الهروب للغربة.. خوفا من العادي

خوفا من العادي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العبادي

في عصر انتهت فيه المقولات الكبرى وفقد فيه العالم نظرته الشاملة الملحمية.. صار لزاما على الرواية – وهي ملحمة العصر الحديث – أن تكون انعكاسا لزمانها.. فتحكي عن الهم الشخصي الضيق قبل الهم الجمعي ذي المجال الواسع.

وفي روايته التي بين يدينا يتماهى “فريد عبد العظيم” مع راويه وبطل روايته “كمال” الذي يحكي لنا حكايته الشخصية عن حياته واغترابه، لكن نفاجأ في النهاية أن حكايته الشخصية هذه ليست ضيقة المجال كما يبدو لأول وهلة، بل هي انعكاس لمجال أوسع بكثير، فحكاية “كمال” هنا تتسع لتكون حكاية “الوطن” بل وحكاية “الإنسان” المغترب في هذا الزمن.

يمكننا اعتبار “خوفا من العادي” رواية شخصيات – إن صح التعبير – استطاع “عبد العظيم” أن يرسم شخصياته بدقة واحترافية مميزة.. بداية من الراوي “كمال” وحتى أبسط الشخصيات الفرعية في الرواية.. فيمكن للقارئ الواعي أن ينتبه إلى أن بؤرة الاهتمام الأساسية للرواية هي الشخصيات وليست الأحداث.. بل تظهر الأحداث وكأنها عامل مساعد الهدف منه اظهار طبيعة تفاصيل الشخصيات وإيقاع القارئ في فخ التعاطف معها.

كمال: المغترب الأبدي: بالطبع فإن شخصية الراوي “كمال” هي صاحبة المساحة الأكبر في أفق الرواية.. “كمال” هنا ليس مجرد راوي محايد وهامشي دوره هو الحكي عن الآخرين.. هو الشخصية الرئيسية التي تدور من حولها الأحداث.. فنرى تلك الأحداث عبر عينيه ونسمعها بكلماته.. ويكشف لنا عن أثرها داخل نفسه.. تشعر أن الرواية هي حكاية “تغريبة” كمال اللا نهائية.. تبدأ ببداية غربته للدراسة في العاصمة وتنتهي دون أن تنتهي غربته…

“كمال” فقد أمه في سن صغيرة.. ورغم حياته مع أب عطوف وزوجة عم مسئولة عن تربيته إلا أن يتمه المبكر بدا وكأنه زرع بذور الغربة في وعيه منذ البداية.. ما دفعه للهروب من غربته الداخلية إلى غربة جديدة في العاصمة.. عله يجد لنفسه فيها وطنا.. ورغم فشله في ايجاد هذا الوطن في العاصمة في سنوات الدراسة إلا أنه يعيد المحاولة مرة أخرى فيعود للعاصمة من باب “العمل” هذه المرة.. ثم “الزواج” بعد ذلك.. ورغم كونه محاطا دوما بـ”بلدياته” من أبناء المنوفية.. إلا أنه يبدو دوما ممرورا بإحساس الغربة.. منزوي في الظل دون القدرة – أو الرغبة – على القيام بفعل أكبر أو محاولة التقدم للصفوف الأولى.

“كمال” هو “بطل ضد” بامتياز.. تشعر دوما بسلبيته وامتناعه عن اتخاذ أي موقف إيجابي.. يؤثر دوما السلامة والابتعاد عن ما قد يزعجه.. يمشي فقط مع التيار المحيط به.. حتى نجاحه في الحصول على بطاقة جديدة وشقة في العاصمة حدث بدفع من “كبيرَه” في العاصمة: “ممدوح البطل”.. حتى في المظاهرات والإضرابات.. هو ليس إلا ورقة تتحرك في التيار.. كومبارس متكلم يهتف حين يتلقى الإِشارة…

والتناقض هو أن “مغتربَين” هما من كسرا حاجز الغربة في حياة “كمال”.. فيأتي “نور وجدَّته” هربا من الحرب في سوريا.. ليمسحا ظل الغربة ويبدآ حياة حقيقية في العاصمة لكمال وليلى زوجته.

ثلاثة وجوه لليلى: رغم أن “ليلى” بنت عم كمال ثم خطيبته وزوجته بعد ذلك.. رغم أنها ليست الشخصية ذات المساحة الأكبر بين صفحات الرواية.. إلا أنها شخصية ذات أهمية خاصة.. ليس فقط لدورها في تحريك سير الأحداث.. لكن أيضا لدورها في عكس تفاصيل أكتر عن شخصية كمال.

هي ليست “ليلى” واحدة التي يروي عنها كمال.. فهناك ثلاثة: الأولى هي “ليلى” ابنة عمه كما يراها كمال.. “عود القصب” كما كان يلقبها.. حتى امتلأت وتحولت لأنثى ناضجة وزوجته من بعد.. ليتطور وعيه بها ويكتشف أنها ذات شخصية أكثر قوة واطلاعا مما توقع…

وهناك “ليلى” الثانية: “ليلى” أحلام اليقظة التي كونها خيال كمال.. لتصبح مجرد انعكاس لتصوره عن المرأة التي يرغبها.. يقيم معها الحوارات ويشعر بحرارة أنفاسها ولمساتها لتقيه شر الوحدة.. والغربة.

وتبقى “ليلى” الأخيرة: “ليلى” كما تروي عن نفسها.. لعدة صفحات يسحب الكاتب مهمة السرد من “كمال” ويعطيها لليلى.. فعبر صفحاتها المسجلة على الكمبيوتر التي يكتشفها زوجها تحكي لنا “ليلى” عن نفسها.. فنراها بصورة مغايرة تماما.. تحكي عن أمها لتظهرها بصورة مختلفة عن الصورة الصارمة التي دأب “كمال” لعرضها عنها.. تحكي عن “كمال” نفسه فيظهر بصورة مغايرة لتصوره عن حبها الطفولي له.. تلقبه بـ”أبو منقار” كما لقبها بعود القصب.. وتخشى على نفسها وأرضها منه.. في ما ترويه “ليلى” عن نفسها تظهر القوة الحقيقية لشخصيتها.. فتبدو أقرب لنسخة أكثر حداثة من أمها الصارمة.

“بلديات” كمال لهم المساحة الأكبر في الرواية.. هم دوما متكتلون سويا.. أقرب لإعادة إنتاج لمجتمعهم الريفي في مجتمع المدينة..  وبالرغم من سرد كمال الهادئ والمحايد إلا أنه من السهل على القارئ الفطن أن يدرك رأي كمال في شخصيات بلدياته من الفروق في السرد عن كل منهم.. هناك من يستعمل أسماءهم للتعريف عنهم بل ويضيف لهم ألقاب خاصة: “ممدوح البطل” و”عم بيشوي” مثلا.. وهناك من يستنكف حتى عن ذكر أسماءهم.. فيكتفي بـ: “الأخرق”, “الطائش”و “المخبر” وغيرها.

بالإضافة إلى احترافية “فريد عبد العظيم” في البناء العام للشخصيات ثم الأحداث.. يجب الإشارة إلى تعامله الموفق مع اللغة.. لغة الراوي كانت مناسبة تماما لطبيعة شخصيته الهادئة وثقافته المحدودة.. ابتعد الكاتب عن التركيبات المعقدة أو الكلمات المقعرة واكتفى بكل ما هو سهل.. يضاف له مسحة “صوفية” تعود إلى ما استقاه من والده وأصدقائه عن “أمير الجيوش” ومقامه.

حكاية وطن “على الهامش”: هي رواية عن التفاصيل الصغيرة في الأساس.. عالمها ضيق بضيق عالم راويها بين قريته والعاصمة وأطرافها.. لكن ليس هذا كل شئ.. فكما ذكرت سابقا نجد في هذه الدائرة الضيقة إنعكاس لدائرة الوطن ككل.. يظهر هذا في تفاعل “كمال” ومن حوله مع أحداث الوطن الكبرى.. فبعدهم عن “المركز” يجعل تفاعلهم مع تلك الأحداث مختلف تماما.. فبالنسبة لكمال لم تكن ثورة يناير سوى أحداث داخل شاشة التلفزيون وساعات من السهر في اللجان الشعبية لقريته.. أما ثورته الخاصة فكانت مع بلدياته اللذين استغلوا ثورة العاصمة ليحققوا مكاسبهم الشخصية ويحصلوا على “التعيين” في الحكومة..ثم جاءت الأحداث التي تلت تلك الثورة ليكون انعكاسها الأكبر عبر زوجي أختيه اللذين قررا أن يركبا موجة السياسة بحثا عن المكاسب المادية قبل السياسية.. ليدوسهما قطار السياسة بلا رحمة بعدها…

لكن مع الوقت يشاهد “كمال” – بقلب محسور – انهيار العالم كما عرفه.. فبلدياته لم تصبح لهم الكلمة العليا في مدينة العمل في العاصمة.. وقادتهم “الكبراء” قد انهارت سطوتهم ليختفوا في الظل…

رغم هذه الرؤية السياسية الباهتة لكمال وبلدياته إلا أننا نستطيع أن نقرأ بين السطور رؤية أخرى أكثر حيوية يطرحها الكاتب.. فرغم عظم الأحداث السياسية التي مر بها “الوطن” بمفهومه الكبير خلال الفترة المعروضة في الرواية.. إلا أن الكاتب يطرح هنا أن هذه الأحداث لم يكن لها نفس الأثر في مناطق “الهامش” كما في المركز.. لتبدو هذه الأحداث على قدر كبير من التشتت من مكان إلى آخر.. فيتشتت مفهوم “الوطن” نفسه.. فوطن أبناء العاصمة ليس هو نفسه وطن “كمال” البعيد عن أثر المركز.. ووطن كمال هو آخر يختلف عن وطن غيره من أهل “الهوامش” الأخرى.. ما يدفعك للتساؤل عن ما هو الوطن الحقيقي.. وطن المركز.. أم أوطان الهوامش العديدة؟…

رسم فريد عبد العظيم نصه بذكاء فني مميز.. لتصبح حكاية بطله المغترب هي انعكاس لحكاية جيل كامل من المغتربين الذين فقدوا الأمل في انتهاء غربتهم…

 

 

مقالات من نفس القسم