“باب رزق”.. رواية عن تحايل فقراء المصريين على العيش

باب رزق
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

سعيد نصر

تحكى رواية عمار علي حسن “باب رزق” عن شاب ريفى فقير من الصعيد، يدعى رفعت عبد الكريم  لديه طموح فى أن يصبح فيلسوفا ومفكرا كبيرا، ينتقل للعيش فى القاهرة لاستكمال دراستة بقسم الفلسفة بكلية الأداب جامعة القاهرة، ويسوقه القدر للسكن فى منزل أرزقية وسريحة، يتعرف منهم ومن والدهم “عبد الشكور” على فلسفة واقعية أخرى، والذي وجد مصطلحا يعبر عنها فى منهج الفلسفة بكلية الأداب، وهو “فلسفة التحايل لجلب الرزق”، ويقع فى حب سميرة ابنة عبد الشكور، ويتنافس معه عليها بلطجى يدعى “سعد سلطة”.

 ويضطر رفعت للعمل بذات الفلسفة لجلب رزق يعينه على استكمال دراسته وتأمينه من شبح الفشل، ويبهت حبه لسميرة بعد تنازلها له عما ترفضه التقاليد  بالنسبة للأنثى، وتقبله بالنسبة للرجل، فضلا عن تعرفه على زميلة له فى الكلية تدعى اسماء وأبوها رجل أعمال، تحاول مساعدته بتوفير فرصة عمل فى إحدى شركات والدها، وتنتهى رحلة حياة رفعت بالزواج من سميرة بخدعة من أبيها وأخوتها، بعد أن أسكروه بمخدر الحشيس وأوهموه بأنه دخل معها فى المحظور، فتزوجها على الرغم من سماعة لنسوة يتهامسن عن اغتصاب غريمه “سعد سلطة” لها ليلة مقتله، على أيدى صلاح انتقاما منه لأنه دنس شرف زوجته،  وهو ما يوحى بأن حياة بطل الرواية انتهت بالضياع، وهذا أجمل ما فيها، خاصة أنها حققت الهدف المتمثل فى إحداث صدمة للمتلقى أشبه بالزلزال الإنسانى، وتتناول الرواية ظواهر وقضايا فى منتهى الأهمية، منها الفوضى والعشوائية فى المناطق المفرطة فى الشعبية، و علاقة الأجهزة الأمنية بالبلطجية، ونظرة المجتمع الخاطئة للفلسفة وللدراسة النظرية بوجه عام، والتقسيم الخاطىء للكليات بين كليات قمة وكليات قاع، وتغوص الرواية فى قيم عديدة كالحب والجمال والإيمان والرضا، وتظهر بوضوح دور الموروث الصوفى فى تثبيت بعض تلك القيم فى القلوب، وتشير إلى أن العلم والصوفية جناحان لاغنى للإنسان عن أحدهما لمواصلة الحياة بسعادة وراحة بال.

تشعر من قراءة “باب رزق” أن كل شخصيات الرواية قد مستها الفلسفة بفضل مدرسة الحياة التى تعلم الناس ما لا يمكن أن يتعلموه فى المدارس والجامعات، وهم يبدون كذلك،على الرغم من حياة البؤس التى يعيشونها فى منطقة تل العقارب بالسيدة زينب، فبعيدا عن رفعت الفيلسوف بطبعه ودراسته، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كشفت سميرة عن مكنون جانبها الفلسفى بقولها لرفعت عند حديثها عن علاقة الورد بالحب ” حين تمد يدك للعشاق بالورد والفل طالبًا صدقة، فأنت تتسول بالجمال، جمال الورد، وجمال الحب، مثلما كان أبى يفعل بصوته الحلو، ومديحه الربَّانى”، وكشف  حسونة عن  جانب من فلسفته عندما قال لرفعت مبررا حصوله على الأعطية من الأثرياء والمشاهير فى سرادقات العزاء ” محتال يتسول من الكبار”، وبدا عبد الشكور فيلسوفا عندما قال لرفعت واصفا حالة الوهم التى يعيشها ابن أخيه عاطف ”  ليس طَمُوحًا من ينتظر الصدفة”، وبدا أبوعوف كذلك فى تبريره لرفعت لطريقته فى تحصيل رزقه من جيوب الكبار والأثرياء “البكاء على رأس الميت”. 

وأجمل ما فى “باب رزق”، بحسب قراءتى لها، هو الثنائيات الأربعة التى تميز شخصيات الرواية، وهى ثنائيات تضفى على أحداثها طابع التشويق والإثارة  فى أبهى صوره، وتمثل فى الوقت نفسه طابعا عاما للشخصية المصرية، الطامحة رغم الفقر والصابرة على البلاء والراضية بنصيبها من الحياة والميالة بطبعا للحب والغناء، وربما وجود هذه الثنائيات جاء بالصدفة، وربما جاء برؤية متعمدة من الكاتب، وهى ثنائيات تكشف أن كل شخصين فى الرواية متشابهان وربما متماثلان فى شيئين أو تيمتين بشكل أكبر عن باقى شخصيات الرواية، ويعكس هذا التشابه جانبا كبيرا من فلسفتهم الكلية للحياة، وتتمثل هذه الثنائيات الخمس فى” ثنائية الفقر والطموح”، و ثنايئة “الفهلوة والفلسفة”، و”ثنائية الحب والجمال”، و”ثنائية الإيمان والرضا.”

وتظهر” ثنائية الفقر والطموح”  فى كل شخصيات رواية “باب رزق” فكلهم يطمحون فى العيش الكريم، لدرجة أن عبد الشكور وعلى الرغم من فقره ومرضه، إلا انه يطمح فى بناء عمارة من ستة أدوار على شقتين، ولكن تتضح هذه الثنائية بشكل أكبر وأعمق فى رفعت عبد الكريم وعاطف ابن أخ عبدالشكور، فرفعت يدرس الفلسفة بأداب القاهرة ويطمح بأن يكون كاتبا ومفكرا  كبيرا ويحلم بتغيير العالم، على الرغم من أنه يعانى من الفقر المدقع، وملابسه مهترئة، وعاجز عن شراء بنطال جديد بدلا من بنطاله الجينز الأزرق المتسخ، ووالده لايملك إلا بضعة قراريط قليلة فى سوهاج،لاتغنى ولاتسمن من جوع، وقد قال رفعت واصفا حالته “كنت آكل نفسى، وأسقط جثة هامدة، لأن الطعام الذى التقطته على مدار اليوم لا يساعد بدنى على إشباع لهفته المتجددة”،وذلك فى إشارة منه إلى لذة جسدية كانت تشبع حرمانه العاطفى،وكان يتحصل عليها بالتنصت يوميا على رجل وزجته وهما فى حالة هياج جنسى،وذلك قبل شعوره بلذة الروح عقب رؤيتة لسميرة ابنة عبدالشكور، وقد ظهرت عبقرية الكاتب فى تبيان علاقة الفقر بالرؤى والأفكار عندما وصف رفعت سميرة التى وقع فى حبها بـ “طبق التفاح، نائم تحت قبعة من الخوص “، فهو وصف يعكس حرمان فقراء الريف فى أسوأ صوره.

أما عاطف ابن أخ عبد الشكور فهو شاب فقير ويتيم فى نفس الوقت، ولكنه فخور فى قرار نفسه، بأن والده شهيد فى  نكسة 5 يونية 1967، وعلى الرغم من فقره الشديد وواقعه البائس فى “تل العقارب”،إلا أنه لديه طموح جامح وحلم كبير بأن يكون فنان شهير، وهو ما يراه عمه عبد الشكور أوهام مدمرة له ولمستقبله، ويتعامل مع ابن أخيه بطريقة خشنة لتخليصه منها، ولتغيير دفة حياته لتكون على شاكلة أبنائه الذين يحصلون على القرش من الهوى وبفلسفة التحايل المبنية على أن “الكلمة الحلوة مفتاح القلوب”، وقد تأثر عاطف بمدرسة عمه وفلسفته، وقد كشف فى حديثه مع رفعت عن سعد سلطة  زعيم بلطجية تل العقارب عن جانب مما تعلمه من فلسفة عمه، وذلك بنصيحته لرفعت بأن يذيع على مسامع الجميع بأنه من عائلة لها عزوة فى الصعيد لاتقاء شر سعد، قائلا له” جامعة الحياة علمتنا أن الصيت ولا الغنى”.

 “ثنائية الفهلوة والفلسفة” صفة مشتركة بين أولاد عبد الشكور، فكلهم يتبعون فلسفة التحايل،وقد تعجب منها كثيرا رفعت عبد الكريم بطل الرواية،وهى وسيلتهم فى جلب الرزق، وقد تعلموها جميعا من مدرسة الحياة، ولكن هذه الثنائية تظهر بوضوح فى شخصيتى أبوعوف وحسونة ابنى عبدالشكور، فأبوعوف الابن الأكبر لعبد الشكور ورث عن أبيه جانبا من الفهلوة مصحوبا بطابع من الفلسفة، تعلمها من مدرسة الحياة، فحلاوة اللسان عنده هى مفتاح باب الرزق، وهى مفتاحه لأبواب كثيرة مقفولة بترابيس من حديد،، ولذا يحرص على مخاطبة الناس بما يروق لهم، حسب الحالة والصفة، وينزلهم منازلهم بألقابهم ورتبهم. وفلسفته فى ضمان الحصول على الأعطية  هى أنه يأخذها “قلبل وليس وبعد”، وهى الفلسفة التى يعبر عنها بعبارة”البكاء على رأس الميت”، وهى الفسفة التى استقاها والده عبد الشكور من مدرسة الحياة وأورثها له. 

أما حسونة الابن الثانى لعبد الشكور فهو “فهلوى” من طراز فريد،فحلاوة اللسان مفتاح باب رزقه، وطريقته فى تحصيل رزقه كلها قائمة على “فلسفة الفهلوة”،وهى فلسفة تعلمها من مدرسة الحياة، ويستشف ذلك من قوله عن نفسه “أخرجنى أبى من المدرسة فكتب عليَّ أن أذاكر الصور”، فهو يدرس كبار الشخصيات ومشاهير المجتمع ويجمع معلومات عنهم تساعده فى تقريب المسافات بينه وبينهم، ويستغل لسانه الحلو فى تليين قلوبهم تجاهه، وذلك أثناء حضورهم سرادقات العزاء فى مسجد عمر مكرم، ويستخدم مجموعة تلاوين من العبارات والإشارات والإيماءات، تنزل الناس منازلها، وتسمعهم ما يحبوا ندائهم به، وتشبع نهمهم فى التباهى والتفاخر،و يكسب بها قلوب كل من يتعامل معهم ليحصل منهم على أكبر أعطية، وفلسفته فى تحصيل رزقه تقوم على أساس “تثبيت الناس بطريقة محترمة”،ويرى أن الاحتيال لتسول الرزق من جيوب الأثرياء والمشاهير “عمل حلال”، ويختلف عن النشل والبلطجة، حيث قال واصفا نفسه لرفعت عبد الكريم. “ـمحتال يتسول من لصوص كبار”.  

ومن إحدى الملامح العبقرية فى “باب رزق” أن ثنائية الحب والجمال تجمع بين المثقف الفيلسوف رفعت عبد الكريم وبين الجاهل البلطجى “سعد سلطة” فى مرتبة واحدة من مراتب العاشقين للجسد الأنثوى الجميل، والمتمثل فى سميرة ابنة عبدالشكور، وهى الفتاة التى أسماها والدها على اسم إمرأة فاتنة الجمال كان يعشقها ولم يتزوجها، وقد وصفها الجميع بأنها “بنت راجل” لذكائها وشجاعتها وقدرتها على اختيار من تحبه، وعلى ترويض من تكرهه وتخشى من تداعيات ردود أفعاله الإجرامية على حبيبها رفعت وأبيها وأخوتها وأمها، وكما اتضح حب رفعت وعشقه لها فى مرحلة ماقبل تنازلاتها العاطفيه له، من خلال تأوهات وارتعاشات وتمتمات منها “أفديكى بروحى وروحى فداؤك”، وظهر لرفعت حب سعد سلطة لها من خلال شواهد عديدة منها، عدم إغضابه لها وعدم تكذيبها فى أى شىء تقوله له، بما فى ذلك قولها له بأن رفعت عبد الكريم أخيها فى الرضاعة، وكما وصفها رفعت فى مرات عديدة بأنها ملاك وناداها بآه ياملاكى، فإنها كانت بالفعل ملاك فى عيون سعد سلطة، بدليل أنه لم يكذب أبدا الملاك الذى يحبه، حيث قال حسونة لرفعت بهذا الصدد “أراد أن يصدقها فصدقها، وهو لا يتخيل أنه يسمع منها كذبًا”، فضلا عن أنه حاول استمالة رفعت بالترهيب والترغيب، وبالتهديدات والضغوطات وبالعزومات والأكلات، وبالتطييب والترغيب، لكى يبعده عنها لينال مراده منها بالزواج.

وتتضح تلك الثنائية بشكل أكبر من خلال مدلولات أحداث الرواية فى الجزء المتعلق منها بحب الطرفين لسميرة، حيث يتساوى رفعت وسعد سلطة فى نقيصتين تعيب حب كل منهما لها، فالأول أحبها بسبب مراهقة متأخرة وتملكت منه تقاليد بيئته وقريته وبهت حبه لها بسبب تنازلاتها لها، على الرغم من أنه سعى لعلاقة كاملة معها،  والثانى أحبها بنزعة حب التملك، وهو ما دفعه لاغتصابها قبل مقتله،كما أن الاثنان قد اتفقا على رؤيتها كأجمل فتاة فى الدنيا كلها، فعندما كان ضعف سعد سلطة أمام سميرة يكفى عن آلاف الكلمات للتدليل على حبه لها، كان رفعت يتحدث كثيرا عنها بصورة طيبة تؤكد ذلك، حيث قال رفعت ” وجدت نفسى أعبر خجلى وأقول:”ـ أنا فداؤك يا سميرتى”، فردت عليه بدهشة وتعجب : سميرتك؟!، فقال لها: ـ “وجليستى وأنيستى الآن”، وقال أيضا فى سياق حديثه عن والدها “ولهذا كنت أعطيه ما أكسبه عن طيب خاطر، وأقول فى نفسى “إن ربحت “سميرة” فقد ربحت، وإن خسرتها فلن يضنينى ضياع أى مال حتى لو كان مال قارون”، وكثيرا ما شدا رفعت بأغانى ابن عروس كلما جذبه جسدها الفتان وروحها الجميل، وقليلا ما قال أنه يحبها بلذة الروح،حيث قال فى سياق مقارنته بين حبه لسميرة وبين ما كان يفعله على صدا غنج النسوة فى الغرف المجاورة لغرفته ” لكنى مع “سميرة” عرفت لذة أخرى، إنها لذة الروح”، وذلك قبل أن يتعرف على أسماء، ويتمتم إلى نفسه بأن سميرة لا تصلح أن تكون شريكة حياة، مبررا ذلك بأن أسماء تملك العقل المكافىء لعقله، وبأن حبه لسميرة يخرجه عن الطريق الذى رسمه لنفسه قبل مجيئه إلى القاهرة،وهو طريق الفيلسوف وليس طريق العاشق.

وعلى الرغم من الفارق الكبير فى الثقافة بين رفعت عبدالكريم و”سعد سلطة”، إلا أنهما أحبا سميرة لذات الأسباب والدوافع، فكلاهما أحبها لجسدها الجميل والفتان ولذكائها الشديد، ولقوة شخصيتها وقدرتها على اتخاذ القرار، فعندما كانت تتحدث مع رفعت بشأن سعد سلطة ونواياه الشريرة أكدت له أنها لاتخاف منه، وسألته: “هل تعاهدنى أن تكون لى؟”، وهى نفس الصفة التى كان يراها سعد سلطة فيها، وبشكل أعمق، حتى ولو لم يكشف الكاتب عن ذلك، خاصة أنها ابنة الأب الروحى له، الذى علمه فلسفة التحايل لجلب الرزق بالفتونة لمساعدة الغلابة، ولكنه ضل طريقه فحولها إلى جلب الرزق بالبلطجة لقهر الغلابة.  

“ثنائية الفوضى والعشوائية” يعيشها معظم شخصيات الرواية، بما فيهم بطلها رفعت عبد الكريم الذى استخدم فلسفة التحايل لكسب قوت يومه معتمدا فى سبيل تحقيق ذلك على الكذب، بإدعائه بأنه أمين شرطة وإخافته لحسونة من الوقوف أمام سرادق عزاء مسجد الحامدية الشاذلية ليحل هو مكانه، وقد رسم الكاتب بالكلمات فى “باب رزق” صورة كاملة للفوضى والعشوائية فى القاهرة القديمة، وتجلت الفوضى فى بلطجة “سعد سًلطة” ورجاله ضد عاطف ورفعت وضد كل أهالى منطقة تل العقارب، حيث طلب سعد من عبد الشكور أن يخلى غرفة رفعت لشخص أخر وهدده بالويل والثبور إذا لم يفعل، وقيد عزازى وربطه على عمود نور بمساعدة رجال عصابته لأنه رفض معاكساته لأخته سميرة، ,وهدد ذات مرة بأن يشوه وجه سميرة بمية النار،وسلط أحد زبانيته فطعن رفعت بالسكين لحمله على الابتعاد عن سميرة، حيث زاره فى مستشفى أحمد ماهر، وأمره بأن يقول فى تحقيق الشرطة أن من ضربه مجهول، وأفصح له بأنه وعصابته شرطة موازية للشرطة الرسمية، وهدده بالقتل حرقا، إذا لم يقل ذلك، وقال له ” لا تطمع فى من هى لغيرك، وإلا سنرجعك لأهلك نساير لحم فى صندوق”.

وتجلت العشوائية فى أسوأ صورها خلال حديث لسميرة مع رفعت عن الحدين الأدنى والاقصى للتنازل العاطفى بين االحبيبين، حيث قال الراوى وهو بطل الراوية:” قامت من مكانها، وطوحت ذراعها فى الهواء فوق رأسها فصنعت ثلثى دائرة، وقالت: هنا يرى الصغار آباءهم فوق أمهاتهم، ويسمعون أصوات تهارشهم، ويطارد الأولاد البنات تحت ظلام الحيطان، ويرى الكل الكل من خروم دورات المياه القذرة التى تتشارك فيها عائلات وعائلات.. هنا لا حرمة لأحد، منا المسطول بالبانجو، والمنهك بالفشل الكلوى وتليف الكبد..  أنت جديد علينا، ولا تعرف كل شىء عنا”.

وظهرت العشوايئة أيضا من خلال مشاهد عديدة بالرواية منها مشهد الأولاد ذو الوجوه الضامرة والملامح الغائبة خلف الوسخ والعتمة، فى نفق محطة السيدة زينب، وسماع رفعت لغنج الزوجات المتلذذات بمضاجعة أزواجهن لهن بالليل والنهار، وشجار أم عجوز مع ابنها الذى سرق فلوس كفنها ليشترى به الحشيش وصراخ زوجة من ضرب زوج يجلس طيلة النهار والليل على المقهى بينما تدور هى على شقق “جاردن سيتى” لتغسل البلاط وتنظف السجاجيد، وسماع رفعت لصوت أنثى فى نفق محطة مترو السيدة زينب يضغط عليها “سعد سطوة” لممارسة الجنس معها من الخلف خشية “الحبل “،إذا ما مارسه معها من الأمام، ومشاهدته لأطفال شوارع يمارسون العادة السرية فى الظلام بذات النفق متأثرين بما يفعله كبيرهم البلطجى. 

ثنائية الإيمان والرضا تعد إحدى كواشف شخصيات “باب رزق”، فتلك الثنائية سمة مشتركة بينهم جميعا، ولكنها تظهر بشكل أكبر وأعمق فى عم خليل وعم عبد الشكور، فلم نشعر من خلال كلمات وعبارات الرواية بأى ضجر لافت للنظر فى قلوب عبدالشكور وأولاده الأربعة من صلبه، وابنه الخامس من أخيه، إلا فى حالات مناغصة أخرين لهم فى رزقهم، وعلى الرغم من أنه قائم على التسول والشحاذة، وعلى العكس تماما تشعر فى كلامهم ومواقفهم بمسحة رضا بالمقسوم، وقد ظهرت براعة الكاتب فى أنه لم يوضح ذلك بأسلوب مباشر، وإنما بتركه للمتلقى ليدركه بنفسه من بين السطور ومن خلال الجانب الصوفى فى حياة معظم شخصيات الرواية، خاصة خليل وعبدالشكور حيث  قال الكاتب واصفا حال عم خليل “هيكل عظمى وبطانية متسخة وذباب يسكن لحمه وقمل يتساقط من شعره الملبد القذر “، حيث كان ينام بالقرب من مسجد وضريح المواردى، وظهرت اللمسة الإيمانية فى قوله أكثر من مرة  اعتراضا على ما يفعله سعد سلطة، وتعليقا على أمور أخرى، “قادر على كل شىء”، وقال الكاتب عن عم عبدالشكو، على لسان الراوى وهو بطل الراوية  لتبيان موروثه الصوفى بشكل غير مباشر  ” كان يغرد بمدائح نبوية وأناشيد دينية حفظها من حضرات الذكر التي كان يشهدها في مسجد “السيدة زينب”.

تبدو معظم الشخصيات مؤمنة وراضية وعلى رأسهم رجل لطشه الهوى “خليل”، وأخر أضناه المرض “عبد الشكور، وكأن الكاتب يريد إيصال رسالة مفادها أن السعادة ليست بالمال فقط، وإنما بأشياء أخرى، وكأنه يريد أيضا رمى حجر فى مياه الأغنياء والأثرياء وبعض المتيسرين لإيقاظهم من نوبات القلق والخوف والضجر التى يعيشونها “خوفا من بكرة”، فى حين أن الأرزقية والسريحة فى مصر لديهم هذا الثبات الإيمانى،على الرغم من أنهم يتسولون أرزاقهم منهم، فى شكل فتات من الأعطيات والإكراميات.

مقالات من نفس القسم