النهر

محمد العربي كرانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العربي كرانة

للنهر والقرية قصة لا تنتهي …

بدأت منذ أن تفتقت عبقرية أسلافنا فبنوا منازلهم في شبه جزيرة يحيط بها النهر من ثلاث جهات. تاركين سفح الجبل الأكثر أمانا والأقرب للنهر. لهم أسبابهم التي لا يعلمها غيرهم، ولنا تبعات  سوء اختيارهم، نستشعرها في أنفسنا ومعيشتنا وفي بعض الأحيان في وجودنا نفسه.

 ونحن صغار، كان النهر بعبعا، وحشا، يخوفنا به الكبار عندما نلج في غينا الصبياني، ولكن بالنسبة لنا كان مرتعا للهو و مقياسا للطيش. كل من عصى أهله وسبح في النهر فهو بطل. ما كان يفعل هذا إلا الأشاوس منا، وكانوا قلة، وإن كانت السباحة تتم في الحقيقة في إحدى السواقي الصغيرة المنبثقة عن النهر.

ما مر عام دون أن يذكرنا النهر بأنه الآمر الناهي المتحكم في مصائرنا. فعندما يستجمع قواه، وتفقد قمم الجبال  القريبة منا تيجانها البيضاء، ينتفض مزمجرا هادرا فيأتي على الأخضر واليابس، موغلا في الأراضي الفلاحية ومغرقا للبيوتات الواطئة. أما إذا كان صبيبه أكبر فيحيل قريتنا جزيرة منقطعة عن العالم الخارجي.

كان عنيدا وكأنما  يجد متعة في بسط سلطانه على القرية. وكان سكانها أكثر عنادا منه عندما قرروا البقاء وإن تحت تهديده وجبروته.كان عنادا محسوبا فخيراته أكثر من أضراره التي اعتبروها هينة مقابل ما يجنونه منه، وإن كانت أحيانا تذهب بأرواحهم و ماشيتهم وزرعهم.

تعددت الحكايات عنه، تناقلتها الألسن، وضخمت حتى تجاوزت حدود القرية وعمت الناحية كلها. ولكن أوثقها وأصدقها كان على لسان أمي عويشة. لا أحد في القرية سواء كان كبيرا أو صغيرا يجرؤعلى مناقشتها أو الشك فيما ترويه لمكانتها الإعتبارية أولا بصفتها مولدة وخاطبة القرية، أغلب السكان ولدوا وتزوجوا على يديها، وثانيا لصدقها فضلا عن سلاطة لسانها. ما جادلها من أحد حول النهر إلا أفحمته. كانت تعتبر نفسها سادنته و المؤرخة له خاصة بعد أن كاد يصطحبها معه في رحلته نحو السهول السفلى لولا الألطاف الإلهية.

حدث ذلك ذات يوم خريفي، كانت بصدد غسل أكوام من صوف الغنم، زلت قدمها في الطين اللزج لضفة النهر فجرفها التيار. تعالى صراخها مستنجدة قبل أن تختفي وصوتها خلف التواء النهر. هرع بعض الشباب لنجدتها مسرعين، ليجدوها جالسة على الضفة وقد التصق شعرها الأحمر بوجهها بعد أن فقدت منديل رأسها وبعضا من ملابسها. كان وجهها مصفرا وقد علت الزرقة شفتيها والارتعاش  جسدها النحيل. تعجبوا من نجاتها ولما سألوها عن السر في ذلك أجابتهم بصوت مرتعش بأن الأمر راجع لحكمة الله وبركة الولي الصالح “مول الواد” ثم إن العمر كانت فيه بقية. حدسها جعلها تقرر أن لا تخبر أحدا بأن جذع شجرة من كان وراء نجاتها لما علقت به ملابسها، وأن الله من سخره لها. أدركت أن هالة الغموض التي أحاطت بالحادثة ستزيد من منسوب الاحترام الذي يكنه لها أهل القرية. لذا أخبرتهم لما استقبلوها بالزغاريد والتكبير بأنها أيقنت بالهلاك لما ابتلعها النهر وشربت ماء كثيرا قبل أن يقذف بها التيار إلى الضفة سالمة حيث عثر عليها الشباب.

     عندما يكون العام ممطرا والنهر حليما، تمتلئ البيادر ومعاصر الزيتون ويعم الخير القرية. تلتئم النسوة في مجالس دائرية حول أكوام القمح لتنقيتها مما علق بها من حصى وشوائب، وهي فرصة للثرثرة وتبادل الاخبار والخوض في سير الغائبات منهن في حدها الأدنى أي دون المساس بالأعراض، لينتقل الحديث بطريقة أو بأخرى نحو النهر وأخباره. لم يكن هذا الانتقال بريئا بل كان بإيعاز من بعض الفتيات الشابات اللواتي يرغبن في التأكد من صدق ما  وصلهن من حكايات غريبة لا تكاد تصدق حول النهر ومجاوريه.

لم يفت أمي عويشة الأمر، ولكنها تجاهلته لم تعد لديها قابلية للتحدث في أمور الكثير من شباب اليوم يعتبرها خرافات عصية عن التصديق. مرزمان حيث كان الناس يتلقفون ما تحكي على أنها حقائق لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها. تغيرت العقليات من حولها ولكن قناعاتها لم تتزعزع قيد أنملة. ما كان للأسلاف أن يكذبوا فيما حكوا عن النهر، فإذا لم يستوعب الجيل الحالي الأمر فذاك شأنه.

تظاهرت بالانشغال بما بين أيديها، أصابعها تنتقي الحصى بخبرة من قضت سنوات في مثل هذا العمل. جالت ببصرها فيما حولها، كانت النسوة مطأطئات الرؤوس وقد توقف همسهن بينما أيديهن تعمل بإيقاع موحد، ماعدا واحدة وكانت أصغرهن، توقفت عن العمل، استحملت النظرات المعاتبة لأمي عويشة وسألتها – دون أن تأبه بمحاولة جارتها منعها من ذلك – عن مدى صحة ما يروى عن النهر وعن الولي الصالح ” مول الواد”.

  كان سؤالا مستفزا ما كان ينبغي وضعه لما له من أثر سلبي على نفسية أمي عويشة.فمنذ أن بدأ أطفال القرية من الجنسين يغادرون نحو المدينة لإتمام دراستهم والتي تستغرق سنوات تغيرت أمور كثيرة. نمت مداركهم وأصبحت جل مسلماتهم محل تساؤل وشك وعلى رأسها كل الخوارق المرتبطة بالنهر وب”مول الواد ” الولي الصالح للقرية. انبرى السكان لأبنائهم خشية أن تطال موجة الشك العقيدة والدين وحتى العادات والتقاليد. أخذوا منهم ميثاقا بأن يتركوا آراءهم لأنفسهم وأن لا يخوضوا مع الخائضين، وأن يتركوا أمي عويشة وشأنها. احترم الميثاق بشكل عام ما عدا استثناءات قليلة كانت هذه واحدة منها.

     أدركت الشابة أنها خرقت ميثاقا ونقضت عهدا، بحثت عن دعم  ممن حولها فلم تجده فاستسلمت للأمر الواقع منتظرة رد فعل العجوز على جرأتها. الغريب أن رد الفعل المنتظر لم يقع، إذ اكتفت أمي عويشة بالنظر إليها مليا مسترجعة ذكريات الماضي حيث كانت مخاطبتها طفلة صغيرة تتعلق بأهدابها باكية مستعطفة  لتحملها بين يديها فإذا هي الآن خصيمة مبينة. لن تقع في الفخ مرة أخرى فلطالما جادلت وناقشت دون جدوى فلا هي غيرت من موقفها ولا مجادلوها اقتنعوا به. شعرت والأسى يخنق أنفاسها بأن زمانها ولى، وأن عالمها الذي لا تعرف سواه بدأ ينهد شيئا فشيئا. قلت الولادات، وأصبح أكثرها يتم بمستشفيات المدينة، كما أن الزيجات استغنت عن الخاطبة بعد أن فتحت أمام الشباب وسائل اتصال جمة جعلت زواجهم بالنسبة للأسر تحصيل حاصل.

سؤال عادي بالنسبة للفتاة، كارثي بالنسبة لها.

ترى ما هي فاعلة الآن بعد أن توقفت الأيدي عن الحركة وشخصت الأبصار مركزة على شفتيها. تبا لهذا الصمت المطبق المشتت للتركيز والملح في طلب الجواب. هل تقمع الفتاة؟  لسانها لم يفقد شيئا من حدته وسلاطته، لا واحدة  من الحاضرات تستطيع أن تقف في وجهها وسينتهي الأمر بانتصار مؤقت جديد. ولكن إلى متى !!. كظمت غيظها وراء ابتسامة باهتة وسألت الفتاة وكأنها ترمي لها طوق نجاة من المشكلة  التي أوقعت نفسها فيها  :

   – أتقصدين النهر أم الولي الصالح “مول الواد”؟

تفاجأت الفتاة بالسؤال غير المنتظر، تلعثمت وعلا الاحمرار وجنتيها وأيقنت أن خلاصها متوقف على طبيعة جوابها. لعنت لسانها وفضولها وإن كانت مقتنعة بأنهما السبيل الوحيد للمعرفة بغض النظر عما ينتج عنهما من مواقف محرجة. لم تكن غبية ولذا أجابت :

   – النهر طبعا …

عم المجلس الارتياح واستعادت الأصابع عملها،تأكد الجميع أن لا خصومة ولا جدال اليوم، ففي حكايات النهر مساحات واسعة للتفاهم ما لم تثر نقط الخلاف وهي قليلة والتي من شأنها أن تحيل على الولي الصالح “مول الواد”.

المشكلة أن شباب اليوم لا يعترفون بالخطوط الحمراء بل إن هذه الأخيرة تجذبهم كالمغناطيس خاصة إذا كان ما وراءها غير منطقي وأقرب للفكر الغيبي. ودت الفتاة لو أخبرتها أمي عويشة عن الشجرة الغريبة التي لا تغمرها الفيضانات مهما بلغت من القوة والسر في المناديل المختلفة الألوان والأشكال التي استباحت أغصانها، ثم ما شأن الصخرتين الملساوين اللتين يمر منهما فرع من النهر، ولم تغتسل النساء بينهما في شروق الشمس أو في غروبها.

هذا ما كانت الفتاة تود أن تجد له تفسيرا يرضي فضولها ويميط اللثام عما يكتنفهما من غموض.

لم تقتنع أمي عويشة بجواب الفتاة فهي تدرك جيدا كنه سؤالها ولكنها تجد نفسها عاجزة عن الإجابة المقنعة فهناك من الأمور ما لا يحتاج لشرح، إما أن يؤخذ كما هو أو يترك. فالمسألة تتعلق بالنية أي الإيمان بالشيء دون محاولة الفهم. والنية هي ما يعوز هذا الجيل الجديد ويقف حائلا دونه وتقبل ممارسات اسلافه. العبرة بالنتائج وقد كانت في مجملها مرضية ولأجيال ومن ثم انتشر صيت النهر بين القبائل وخاصة الشجرة و الصخرتين.

هوذا النهر، ضيفنا الأبدي المقيم بين ظهرانينا، الفاعل والمشارك لنا في أفراحنا وأحزاننا في خصامنا وصلحنا في شبعنا وجوعنا. لا وجود للقرية بدونه وهو موجود بدونها. علاقة غير متكافئة ولكنها مستمرة في الزمان والمكان.

قصص كثيرة رويت عنه وأثثت ليالي طفولتنا ومراهقتنا أغلبها على لسان امي عويشة والباقي عشنا فصولها كمتفرجين أو مشاركين. عفا الزمان على أكثرها ما عدا قصة السرجان الأعرج المأساوية التي تركت جرحا غائرا في أنفسنا. كان جنديا في الجيش الفرنسي شارك في الحرب الهندوصينية ورجع منها برجل اصطناعية وبطبع حاد عنيف وميل مرضي نحو شرب الخمر. لم يكن يؤذي أحدا في حال سكره بل بالعكس كان يجمعنا أمام بيته ليحدثنا عن الأهوال التي صادفها هناك في أدغال الشرق الأقصى في حرب غير حربه و مع عدو لا يكاد يرى. لم ينس رغم مرور سنوات عدة تفاصيل الجحيم الذي عاشه هناك. استهوتنا حكاياته وعشقناها وأصبحنا نترقب سكره بفارغ الصبر لكي لا نحرم من متعة حكيه وإن كنا في كثير من الأحيان لا نستوعب كل ما يحكيه، إذ كيف للغابات أن تتموج كالبحار وأن تخلق في نفس الإنسان الخوف من اللون الأخضر حد الرهاب. وكيف يمكن للصمت أن يكون له نفس وقع انفجار القنابل ودوي المدافع.

كان بطلا في أعيننا رغم الهزيمة وفقدان الساق، بمواقفه من قضايا القرية حيث كان يدلي برأيه دون مواربة ولو خالف في ذلك القرية جمعاء. من ذلك مثلا موقفه الرافض لتوسعة المسجد وبناء صومعة له معتبرا ذلك هدرا لمال أولى أن يصرف في بناء حجرة دراسية أخرى تخفف العبء عن الحجرة الوحيدة الموجودة. لكن صاحب الأرض المرشحة لاستقبال التوسعة رفض رفضا تاما الأمر متعللا بأنه يبتغي من عمله ثواب الله ومغفرته. ولما ذكره بأن الثواب في الأمرين سيان كاد أن يختنق من الغضب. 

كان يعيش وحيدا مع أم عجوز ألحت عليه ليتزوج ففاتح أمي عويشة في الأمر، لكن النتيجة كانت مخيبة. جميع فتيات القرية اللواتي في سن الزواج رفضن الاقتران به وحتى العوانس. استقدم زوجة من قرية مجاورة ولكنها بعد شهرين فرت لوجهة مجهولة. غاب عن الأنظار مدة حرمنا خلالها من قصصه وحكيه، ليظهر ذات صباح مع وصول شاحنة صغيرة للقرية أنزل منها سائقها بقرة رومية هولندية ضخمة بيضاء مبرقعة سلم عنانها للسرجان وانصرف متبوعا بسحابة من الغبار.

كانت البقرة مصدر فخر له، لا بقرة في القرية تضاهيها ضخامة وجمالا، رفض كل العروض بتزويجها مع الأبقار المحلية، واتخذها رفيقة في غدوه ورواحه. لم يعد يعاقر الخمر إلا لماما، لانت طباعه فانعزل عن الناس وامتنع عن اتحافنا بحكيه رغم إلحاحنا. كانت ترعى قرب ضفة النهر حيث العشب الأخضر الطري، وكان هو يجلس على تل غير بعيد عنها ممسكا بحبل طويل مربوط بقرنيها. وبما أن النهر لا أمان له، ارتفع منسوبه بطريقة فجائية 

جارفا البقرة والسرجان الذي فقد رجله الاصطناعية وهو يحاول انقاذ بقرته من سطوة النهر فجرفهما التيار معا.

بضع ثوان كانت كافية لإزهاق روح إنسان وبقرة في غفلة من الجميع.

تشفى من تشفى وحزن من حزن وكنا أطفال القرية وشبابها في طليعة جنازته فقد فقدنا فيه مؤنسا ومثالا للشجاعة وقوة الشكيمة.

لم تتوقف سطوة النهر فيما ذكر، بل كانت له اليد العليا في اختيارات القرية السياسية والانتخابية. فمذ كنا صغارا كان لموسم الانتخابات طعم خاص. خلاله يتذكر الجميع القرية وموقعها على الخريطة. ترش الساحة الرئيسية المتربة بالماء و تكنس، وتضرب الخيام وتعلق أعلام باهتة الألوان، بينما على منصة نصبت بالمناسبة ترقص “شيخات” على إيقاع موسيقى أقرب للعويل.   تتوافد الوفود على متن سيارات أنيقة نال منها غبار الطريق غير المعبدة، يلج ركابها الخيمة الرئيسية دون الاهتمام بالحشد الملتف حول الساحة بينما أتباعهم ينفحون الصبية حلوى وبالونات مختلفة الألوان. ما كان يجري داخل الخيمة لا علم لنا به وإنما يصلنا بين الفينة والأخرى صدى تصفيقات

وهتافات ليغادر الوفد الخيمة والقرية مسرعا وكأنه تخلص من عبء كبير.

على وجوه من حضر اجتماع الخيمة علامات الارتياح والتفاؤل بقرب حل مشكل النهر والطريق في أقرب الآجال،

خاصة وأن المقابل هين، أصابع مخضبة بالحبر وورقة ذات لون خاص توضع في صندوق.

توالت مواسم الانتخابات واستبدلت الشيخات بمرتلي القرآن والأمداح النبوية، وخضبت أصابع كثيرة وتغيرت ألوان الأوراق وملئت الصناديق باسم النهر والطريق وما تغير من  شيء ….

     

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون