المشّاء

المشّاء
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جيهان عمر

مثل راهب يفكر في خلوته يجلس وحيداً متأملاَ وبجانبه كتاب مفتوح على صفحة هامة، بينما أندفع أنا إلى الفراديس كما يسميها، أضع الشالات الملونة على كتفي، لأنتقي واحداً ينقذني من برد الإسكندرية الذي يفاجئني في كل مرة حتى في ليالي الصيف. يبتسم علاء حين أبعثر الأقراط الفضية من شدة حيرتي في اختيار أجملها، بعد دقائق يستدعي صديقاً أوحشه بدون استخدام الموبايل، سيستقل الصديق تاكسياً من محطة الرمل إلى رشدي ليأخذه بالأحضان، ورغم حاجته له ستجده مستمعاً فقط سعيداً بتفاهات يومية تحكى، أو بتحليلاتنا الحمقاء، بالصخب الذي ألقيناه فجأة في بحيرة هادئة، سيهز رأسه في محبة موافقاً على كلماتك ولكنه سيضيء لك مصباحاً صغيراً كان مهملاً في عقلك لتفكر بشكل آخر، سيأخذك من يدك لطريق أكثر رحابة بدون أن تشعر أنك انتقلت من مكانك على مقعد صغير في جنته المريحة، ستظن أنه يصنع لك شاياً فقط، بينما يذيب بعضاً من طاقته الإيجابية لتمتلئ بها وترحل وأنت أكثر جرأة على مواجهة الحياة.

لهذا السبب لن يفوت زائرو الإسكندرية لقاءه، أما شبابها فيعتبرونه الأب الروحي، الحارس الليلي على أحلامهم الكثيرة، يذهب ليحتفل معهم  بصدور كتاب جديد، أو ميلاد فيلم قصير، فيسعدون لمشاركته ويسعد بهم،  يكتشف المواهب ويحتفي بها كمن يرى اللؤلؤة والصدفة مغلقة.

لن يقول لك جملة سمعتها قبلاً، كل ما يقوله هو حروف طازجة خبزها من أجلك في نفس اللحظة وراقب بخاراً ناعماً يتصاعد دون أن يلحظ أحد.

حين سألني أن أكتب في عدد المجلة عن الخيال، قلت له: لا أعرف كتابة السرد. 

قال في ثقة: ستعرفين .

منذ هذا الوقت وكلما ابتعد الشعر أسحب ورقة صغيرة وأتذكر “ستعرفين”.

أذهب اليه بالديوان الذي كتبته على عجل منذ سنوات، لا أخجل مع علاء من مخطوطاتي البدائية، سيقرأه ولسان حاله يقول: “وحش جداً” ولكنه يختار جملاً أخرى تفتح الطريق لإعادة الكتابة بدون أن تتسرب قطرة إحباط واحدة. 

كما يحب دائماً أن يفتح النوافذ بين الأصدقاء. يقول: هل تعرفين اسلام العزازي.. عبد العزيز السباعي.. عبد الرحيم يوسف. وفي جلسة ليلية على البحر سيراقب كيف تنسج الصداقات خيوطها الأولى من بكرة ملونة فيٍ يديه، سيحرص أن تمتد شبكات المحبة من القاهرة إلى الإسكندرية لأن المدن كائنات تحب وتكره وتتألم وتزاحمنا الذاكرة.

“إنها أشياء تحدث”. يقولها علاء حين انسكب الزيت الساخن على إحدى يديه في إقامة ألمانيا واحتاج بعدها لعلاجات طويلة. يجيبك عن آلامه المبرحة  في أزمته المرضية الأخيرة بابتسامة، فتظن أنه مجرد ألم خفيف ينتقل بهدوء من مكان لآخر، فالغضب مسموح به فقط لمواجهة الزيف والكذب وكل ما دون ذلك سنتحمله وسيمر كما مرت من قبله أشياء كثيرة.

أما بعد قراءة أعماله ستعلم أن العالم يمتلئ بالدفء، وأننا هناك بين السحب وفوق الأشجار وخلف كل العيون المارة بالشوارع، ستقرأ لعلاء لتكتشف أية حياة مهدرة خلف الصغائر والمعارك العقيمة، فتزيل الغبار عن قلبك وتستعد للمشي بخفة أكثر، ستعرف أن هذا العائق الخشبي الذي تحدق به منذ الأمس سيلتهم فرصتك في أن تتذوق حياتك وتسعد بها، فتقوم فوراً لتنحيه جانبا وتقلد هذا المشّاء .

ستعرف علاء، فتحب الكواء وبائع السوبيا وبحري وبولكلي والمرأة التي جفت يداها من الغسيل، ستحب صيادين  قرية المكس وأميرة فتاة المشغل الرقيقة هناك، رحلات رشيد وانتقاء الأسماك بيد مدربة، ستحب السنديانة في فيلا قديمة واسم سلوى لأنه ينطقه بفرادة، ستحب سهرة في إيليت والبساريا المقلية في النادي اليوناني القديم، ستحب المراهق المعاق الذي يعبرك يوميا ولا تبالي بابتسامته الصافية، ستحب رائحة البحر وتتذكر لون  الطلاء في كل الأمكنة التي مررت بها.   

أتركه وأنا أرى اندفاعاً ضاحكاً من تلاميذ المدرسة القريبة نحو الجاليري، ألتفت خلفي لأجد علاء يقدم لهم المياه الباردة لمقاومة عطش منتصف النهار، لوحت له بيدي فرفع يداً مبللة لرد التحية.

 

عودة إلى الملف

  

مقالات من نفس القسم