بابا الطيب

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الساعة 7.30 صباحا.

الحي السياحي، على بعد خطوات من الكورنيش.

تتوقف سيارة (المرسيديس 220) من طراز متحفي قديم أمام الفندق الفخم، ينزل منها رجل عجوز، أنيق، حليق، يقف بجانبها، يشعل سيجارته الأولى، وينتظر…

لسنوات، اشتغل (بابا الطيب) سائق طاكسي، ينقل السياح من مركز المدينة إلى أندية التنس والكولف، والأسواق البلدية، والبازارات، ومحلات الأنتيكا وبيع التحف، والمعالم التاريخية للمدينة…

لم يكن (بابا الطيب) غنيا، ولكنه أيضا لم يكن فقيرا، أو هو لا يريد أن يبدو فقيرا، فقد كان يعامل نفسه وأسرته بكثير من السخاء والكرم. كان واحدا من هؤلاء البسطاء الذين يعيشون بالقليل من المال والكثير من المثاليات، يبدو الرجل حكيما، مستقيما وصارما، ويبدو أحيانا قاسيا عندما يتعلق الأمر بتربية أبناءه، لم يكن متعلما، ربما توقف مساره الدراسي في السنوات الأولى، ربما لم يدخل المدرسة يوما، ولكنه رغم ذلك يتكلم ثلاث لغات أجنبية، ينظر للأمور بعمق، ويمتلك خلفية فكرية عميقة، وخبرة بالناس والحياة تعوز الكثير من المتعلمين.

في المساء، يعود (بابا الطيب) من العمل، وفي يده سلة طافحة، لحم، خضر، فواكه، وبعض الأغراض الأخرى التي تطلبها زوجته.

كانت له فلسفته الخاصة في الحياة والعمل والعلاقات الانسانية، فقد استن لنفسه قواعد وضوابط صارمة، واعتبرها نوعا من أخلاقيات المهنة، ميثاق شرف، بدونه يصبح العمل في نظره مبتذلا، تافها، وبدون جدوى.

يتعامل (بابا الطيب) مع جميع الزبناء، مغاربة، أفارقة، آسيويون، خليجيون، فرنسيون، ألمان، إنجليز، أمريكيون…يعاملهم بنفس التقدير والاحترام، ويحاول أن يكون مستقيما مع الجميع، كريما، مضيافا، وخدوما، ولكنه يصرح دوما أنه يفضل التعامل مع النصارى (يقصد السياح الأوروبيين)، فهم في نظره أناس مستقيمون، متحضرون وكرماء، وأقدر من غيرهم على فهم الحياة، لا يتعلق الأمر في نظره بالمال فقط، فالخليجيون أيضا أغنياء وكرماء، وأحيانا يفوق سخائهم كرم الأوروبيين بكثير، ولكن القضية قضية مبدأ، لذلك يرفض (بابا الطيب) التعامل مع الزبناء المشبوهين، ولا يتردد في التخلي عن نوبته للآخرين عندما يتعلق الأمر بالسياح الباحثين عن المتعة الحرام، بنات الليل، الشواذ، والمنحرفون.

كانت سيارة (الميرسيديس 220) فضاء مقدسا غير قابل للتدنيس.

في المساء، يجلس (بابا الطيب) في المقهى، في ركنه المفضل مع شلة الأصدقاء، يخرج فجأة من جبة العمل فيبدو مختلفا، يبدو وكأنه شخص آخر، يبدو منطلقا وسعيدا، يدخن، يلعب الورق، يستعيد تدريجيا روحه المرحة، يجترح لنفسه وللآخرين لحظات الصفاء والفرح، يتكلم بسخاء، ينصت بإمعان، يوزع النكت والمستملحات.

غير بعيد، وفي المائدة المقابلة يجلس شابان، فتى وفتاة، يلبسان تقريبا بنفس الشكل، ويطلقان العنان لتسريحات غريبة، يبدو الفتى منهمكا ينظر إلى شاشة هاتفه، أما الفتاة فتلتقط لنفسها صور السيلفي، في وضعيات مختلفة، في كل مرة ترسم تعبيرا مختلفا على وجهها، تبتسم، تتجهم، تكشف عن السلك المعدني الذي يشد أسنانها، ترفع حاجبيها بالتناوب، تدفع شفتيها إلى الأمام، ترسم شكل قبلات دائرية، ترسلها إلى شاشة الهاتف وتلتقط الصور، تسحب شعرها إلى الأمام، تشده إلى الخلف، تحرره ثانية، تلتقط صورا أخرى لأناملها، لحذائها، لسروالها الممزق عمدا عند الركبتين، ثم تصور أخيرا كأسي العصير والقهوة الموضوعين على المائدة…

ينظر إليها (بابا الطيب)، يتأملها، يتأملهما معا، يحاول أن يعرف أيهما الذكر وأيهما الأنثى، ينظر، يقارن، الملابس، الأحذية، لونها، شكلها، الحلي، الأساور، الخواتم، الأقراط المعدنية التي تنتشر في كل مناطق الجسد، وعندما لم ينجح، يلتفت ويسأل.

– شكون فيهم الولد، وشكون البنت؟

– الأمر غير واضح، إنهما متشابهان…

– عجيب أمرهم هؤلاء الشباب، ينبغي أن تنزع عنه سرواله لكي تعرف!  

يبتسم، يضحك الرجل الآخر.

– والله إيلا…

لا ينظر (بابا الطيب) إلى جيل الشباب بعين الرضا، فهو في نظره جيل حفيان، شباب غفل، ممسوخ، أجوف وكسول، كل همه التقاط الصور لوجوههم، للصحون، والفناجين الموضوعة على موائدهم.

في المرة الأخيرة، وقع سوء تفاهم بينه وبين ابنه الأصغر، وانخرطا في جدال حاد، فالولد في نظره مدلل، نزق، خفيف، ولا يريد أن ينضج، وهو يخشى عليه من الانحراف والتيه في دروب الحياة، يخاف أن ينزلق نحو السرقة، أو المخدرات، بسبب الطمع والجري وراء المال والمظاهر.

جدال أنهاه الابن بالصمت، وأنهاه (بابا الطيب) بنبرة الغضب.

– عموما يا بني، أنت تفهمني، أنا أقبل أن تكون فاشلا، لكنني لن أقبل أبدا أن تكون لصا أو مثليا!

يعود (بابا الطيب) إلى البيت متأخرا من سهرته، يطل على غرف الأبناء، يطمئن، يتأكد أنهم هناك، ثم يأوي إلى غرفته، ينزع حذاءه، يستعد للنوم، ترتسم على وجهه ابتسامة الرضا، يرفع بصره إلى السماء.

– لك الشكر يا رب، منحتني أبناء يأوون إلى فراشهم باكرا!

تنظر إليه زوجته (لالة هنية) بعتاب، تبتسم.

– آه لو أن الله رزقنا بفتاة أو فتاتين، تدخلان على البيت بعض الرقة والجمال…

ينظر إليها، يبتسم، يستعيد روحه المرحة وسخريته القاسية.

– اخرسي يا امرأة، وكوني شاكرة، البنات نذير شؤم، هن كمن يحمل على رأسه كيسا طافحا بالقذارة، يتحرك، يميل قليلا، فتتقاطر عليه وينفضح أمره!

تنظر إليه الزوجة بغضب، تبتسم بامتعاض، وتلوذ بالصمت.

في الأسابيع الأخيرة من حياته، انتكس (بابا الطيب)، اشتد عليه المرض ولزم الفراش لأيام، نادى على زوجته، منحها مبلغا محترما من المال.

– شوفي الله يرضى عليك، خذي هذا المال، يوم أموت، أريدك أن تنظمي حفل عزاء مشرف، قرآن، كسكس، ولحم وفير لطلبة الجامع والفقراء والمعزين من الجيران…

مرت أيام أخرى، واسترجع (بابا الطيب) جزءا من عافيته، تجدد فيه الأمل والتمسك بالحياة، نادى على زوجته، استعاد منها جزءا من مبلغ المال.

سألته صامتة.

– …؟

– أريد أن أحتفل، من يدري؟ قد تكون فرصتي الأخيرة…أريدك أن تنظمي حفلة عيد الميلاد لحفيدتي (بسمة) هنا في البيت، احرصي على ألا يعرفوا السبب، قولي فقط إنني أريد أن أرى الجميع.

المساء.

يجلس (بابا لطيب) في قلب الصالون، مستلقيا في وضعية جسدية مريحة، يدخن، ينظر في اتجاه النافدة المشرعة، تهب نسمات خفيفة من الخارج، تحمل معها جزءا من سحابة الدخان إلى الخارج، تتحرك الستائر، تتحرك معها أشجانه وهواجسه الدفينة، فيبدو غائبا، مستغرقا، ومنخرطا تماما في عالمه الداخلي.

منذ ساعات فقط كانوا كلهم هنا في هذه الغرفة، وكان المكان يعج بالحركة وضجيج الحياة، وها هو الآن يغرق في صمت رهيب، في كل مرة يغادرون، يختلي هو إلى نفسه، تجتاحه كآبة عارمة، ويتملكه نفس الشعور، شعور حزين وغامض يمتزج فيه الإحساس بالعزلة والألم والخوف، الخوف من المرض والعجز والشيخوخة وأفاعيل الزمان…

ثم في لحظة ما، عادوا فجأة، تخيل أنهم عادوا جميعا، تحلقوا حول المائدة من جديد، مائدة طافحة وفي منتهى الكرم، طعام، حلوى، شموع، ورود، يأكلون، يشربون، يضحكون، تتعالى صيحات الفرح، يبدون منطلقين وسعداء، يجلس هو في قلب الغرفة، يحضن حفيدته، تقبله، يتبادلان الهمس والوشوشات، يبتسمان عندما يتم التقاط الصور، يرد هو على المجاملات، ينظر في وجوههم، يتأملها، يبتسم وكأنه يودعهم…

ثم عندما عاد إلى ذاته، انتبه لسيجارته، امتص منها نفسا عميقا، ينظر لكأس الشاي، يرفعها، يرشف منها رشفات صغيرة، ثم يحرر الدخان، يرسله بعيدا.

الصباح، تدخل (لالة هنية) تذهب توا إلى النافذة، تفتحها، تسحب الستائر يمينا وشمالا، تتسرب خيوط الشمس إلى الداخل، تسبح الغرفة في حمام من الضوء، تنظر إلى المائدة، تتأمل بقايا الفوضى التي خلفتها حفلة الأمس، تبتسم، تنظر إليه، ثم في لحظة ما، ولسبب ما تجهله، تملكها إحساس غريب، إحساس غير مريح، تقترب منه، تنظر للسيجارة المنطفئة بين أنامله، تتأمله، تتأمل ابتسامته الجامدة، تقترب أكثر، كان ميتا، ممددا، مستلقيا هناك وكأنه يستريح، ينظر جهة النافدة وفي عينيه هدوء غامض.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون