إبداعي..

فنٌ وإبداعٌ..

كيف يمكنني إقناع أبي بالفن والإبداع.  كيف يمكنني إقناع أبي أن شوبنهاور يرى الفن نوعاً من السمو إلى الكلي؟ وأن الفن بالنسبة لكانط نتاج عقلي تحكم الطبيعة الإنسانية. كانط، ابن سينا  وشوبنهاور و.. و.. وهل يعرف أبي كانط وابن سينا  وشوبنهاور.. سيقول، لا محالة، كانط وشوبنهاور هذان كافران ولن يذكر ابن سينا لأنه مسلم بل لأنه لا يعرف من يكون، سأردُّ عليه، طبعاً، في سريرتي، ليس الكافر من يحتقر آلهة الجماهير إنما الكافر من يتبنى تصور الجمهور عن الآلهة، كما قال أبيقور. لا لن أقول له ذلك. كيف أضيف “أبيقور”   إلى كانط وشوبنهاور وهو لا يعرف أيّاً منهم.. سينعتني بالجنون، سيتأكد بالملموس أني، حقاً، جننتُ. ستعلو نظرةُ الشك والريبة محياه، فهو يعتبر الفن شيئاً فائضاً، زائداً، ومضيعةً للوقت ولا جدوى منه، وفي المساء سيجلس أمام التلفاز، وسيضع أمامه إبريق شاي وعلبة سجائر، سيحتسي أكواب الشاي ويستمتع بوصلات غناء ورقص وكلام بذيء يدغدغ العواطف الرخيصة.

قررتُ أن أجمع أغراضي وأحلامي وأرحل، سرتُ في طريق نَحَتَتْهُ أقدامُ أناسٍ توحدوا جميعهم في عشق الفن. أخبرتْ أمِّي أبي بقراري. كان رَدُّ أبي سريعاً وصارماً:

  • ابنك يزرع أوهاماً.. إن تركنا وغادر سنتركه لحاله..

 صمت للحظة”، ثم قال :” العين بالعين”.

  • لا.. لا نريد أن نصبح جميعنا عمياناً..

ردت أمي والدموع تتلألأ في عينيها..

عشقي للفن مُضَرَّجٌ بفيض من الجنون.. ليقل عني مجنوناً، وليفقأ عيني إن أراد..

في طريقي بحثاً عن شوبنهاور، وقفتُ عند البحيرة أتأمَّلُ ذاتي، ألقيتُ بحجر في بحيرة أحزاني، أحدثتْ دوائر توالدت وكبرت وانكسرت عند الشط..

ذابت الشمس في الأفق، وعَمَّتِ السكينة المكان.. طَوَّقتني الأحلام والأماني..

تابعتُ سيري بحثاً عن شوبنهاور..

…………………………..

* قصة من المجموعة القصصية” نوافذ”، الصادرة أخيراً بالمغرب

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون