المسلسل المغربي “مرجانة”.. استعادة الأدب ضمن الدراما

المسلسل المغربي مرجانة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

خالد البقالي القاسمي

     أصبحت المسلسلات التلفزيونية التي تندرج في إطار الأعمال الدرامية الموجهة تطغى كثيرا على مجال السينما، حيث تستطيع هذه الأعمال الفنية التسلل بسهولة إلى البيوت، وتستطيع أن تقدم نوعا من الإقناع للمشاهدات والمشاهدين بكونها تمثل بعضا من تطلعاتهم، وطموحاتهم، وآمالهم، وذلك استنادا إلى تنوع هذه المسلسلات وتعددها، وقدرتها على تمثل الهموم الإنسانية في صورها المختلفة.

     المسلسل المغربي “مرجانة”، سلسلة من أربع حلقات، تم تقديمه في شهر رمضان، واستطاعت هذه السلسلة رغم حلقاتها القليلة من العمل على جذب عدد كبير من المشاهدين، والمهتمين، والمتتبعين، ويعود الأمر إلى الحكاية المشوقة التي اشتغل عليها المسلسل، كما يعود الأمر إلى السيناريو المحكم الذي كتبه وأعد حواره المبدع الروائي المغربي والعربي والسيناريست البشير الدامون، كما أن عملية إخراج المسلسل التي اضطلع بها المخرج المغربي المقتدر محمد الشريف الطريبق استطاعت أن تنفذ إلى أسرار العمل سواء في صيغته الأدبية الروائية، أو في صيغته النهائية المعدة للتصوير عبر استثمار السيناريو.

     مسلسل “مرجانة” مقتبس في الأصل من رواية “أرض المدامع”، حيث قام مبدعها وكاتبها “البشير الدامون” بالاشتغال عليها فأعد انطلاقا من استلهامها سيناريو وحوارا للمسلسل، وهنا تبرز موضوعة علاقة الأدب بالإنتاج السينمائي أو بالإنتاج الدرامي، بمعنى تحويل الأدب في صورته الجمالية المكتوبة إلى صور فنية ناطقة، متحركة، معبرة، نفاذة إلى عمق المقصود والمطلوب، “البشير الدامون” روائي بارز في المشهد الأدبي العربي والمغربي، استطاع أن يراكم عددا من الإنجازات الروائية، والترجمات، والأعمال الدرامية، وتعتبر رواية “أرض المدامع” الرواية الثانية في مسيرة المبدع الناجحة، وقد آثر الاشتغال عليها من أجل استلهامها في كتابة سناريو مسلسل ” مرجانة “، وكان موفقا في مهمته بدرجة كبيرة، بسبب خبرته في كتابة السيناريو، وبسبب بصماته الإبداعية الحكائية التي يتميز بها. ويعتبر هذا العمل من الأعمال التي تضاف إلى سيرته الذاتية، حيث كرس بواسطته مبدأ تحويل الأعمال الأدبية الناجحة إلى أفلام سينمائية، أو مسلسلات تليفزيونية. ويعتبر النقاش حول هذا الموضوع متشعبا، وطويلا، ويكفي أن نؤكد على أن العمل الأدبي الذي يكون موفقا  بشهادة النقاد والمختصين في تفكيك النصوص، يكون مؤهلا بنسبة كبيرة للغاية لكي يسهم في إنتاج عمل فني مبني على مختلف الوسائط التي تشتغل على ثقافة الصورة.        

     البطاقة التقنية للمسلسل يمكن تحديد بعض مكوناتها حسب الآتي:

  • عنوان المسلسل: مرجانة.
  • إخراج: محمد الشريف الطريبق.
  • سيناريو وحوار: البشير الدامون عن روايته ” أرض المدامع “.
  • إنتاج: الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة بالمملكة المغربية سنة 2020.
  • تنفيذ الإنتاج: ماتريس ميديا.
  • مدير الإنتاج: الحسين الملكي.
  • مديرة التصوير: كريكوتا بينسارو CRIGUTA PINZARU.
  • مهندس الصوت: محمد برادة.
  • موسيقى: أحمد الفقير.
  • ميكساج الصوت: يوسف الصديقي.
  • ديكور: مصطفى الولانتي.
  • توضيب: مصطفى آيت سي حمو – سليمان شلح.
  • تصحيح الألوان: مصطفى آيت سي حمو.
  • المكياج: بديعة فهيم.
  • تصميم الملابس: هاجر المختاري – عهدة ركوت.    

     ونستطيع التعرف على أهم الأدوار التشخيصية التي لعبها طاقم تمثيلي مغربي حسب الآتي:

  • الحاج عبد الحق: الفنان محمد خيي.
  • الحاجة رقية زوجة الحاج عبد الحق: الفنانة حنان بنموسى.
  • أحمد ولد الحاج عبد الحق: الفنان عبد السلام بوحسيني.
  • أحمد ولد الحاج عبد الحق طفلا: الطفل ريان القاطي.
  • عبد الجبار أخو أحمد: الفنان محسن دهري.
  • عبد الجبار أخو أحمد طفلا: الطفل محمد أمين الدامون.
  • مرجانة: الفنانة سناء بحاج.
  • مرجانة طفلة: الطفلة شذى بنحمر.
  • عيشة خادمة الدار الكبيرة: الفنانة زهور السينمائي.
  • با خلافة ( بتسكين الخاء ): شيخ الطريقة الكناوية، وعاش في كنف الدار الكبيرة.  
  • عدد من الممثلين الآخرين، بالإضافة إلى الكومبارس.

الحلقة الأولى: العودة المحبطة

     من الوهلة الأولى يبدو المسلسل واعدا، فمن خلال تتبع حلقته الأولى تظهر معالم عمل يغري بالتتبع والمشاهدة، حيث تترى في سياق مشاهد ولقطات الحلقة الأولى مجموعة من الحكايات التي يظهر أن المخرج المقتدر ” محمد الشريف الطريبق ” أراد أن يدفع بها لكي يقنعنا بأنه بصدد الاشتغال على إنجاز فني جدير بالاهتمام، ولذلك قدم لنا بواسطة حركة الكاميرا المتقنة فضاء مؤثثا بحكايات مختلفة، نستشف منها أن بعضها خلفية، مضمرة، مخفية، وغير ظاهرة. وحكايات أخرى تتصدر واجهة المسلسل، فهي إذا أمامية، ظاهرة، ومصرح بها. والحال أن المسلسل يشي بكون كل شخصية تلعب دورا مهما تعتبر حكاية في حد ذاتها، وتقاطع مصيرها مع الآخرين هو الذي يشكل أرضية المسلسل، ويصنع فنيته، وجماليته، وإثارته.

     ثم هذا الإحساس المفعم بالفضول الذي يجعلنا نستنشق جوا غير طبيعي في مجريات الأحداث، إحساس يغوص بنا في عمق الشعور، ونوع التواصل القائم بين الشخصيات، ويتجاذبنا لكي نترصد انتظار حدوث مفاجأة مثيرة هي التي تسند العمل وتوجهه، هناك أسرار كامنة في عمق حياة الحاج ” عبد الحق ” وعائلته، كما أن الدار الكبيرة الفخمة تطوي في أرجائها، وجنباتها أسرارا أخرى لا تقل قيمة عن أسرار العائلة، وهذه الأسرار التي تحس بسريانها ضمن لقطات المسلسل ومشاهده هي التي صنع بها كاتب السيناريو والمخرج جمالية العمل، وجاذبيته الفاتنة، وهنا يكمن المنشود المنفلت، أي سؤال الكيف؟ كيف استطاع المبدعان إنتاج ثقافة ناجحة للصورة انطلاقا من ثقافة مكتوبة كرست نجاحها وانتشارها؟    

     ينطلق المسلسل بمشاهده الأولى بصيغة حركية موحية، ” أحمد ” يقف أمام إحدى الأبواب التاريخية للمدينة العتيقة، وهو يتأمل السور الكبير الذي يلف الباب من الجانبين، ويتلفت وراءه محدقا في الناس الذين يمرون بقربه، يبدو وكأنه يحاول البحث والاستكشاف عن شيء أو أشياء، وعلى أساس البحث والاستكشاف سوف تبنى معطيات المسلسل… ويعتبر هذا المشهد الأول لحظة فارقة في تقديم المسلسل، لأن هذا المشهد هو الذي سوف يتحكم في جميع أحداث الحلقة الأولى، حيث كلما توقفنا عند كل مشهد على حدة سوف نجد بوضوح بأن صورة الشاب “أحمد” لها حضور بارز، وتأثير ملحوظ في بناء مجرى العلاقات والتواصل بين شخصيات المسلسل.

     وأعتقد بأن المخرج “محمد الشريف الطريبق” فكر طويلا وهو بصدد إعداد المسلسل للعرض في العتبة التي سوف يلج بها بيوت المشاهدين، ويجلب انتباههم، محدثا إياهم عن ملحمة الدار الكبيرة، ومقنعا إياهم بأن مصير “أحمد” في صلته مع باقي الشخصيات له كامل القدرة على خلق الفرجة الجميلة، والمتعة المثيرة.

     يتابع “أحمد” تحركه، ودورانه داخل فضاء المدينة العتيقة بين أسوارها وأبوابها، وهو يتأمل كل الناس والأشياء باهتمام ولهفة، يصل أمام باب منزلي أصيل، إنها الدار الكبيرة حيث سكن العائلة، بابها مرصع بمجموعة من الحلقات النحاسية اللامعة صعودا وهبوطا، أفقيا وعموديا، مما يشي بنوع من اليسر في الحياة، وتتوسط هذه الحلقات “الخرصة” النحاسية الكبيرة التي تعتبر الفاصل الأساسي الذي يمثل ضمير الباب والعائلة معا في المدينة العتيقة، هي التي تعتبر مركز التواصل بين الخارج والداخل، اختلاف صوتها في حركتها هو الذي يدل على لغة الباب في فتحه وإغلاقه استئذانا في الدخول وتوديعا في الخروج.

     ينفتح الباب، حركة فتحه تدل على نوع من الخشوع الحضاري، حركة فتحه فيها دلالة على السمو والرفعة، تحس أن الباب يرفع هامته في شموخ مستعدا لاحتضان طارقه بكل فرح وترحاب. ثم يغلق الباب، حركة الإغلاق هي غير حركة الفتح، ففي الفتح انبساط وفرح وحبور، وفي الإغلاق انكماش وتجهم وإعراض، حركتا الفتح والإغلاق لهما تأثير بالغ في توجيه مجرى مفهوم البحث والاستكشاف في المسلسل، لأنه انطلاقا من باب البيت الكبير سواء عند الدخول إليه أو الخروج منه تتحدد الأسرار والحكايات التي ظلت مكنونة طويلا في تاريخ الدار الكبيرة… بيت العائلة.

     يلج “أحمد” الدار الكبيرة وتستقبله خادمة العائلة الوفية “عيشة” التي سوف تبدأ في الصياح معلنة وصول الإبن، فتهب أمه “الحاجة رقية” مسرعة، متلهفة، مبتهجة، لملاقاته والترحيب بقدومه، عند هذا المشهد سوف نفهم بأن “أحمد” كان مسافرا لمدة طويلة بالديار الإسبانية من أجل الدراسة، “أحمد” بعد دخوله إلى الدار لم يستقر طويلا، إذ بمجرد ما سلم على والدته هب مسرعا إلى الخارج.

     يسجل سياق المسلسل هنا بداية بروز الأسرار، بروز المخفي بين حدود الدار الكبيرة، وبين أزقة ودروب المدينة العتيقة، سياق المسلسل يزيد في تعميق الشوق إلى البحث والاستكشاف، ويزيد في إحاطة الأسرار بمزيد من الصيانة والاحتضان والتأجيل، فهو لا يتسرع في البوح، ويترك الأحداث تنبئ عن نفسها في وقتها المحدد.

     وصل “أحمد” أمام بيت مغلق وتأمله برهة وهم بطرقه ثم تراجع عن قراره وعاد أدراجه إلى الدار الكبيرة، ترى ماذا يخفي ذلك الباب وراءه؟ لقاؤه عند عودته مع أبيه ” الحاج عبد الحق ” وأخيه ” عبد الجبار ” تركز فيه الحديث حول الحزب السياسي الذي ينتمي إليه الإبنان، وعدم رضى الوالد عن هذا الحزب، وإصرار الحاج على ضرورة تزويج ” أحمد “.

     شموخ الدار الكبيرة يبرز ساطعا بتاريخ حافل عبر اللقطات التي تدور حول جنباته من عل، من فوق، تعمل هذه اللقطات على توضيح قوة وصمود الدار الكبيرة أمام جبروت التاريخ والزمن، كما توضح جلال وبهاء الفن المعماري الأصيل، وبالتالي تعمل هذه اللقطات على إقناعنا بكون الأسرار الخبيئة في ثنايا وزوايا الدار الكبيرة هي وحدها الجديرة بتسطير جميع لحظات ومشاهد هذا المسلسل.

     لقد كانت هذه الحلقة الأولى منطلقا لبسط المعطيات التي من شأنها دعم وإسناد الحلقات اللاحقة، في هذه الحلقة عمد المخرج وكاتب السيناريو إلى إفشاء الأسرار تباعا، تلك التي حولها سوف يشتغل ويدور العمل بكامله، حيث يظهر ” أحمد ” وهو يكن المودة والحب للصبية ” مرجانة “، حفيدة ” با خلافة ” الذي عاش طويلا في كنف العائلة، يخدمها ويرعى حماها، وكان يسكن مع زوجته وحفيدته في بيت ملاصق للدار الكبيرة، وبسبب رفض الحاج لاختلاط ابنه مع ” مرجانة ” قرر أن يهب لخادم العائلة شيخ الطريقة الكناوية سكنا بعيدا لكي يعمل على دفع ابنه لقطع علاقته بالبنت الصغيرة، ويعتبر هذا الأمر أول أسرار الدار الكبيرة، حيث لم يسقط ” الحاج عبد الحق ” إلا في الوهم الخادع، لأن عودة ” أحمد ” كانت منصبة على التفكير غير المنقطع في رفيقته الصغيرة التي أصبحت شابة مليحة، ولذلك ذهب عند وصوله مباشرة لتأمل الباب المغلق الذي يخفي وراء جنباته ما يحبه ويهواه.

     هذا السر الذي ظل مطويا في الصدور والذي لا يعلم به إلا القليلون، سوف يكون الأرضية الخلفية لباقي الأسرار التي تشكل ذاكرة الدار الكبيرة، إذ إن ” با خلافة ” شيخ الطريقة الكناوية كان ملتزما بإقامة الليالي الكناوية في بيته، وكان ” أحمد ” متعودا على حضورها بحكم انجذابه إلى أسرة شيخ الطريقة، وسوف تكون الليلة التي عرضها المسلسل في حلقته الأولى حاسمة في توجيه مجرى الأحداث، وبناء المشاهد.

     في هذه الليلة سوف يبوح ” با خلافة ” لسليل العائلة العريقة بسر خطير للغاية يتعلق بوجود ” كنز ” مخفي في زاوية من زوايا الدار الكبيرة، ويبدو شيخ الطريقة واثقا جدا من كلامه وهو يسرده على ” أحمد ” بينما يتبادلان معا تدخين ” حشيشة الكيف “، يقول ” با خلافة ” بأن أمر الكنز قديم للغاية، وحدث الأمر في عهد الحاكم الروماني ” كاليكولا “، فقد قام الملك ” بطليموس ” وزوجته في شمال إفريقيا بجمع الكنز من أجل تكوين الجيش قصد الاستقلال عن الرومان، لما علم ” كاليكولا ” بالموضوع أرسل جواسيسه لكي ينقلوا إليه الأخبار فلم يستطع أحد أن يطلع على الحقيقة، جرد ” كاليكولا ” حملة عسكرية وقبض على الملك ” بطليموس ” وقتله، فعمدت زوجته ” أورانيا ” إلى إخفاء الكنز الذي ظلت أسراره تنتقل بين أجيال العبيد حتى وصلت أخيرا إلى أسرة ” با خلافة “، وبما أن العائلة وعلى رأسها ” الحاج عبد الحق ” لا تؤمن بهذا الهراء فإن أمل شيخ كناوة ظل معلقا بسليلها ووريثها الشاب لكي يشاركه رحلة البحث عن الكنز المدفون في زوايا الدار الكبيرة.

     لقد كانت اللقطات الخاصة بالليلة الكناوية، وبالإعلان عن أسرار الكنز موحية بمدى الأهمية التي تكمن في أجواء الليلة الروحانية، وبمدى قدرتها على التأثير في الشخص وسلبه كل حرية في التفكير ومراجعة الأمور، وكان ” با خلافة ” حسب سياق المسلسل ذكيا وبارعا في اختيار اللحظة المناسبة التي أقدم فيها على إفشاء السر الثقيل الذي حمله أجداده جيلا بعد جيل لمدة طويلة جدا، فقد اغتنم في ” أحمد ” ثلاث لحظات:

  • اللحظة الأولى: تنظيم الليلة الكناوية على شرفه، وهي ليلة اعتاد ” با خلافة ” بحكم مشيخته على إقامتها بحضور ” أحمد “. وكناوة أو غناوة عبارة عن إرث إثني بمنطقة المغرب العربي، وهم ينحدرون من سلالة العبيد الذين تم جلبهم من إفريقيا الغربية في أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وتعتبر مدينة ” الصويرة ” بالمملكة المغربية المقر الأعلى، والمقام الروحي المقدس لمجموعات كناوة. ويتم الاحتفال بمهرجان كناوة وموسيقى العالم كل سنة بالمدينة في شهر يونيو من كل عام، يحضره كثير من المهتمين بالثقافة والموسيقى الروحية الكناوية وخصوصا الفنانون العالميون الكبار. تتميز الليلة الكناوية بالرقص الكثيف المتواصل على إيقاعات وأهازيج الدقات القوية للطبول و ” القراقب “، وكذلك ” الكنبري والهجهوج ” لإنتاج موسيقى مثيرة للوجدان وعمق الباطن النفسي، قوية جدا، وصاخبة، فيها كثير من ظلال الأساطير والمعتقدات القديمة التي اختلطت بالإرث الإفريقي والبربري والعربي، يقوم كناوة خلالها بالرقص رقصات انفرادية، ثم رقصات جماعية من طرف أربعة كناويين… وهذا بالضبط ما كان يحتاجه ” با خلافة “، أي الاستمرار في إقحام ” أحمد ” في هذه العوالم المبطنة بالروحانيات القوية حتى يستطيع ترويضه، ومن ثمة تشغيله في تفعيل أحلامه التي ورثها عن الزمن القديم.           
  • اللحظة الثانية: ذهوله وافتتانه وهو ينظر إلى ” مرجانة ” وهي ترقص متموجة، نشوانة بإيقاع الدقة الكناوية المفعمة بالرهبة، والمصاحبة بالبخور والروائح النفاذة، هذه الصورة جعلته يعود سريعا إلى الوراء لتذكر اللحظات الجميلة التي قضاها في اللعب مع الصبية، مع إصرار ” الحاج عبد الحق ” على إبعاده عنها، وإصراره هو في المقابل على التوغل في حبها.                                                  
  • اللحظة الثالثة: إغراقه في كم هائل من دخان ” حشيشة الكيف ” التي اشتاق إليها ” أحمد “، وإقباله على تدخينها بشراهة حتى سقط متهالكا ولم يدر بحاله إلا عندما استيقظ صباحا على حركة محبوبته ” مرجانة ” وهي تتأمله بعد أن حملت إليه صينية طعام الفطور.

     هذه اللحظات الثلاث يمكن أن نعتبر حسب سياق المسلسل أنها كانت فارقة في تحديد مجرى مصير ” أحمد ” عبر الأحداث اللاحقة، ثم يجب أن نهتم كثيرا ونحن ندقق النظر في مجريات وحركات وطقوس الطريقة الكناوية بمحاولة ” با خلافة ” اللصيقة لاستثمار إقبال وتقرب ” أحمد ” من أسرته لكي يمرر خططه، وهي التي يمكن التعامل معها وفق زاويتين:

  • الزاوية الأولى: يريد شيخ كناوة تحقيق مجد كبير بتمكنه من الوصول إلى الكنز، وتأكيد جدارته على أجيال العبيد قبله الذين عجزوا جميعا عن الوصول إليه، ومن ثمة إثبات الحقيقة الفعلية التاريخية التي لا تدع مجالا للشك في أن ” بطليموس وأورانيا ” قاما بدفن كنز وفير في مكان ما، دلت العلامات المقيدة التي دونها العبيد بأنه داخل الدار الكبيرة. لا يلتفت ” با خلافة ” بتاتا إلى جانب الأسطرة في الموضوع، بل يظل همه مركزا في أن يكون هو وأسياد الدار الكبيرة الموعودين بالكنز أسرع وأسبق في استخراجه. إنها ثقافة المبارزة، وقيم الفروسية التي تدعو إلى التدافع ولو بطريقة هوجاء، غير محسوبة العواقب.      
  • الزاوية الثانية: وتظل محتملة في تفكير الشيخ، وهي الانتقام من الحاج لأنه كان يعمد إلى تحقيره في كل لحظة، خصوصا عندما كان يجد ” أحمد ” يلعب ويلهو مع ” مرجانة ” وهما صغيران في السن، وزاد جرحه عمقا، وظل ينزف لفترة طويلة عندما قام الحاج بإبعاد شيخ كناوة وأسرته من السكن في محيط البيت الكبير، ولم يشفع له أنه كان وأسرته دائما في خدمة العائلة العريقة، وحمايتها، وصيانتها من كل سوء، فقد ظل هذا الإبعاد يصيب الشيخ بألم نفسي فظيع، ولذلك بقي يرنو في كل مرة إلى تسجيل عودته المحبطة إلى الدار الكبيرة، وهذا واحد من الأحلام الكبرى التي ظلت تداعب ” با خلافة ” لزمن طويل، و ربما الآن سنحت الفرصة لكي يحقق هذه العودة للتنقيب عن الكنز مع ” أحمد “. لقد كان همه هو أن يعود إلى الدار الكبيرة، فقط أن يعود، حتى ولو كانت نتائج البحث عن الكنز الموعود غير مضمونة.  

     مخرج المسلسل كان ذكيا في تسجيل نهاية الحلقة الأولى، بحيث كان موفقا في تحقيق نوع من التقابل المنسجم بين العتبة أو المدخل وبين النهاية، عتبة الحلقة الأولى من المسلسل تطلع علينا بعودة ” أحمد ” من الديار الإسبانية، وهو قلق، ومتوجس من القادم، وحذر من كل شيء، حتى من الناس الذين يمرون قربه بأزقة المدينة العتيقة، وكأنه غريب عن الديار…

     قفلة الحلقة الأولى توقف فيها المخرج عند مقابل ” أحمد “، عند محبوبته، وهي في خدرها تحس بنوع من الفرح، والنشوة، وهي تردد في ذهنها كلام حبيبها المعسول الذي ألقاه على مسامعها عند شاطئ البحر. لقد عوض المخرج بلقطاته الموحية والناجحة إحباط أحمد في عودته، بالأمل الذي تم تسجيله في شكل ابتسامة على شفتي ” مرجانة ” وهي تستعد للنوم والحلم بغد أفضل.

الحلقة الثانية: الدار الكبيرة تترنح

     مع بداية الحلقة الثانية شرعت الفقاعات في البروز تباعا وبشكل متسارع، بدأ المخرج يتجه نحو تفجير الصراعات التي سوف تنتج الدراما وتصل بها إلى درجة قصوى من أجل خلق الفرجة والمتعة، صدامات متعددة، واهتزازات تطال حياة الجميع، ويبدو أن السياق وصل إلى درجة عالية من الغليان مما أصبح ينذر بحدوث مشاكل ومفاجآت سيكون لها بالغ التأثير على توجيه مجرى الأحداث.

     الأحداث التي بدأت تتطور بسرعة كبيرة عملت على تجلية بعض الحقائق التي لها علاقة بأسرار خاصة مرتبطة بحياة شخصيات المسلسل، فجأة نجد ” عبد الجبار ” الأخ الأصغر ينتفض ضد أبيه الحاج، وينعته بنعوت سلبية تنتقص من قدر احترام الإبن لأبيه، فقام الحاج فورا بطرده من الدار الكبيرة التي بدا أنها تترنح من وقع هذه المشاكل، الإبن الأصغر لم يقف عند حد انتقاد أبيه فقط بل قام بإفشاء السر الذي ظهر أن الجميع يعرفه، وهو سيرة ” الحاج عبد الحق ” مع رفاقه عندما كانوا يقيمون سهرات للمتعة، والمؤانسة، والسمر، والغناء في إحدى الغرف الخلفية للدار الكبيرة.

     كشف السر الكبير أظهر أن الأمر لم يكن أبدا في يوم من الأيام سرا، ” أحمد ” يعرف ذلك جيدا منذ أن كان صغيرا، والصغيرة ” مرجانة ” هي التي أطلعته على الموضوع، وشاهد معها  مباشرة بعينيه كيف كان ” الحاج عبد الحق ” يقيم ليالي الأنس لأصدقائه في بيته، ولقطة المسلسل التي صورت مشهد ” عبد الجبار ” وهو في سورة غضبه على أبيه يبوح بجميع الأسرار أظهرت بطريقة بارعة فيها إيماء وتلميح كيف أن ” الحاجة رقية ” مطلعة على جميع تفاصيل غزوات الحاج الليلية، ولكنها امرأة عاقلة، لقد وضعت يدها على فم ابنها ” عبد الجبار ” لكي تمنعه من فضح المستور كليا. بدا الحاج مكشوفا أمام أسرته فقابل الموقف لمداراة خيبته ومرارته بمزيد من الغضب والعنف، فكانت النتيجة قيامه بطرد ابنه الأصغر من الدار الكبيرة.

     عمق المسلسل في هذه اللقطات الجديدة من جراح ” الحاجة رقية “، فهي بطيبوبتها المفرطة، وحنانها الفياض كانت تبذل كل ما بوسعها لكي تحافظ على تماسك الأسرة، وتعرف منذ القديم سلوك الحاج في الإقبال على المتع الرخيصة داخل الدار الكبيرة، ولكنها كانت شخصية قوية بصبرها وتحملها، فطوت جوانحها على السر الفاضح ولم تخبر أحدا بذلك، مع العلم أن الأمر كان معروفا للجميع. أحست ” الحاجة رقية ” بأن الدار الكبيرة بدأت تترنح بخروج ابنها الأصغر مطرودا.

     اهتزاز الدار الكبيرة لم يقف عند هذا الحد، خروج الإبن الأصغر من الدار الكبيرة بعد إقدامه على التحدي الخطير الذي واجه به والده ” الحاج عبد الحق ” دفع الإبن الأكبر إلى ركوب الصعب، حيث قرر مهما كانت النتائج أن يواجه والده برغبته الأكيدة في الاقتران  ” بمرجانة “، وهو الأمر الذي لم يستسغه الحاج بتاتا معتبرا أن ابنه يريد أن يقحمه في مصاهرة ” العبيد وأبنائهم ” الذين كانوا يخدمون أصحاب الدار الكبيرة، فكانت النتيجة مزيدا من التصدع، ” أحمد ” يصر على موقفه، والحاج لا يتردد إطلاقا، يقوم بطرده هو الآخر. الدار الكبيرة تترنح، وتبدأ في التصدع، وقلب ” الحاجة رقية ” ينفطر، ويسكنها الهم والقلق.                      

     إن الفرضية التي سبق أن طرحناها في تتبع الحلقة الأولى والتي صادرنا خلالها على أن شيخ كناوة ” با خلافة ” يضمر في جوانحه حقدا دفينا  ” للحاج عبد الحق ” الذي كان يمعن في تحقيره مع أسرته، وقام بطرده من سكنه في الدار الكبيرة، يبدو أن ملامحها تتحقق في الحلقة الثانية، حيث لم يتردد الشيخ في قبول خطبة ” أحمد ” لحفيدته، بل وأسهم معهما بكل حماس، وهمة ونشاط في إتمام مراسيم الزواج بإقامة حفلة خاصة، رغم أن الشيخ يعلم جيدا الرفض القاطع الذي يكنه ” الحاج عبد الحق ” لهذا الزواج، ولكن الفرصة كانت ذهبية بالنسبة لشيخ كناوة، فلم يضيعها بتاتا، هي فرصة لسلب الحاج أعز ما لديه، ليس فقط ابنه، بل حتى نسبه.

     بزواج الشابين أصبح “با خلافة” صهرا رسميا للحاج، بمعنى لم تعد هناك فوارق بينهما، لا مجال هنا للحديث عن الأسياد والعبيد، الكل سواسية، ولذلك كان هذا الزواج هدية لا يمكن تصور حلم أبلغ من وقعها وقيمتها، لقد انتصر شيخ كناوة على الحاج سليل الحسب والنسب، وحقق بعضا من رغبته في الانتقام.               

     صراع آخر مهم قام المخرج ببناء لقطاته بطريقة مثيرة فيها خوف وتوجس، صراع تم تفجيره في هذه الحلقة الثانية من أجل تعميق الخط الدرامي التصاعدي للمسلسل، يمكن القول إن هذا الصراع له خصوصية، تكفل المخرج بتصريف مكونات السيناريو فيه عن طريق تقديم مشاهد ولقطات تحمل بصمات الأشرطة البوليسية، ضغوطات العمل السياسي تلقي بثقلها على حياة المناضلين من أجل العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية، حيث أصبح الحزب الذي ينتمي إليه ” أحمد ” وأخوه والأصدقاء هدفا لمضايقات مستمرة من طرف الأحزاب المنافسة التي تريد أن تنفرد بالساحة السياسية مكرسة بذلك هيمنة الصوت الوحيد، ومسهمة في إقصاء جميع الطاقات الحية  ومنعها من تحقيق التطور، والتقدم، والانفتاح.

     سوف يمعن المخرج في تشويقنا عندما سيقدم لنا لقطة مفتوحة على كل الاحتمالات تمت فيها عملية اختطاف ” أحمد ” ليلا في الشارع العام من طرف شخصين قويين وصلبين، قاما بشحنه داخل سيارة سوداء اللون، مما يذكرنا بأساليب عصابات المافيا، وأساليب زوار منتصف الليل، لون السيارة الأسود يشي بذلك، كما أن طرازها يدل على استحضار مفهوم الزمن في المسلسل الذي ظل لدينا مغيبا، طراز السيارة يدلنا على أن الزمن ينحصر تقريبا في فترة الستينيات، وهي فترة كانت تعرف انفلاتا أمنيا، وضعفا تنظيميا، وعجزا عن حماية الناس في أرواحهم وممتلكاتهم، نحن الآن نعيش تقريبا بصيغة نسبية متفاوتة فترة استقلال الدول العربية عن الاستعمار، ولذلك كان الحزب المنافس يقوم بممارسة عربدته جهارا، أمام الجميع، وسط الشارع العام.

     المفاجأة الكبرى هي أنه لما تمت عملية اختطاف ” أحمد ” اقتيد إلى مكان مجهول داخل بيت غير واضح المعالم، وقام الخاطفون بتعذيبه نفسيا وجسديا، استطاع الشاب أن يتحمل بعضا من التعذيب، ولكنه أصيب بالذهول واستغرق في ضحك هستيري عندما سأله رئيس الحزب المناوئ عن الكنز الموجود في الدار الكبيرة، أصيب ” أحمد ” بنوع من الاستغراب الشديد، إذ في الوقت الذي كان ينتظر فيه من رئيس الحزب أن يحدثه عن ظروف اختطافه وتعذيبه…، إذا به يطلب منه الإدلاء بحقيقة الكنز في بيت الحاج؟!

     نستطيع أن نؤكد هنا على المفارقة التي تظهر واضحة للعيان في ثنايا المسلسل، وهي مفارقة تعطي الانطباع الواضح بأن كاتب السيناريو مع مخرج المسلسل أرادا أن يمزجا بين الجد والهزل، بين المعقول والعبث، بين الحقيقة والأسطورة، والأمر هذا يسهم في إثارة التفكير، ويدفع لتعميق التساؤل حول هذه الصيغة في التقديم والعرض، ويبدو أنها صيغة مقصودة يمكننا نحن أن نقرأها وفق الآتي:

  • الأسطرة التي يركز عليها المسلسل تدل على أن الفكر الخرافي السحري المفارق متجذر في الذهنية العربية، ولا يظهر في الأفق أن العربي سينحاز بجدية للجانب العقلاني في التفكير، وتحليل الأمور، والنظر إلى الأشياء.
  • رئيس الحزب يبرهن على أنه وضع في مكانه من أجل إنجاز برنامج مخطط، ومكوناته معدة سلفا، لذلك يظهر في لقطات المسلسل مسلوب الإرادة، وغالبا تكون صورة مدبري الأحزاب السياسية عندنا قريبة من هذا النمط.
  • حوار رئيس الحزب مع ” أحمد ” يبين النزوع الاستبدادي والإقصائي الذي تتميز به الأحزاب السياسية لدينا، مع وجود استثناءات نادرة.
  • حضور الانتهازية يعتبر طاغيا في هذا المشهد، رئيس الحزب لا يهتم بتاتا بمصير الشاب أو بما يقع، هو فقط يهتم بالكنز الذي سلب لبه. ونحن نلاحظ أن نسبة كبيرة من منتسبي الأحزاب بمن فيهم القادة لا ينظرون إلى العمل الحزبي إلا من زاوية المكاسب المادية والمعنوية، واغتنام الفرص للاستحواذ على الامتيازات والتعويضات المادية. ويمكن أن نعد الكنز في مفهومه الرمزي فرصة حزبية للتطلع إلى التملك والحصول على مأذونيات النقل، ورخص مقالع الرمال والحجارة، ورخص الصيد في أعالي البحار، وتأسيس الشركات، وامتلاك الأسهم والأصول في المؤسسات المالية والتجارية والصناعية، وتملك الأراضي العقارية بأثمنة رمزية بخسة، وتمتيع الأهل والمقربين بمناصب الشغل بسخاء…    
  • يدل المشهد كذلك على أنه يكفي أن يكون للشخص ولاء ثابت، وليس بالضرورة صادق، لكي يتربع على كرسي تدبير الحزب، والواقع يبرهن على صحة هذا، لدينا عدد من رؤساء الأحزاب يحتاجون لدروس محو الأمية السياسية، حيث شرط المعرفة والثقافة لا ضرورة لهما في هذا الإطار.         
  • العنف الرمزي والفعلي لهما حضور ملموس في أساليب عمل الأحزاب السياسية، يكفينا استحضار فترة الانتخابات التي يسود فيها قانون الغاب، والتي تكون فيها الغلبة دائما للقوي بماله أو أتباعه.    

     اجتمعت في شخصية ” الحاج عبد الحق ” كل خصائص الإنسان العنيد الذي يعتبر صورة نمطية أمينة مخلصة لزمنها، حيث لا يمكن أن ننظر إلى هذه الشخصية من زاوية الإدانة، أو المحاكمة، فهو كائن يعيش فترته ويظل محافظا على الهالة البطريركية التي تهفو نحو الهيمنة المطلقة، وتسعى نحو تقليص مساحة الحرية لدى المقربين منه، لا يمكن أن نتصور الحاج إلا بهذه الصورة الدقيقة التي قدمه بها المسلسل، عنفه بلغ درجة قصوى جعلته يقدم بدون أدنى حرج أو ندم على طرد ابنيه من الدار الكبيرة واحدا بعد الآخر، لأنه أحس بنزوعهما نحو تشغيل حيز الحرية الذي بدأت ملامحه تسود في حياة الناس، وتشغيل هذا الحيز أصاب الحاج بالفزع والرعب، وتأكد بأن تفعيل حرية ابنيه سيكون كارثة على حضوره في حياة أسرته داخل البيت.

     لذلك كان جبروته أقوى من عاطفته وأبوته، وأقدم دون تردد ودون ندم على إخراج ابنيه من حضن الدار الكبيرة، لأن هذه الدار العتيقة لا تقبل ثورة، أو تمردا من ساكنيها، هي دار تسير على منوال خط دقيق مرسوم منذ القدم يلزم أهلها بالخضوع المطلق لسلطة الجد والأب، تسلسل يضفي على الحياة تصورا واحدا ووحيدا، تخطيه يعتبر مدعاة للخروج والطرد من نعمه وخيراته. ألا يعتبر ” الحاج  عبد الحق ” نسخة أخرى مشوهة من نسخ رؤساء الأحزاب المكرورة والمملة؟         

الحلقة الثالثة: البطريرك يتهاوى        

     يمكن أن نعتبر أن هذه الحلقة هي حلقة النضج والاستواء، إذ عمد فيها المخرج إلى تعقيد الخط الدرامي أكثر، وصعد به إلى أقصى درجات الكثافة من أجل تعميق الإحساس بالألم، واليأس، والإحباط.

     قام المخرج في هذه الحلقة بالدفع مجددا بالشاب ابن الحاج ” عبد الجبار “، بعد أن كان حضوره قد خفت، واستكان، وكاد يتبدد في الحلقتين السابقتين. ” عبد الجبار ” في الحلقة الثالثة يظهر لنا من خلال اللقطات التي اشتغلت عليه شخصا آخر غير الذي كان في الدار الكبيرة في كنف ” الحاج عبد الحق “. إنه الآن شخص ناضج، ويعرف جيدا كيف يدبر الأمور، لقد كانت إقامته في مدينة ” طنجة ” بطابعها الدولي، وباختلاط الأعراق فيها كافية لكي تكسبه مهارات متعددة جعلته متميزا في كلامه، وسلوكه، وتصرفه. لقد بدا الشاب في لقطات هذه الحلقة ذكيا، ومستفيدا من المدارس الغربية المتنوعة المبثوثة في المنطقة الدولية لمدينة ” طنجة “… وأصبح الشاب جسورا في تحضير السلاح، وتوظيفه في عملية الاختطاف، والعربدة في الشارع.

     شخصية ” عبد الجبار ” التي اهتم بها المخرج كثيرا هنا، واحتضنها في لقطات معبرة، هي التي سوف تتكفل بحل بعض من المشاكل التي تتخبط فيها عائلته، والتي كان الحاج بتعنته، وصلفه وراء جلها، لقد اقتنع ” عبد الجبار ” بأن العنف والبلطجة أصبحا مشروعين في هذا العالم، وأنهما الأسلوب الوحيد الذي سوف يمكنه من حل مشكل أخيه ” أحمد “، وتخليصه من أسر الحزب سيء الذكر، فعمد إلى الانخراط في عملية المساومة، رغم بغضها، وسوئها.

     اضطر ” عبد الجبار ” إلى ولوج مضمارها عبر اختطاف بنت رئيس الحزب سيء الذكر، والمساومة بها على إطلاق سراح أخيه ” أحمد “، وهو ما تحقق بعد عملية شبيهة بأسلوب رجال العصابات الذين يتخذون الشارع مرتعا لممارسة كل أنواع الشرور، وهو أسلوب تعلمه ” عبد الجبار ” جيدا خلال إقامته في مدينة ” طنجة “، وهو ما وقف عليه المسلسل في اللقطات التي تصور ذلك وكأن الأمر إعلان عن سيادة التسيب، وانعدام القانون.

     رغم كل ما يمكن أن نقوله عن اللقطات التي صاحبت عملية ابتزاز رئيس الحزب سيء الذكر بابنته من أجل إطلاق سراح ” أحمد “، وخضوعه للأمر الواقع من أجل إنقاذ حياة ابنته، فإن الأمر لم يتم تفويته بالصيغة التي أرادها ” عبد الجبار “. صحيح أنه أنقذ حياة أخيه، وحقق بذلك السعادة لكثير من المقربين إليه، ما عدا طبعا ” الحاج عبد الحق “، ولكنه أدى ثمنا غاليا لعمليته الجسورة تلك، لأنه ومهما فعل وتصرف بقوة، وشجاعة، وإقدام، فإنه يظل ضئيلا أمام السمعة الرهيبة، والقذرة لرجال العصابات الذين كانوا يتسكعون في المدينة الدولية ” طنجة ” من أجل اقتناص فرص الكسب، والمغنم، والشاب ” عبد الجبار ” عندما قتل في مدينة البوغاز على أيدي قتلة محترفين أجانب فإن أسباب قتله لا تكمن بعيدة عن العملية التي أدارها في مدينة ” تطوان ” لكي يخلص أخاه من الاختطاف والأسر، وذلك لسببين:

  • السبب الأول: الانتقام منه لأنه بعمليته الجريئة قام بإهانة كثير من الرواد الذين سبقوه إلى مجال وعالم العربدة، والإجرام، والابتزاز، ولا تبدو فرضية طلب أصحاب الحزب السيء من بعض المجرمين الأجانب تصفية ” عبد الجبار ” بعيدة، بل قريبة كل القرب من الحقيقة والصواب.
  • السبب الثاني: ” عبد الجبار ” تجرأ كثيرا وقام باستعمال السلاح، ووظفه في عمليته لتخليص أخيه من الأسر، هذا يدل على أن الشاب أصبح يتوفر على قنوات يستطيع بواسطتها توفير الأسلحة بأنواعها، وفي أي وقت يشاء، ويدل هذا أكثر على أن الشاب لا يشتغل لوحده، إذ لا يستطيع أحد القيام بمثل هذه المهمة، وتوفير هذه الكمية من السلاح دون مساعدة من أفراد آخرين، النتيجة المستخلصة هي أن هذا الشاب اكتسب مهارات متقدمة للغاية، وأصبح فعلا خطرا محتملا محدقا بمن يقترب منه، لذلك ينبغي القيام بقتله، وإقصائه من الصورة.

     وكانت كاميرا المخرج ” محمد الشريف الطريبق ” في حركتها دقيقة عندما قابلت بين     لقطتين معبرتين جدا عن عمق المأساة، وعن أهمية الموقف وخطورته، لقطة تصور ” عبد الجبار ”  مزهوا داخل حانة مكتظة وهو يحتسي كأسا، ولقطة مقابلة مباشرة تصور نهاية ” عبد الجبار ” وعملية دفنه داخل المقبرة…   

     مات ” عبد الجبار “، وتمت عملية تنظيم جنازة له في مدينته ” تطوان “، وحضر الجميع الجنازة ترحما عليه، إلا ” الحاج عبد الحق “، فقد جاء مهرولا إلى المقبرة وقام بالبصق على التراب الذي أهيل على جثمان ابنه، يبدو أن الحاج ما زال مصرا على إهانة الإبن، حيا وميتا، مصرا على إعلان حقده على ابنه أمام الملأ، ما زال ” خريف البطريرك ” لم يحن بعد، فهو ما زال مصرا على إبعاد ولديه عن الدار الكبيرة، وما زال مصرا على إقصائهما من حقهما في الحياة مع والدتهما، بل تعدى الأمر إلى تفكيره في حرمانهما من الإرث بواسطة بيع أملاكه، أو التصدق بها في شكل أحباس وأوقاف.

     لم يصدق أحد ما حدث، لأن الذي حدث كان شديد الوقع على النفوس، وعنصر المفاجأة فيه كان طاغيا جدا، لقد تهاوى ” البطريرك “، وكان لابد له أن يتهاوى، لأن طبيعة الأشياء كانت تفرض ذلك، ولأن منطق الأمور كان ينبئ بضرورة حدوث ذلك، سقط ” الحاج عبد الحق ” على الأرض في لحظة خاطفة، ودون تقسيط، أصيب الحاج بجلطة فانهار الطود الشامخ، وظهر أنه كان يعاني من أمراض عدة ظلت كامنة في جسده الذي كان يبدو قويا ومتينا، كلها أمراض مزمنة وفتاكة، ضغط الدم، والسكري، وانسداد شرايين القلب، كلها أمراض تسكن جسد الحاج و يمكن أن تمهد لإيصاله إلى مثواه الأخير.

     ” أحمد ” ظهرت شخصيته في محنة أبيه قوية، متزنة، ناضجة، ولم يتوانى عن الرجوع مع زوجته ” مرجانة ” إلى الدار الكبيرة لكي يسهما في مساعدة ” الحاجة رقية ” على تمريض الحاج، بواسطة تنظيم مواعيد تناول أدويته، وتيسير ظروف مواجهة محنته.

     لقطة سقوط الحاج كانت متقنة في مظهرها ومشهدها، ومصيبة في دلالتها العميقة، رمزية في فنيتها، وحقيقية في ماهيتها، إذ هي تجسد عملية الحسم في إنهاء صورة الأب المتسلط الذي يعيث عبثا في حياة ومستقبل أبنائه وبناته، بمعنى أن على هذا النوع من الخلفية الاجتماعية القائمة على تسلط الرأي الواحد أن يذوب ويتلاشى، لكي يترك المجال فسيحا لخلفية اجتماعية جديدة قائمة على الحرية والتداول في اتخاذ القرارات الصائبة، لأن المجتمعات تتطور بدون توقف، تارة بصورة واضحة للعيان، وتارة بصيغة مموهة ليست في مجال إدراك الجميع.

     ويستدعي هذا إلى الإسراع بتشكيل معالم أنتروبولوجيا جديدة مستندة إلى رؤية تاريخية متينة، تستلهم القديم، وتوظف الحديث، وتبني على هياكلهما كل ما هو متقن لتشكيل معالم لوحة اجتماعية متميزة بعلاقات نسقية منظمة ومضبوطة. هياكل ” الحاج عبد الحق ” القديمة لم يعد أحد يتكيف معها، لأنها تحمل بذور السقوط والانهيار، ولا تنتج إلا التراجيديا، ولمواجهتها يتم اللجوء إما إلى الحيل، وإما إلى التملص، فيحدث التوتر، ولا يمكن إزاحة التوتر إلا بالعنف، وهذا هو بيت القصيد في عمل الأديب والسيناريست ” البشير الدامون ” ومخرج المسلسل ” محمد الشريف الطريبق “، الثاوي في الموضوع هو محاربة كل أنواع العنف، والعمل على إقصاء جميع آثاره من المجتمع، إنها صرخة جريئة، وإدانة كاسحة لكل أنواع العنف، باعتبار أن العنف لا يعالج القضايا، بل لا يسهم إلا في تعقيدها، ولا ينتج إلا المأساة، وهذه واحدة من القيم النبيلة، والرسائل الجميلة التي يشتغل عليها مسلسل ” مرجانة “.       

     يظل ” با خلافة ” دائما محتجزا داخل ذاكرته، فهو أسير لها، وضعيف أمامها، لقد عاد مرة أخرى يلح على موضوع الكنز، ويرفض التخلي عنه، ويهفو إلى إخراجه للحصول على حقه وحقوق أسلافه، ويظهر من خلال لقطات الحلقة الثالثة هذه أن ” أحمد ” بدأ يميل إلى مشاركة ” با خلافة ” حلم الكنز الذي أصبح يكبر في عينيه بسبب حاجته الملحة إلى المال.   

     أبوه يمنع عنه المساعدة، والشركة الأجنبية التي كان يشتغل بها قررت الانتقال إلى العاصمة الإسبانية ” مدريد ” من أجل الاستقرار والاستثمار، والكنز تحيط به الحيرة، والقلق، والتوجس، وفي نفس الوقت يحيط به الأمل، والتطلع، والحلم… ولذلك كان تهاوي، وانهيار، وسقوط ” البطريرك ” فرصة  شيخ كناوة ” با خلافة ” لمزيد من التطلع إلى المستقبل بثبات وثقة، سقوط الحاج كان يعني لشيخ كناوة مزيدا من إيلام ” آل الحاج عبد الحق “، واستكمالا لعناصر الثأر والانتقام، وعودة وشيكة لرحاب الدار الكبيرة، وتمهيدا  للإعداد المريح لولوج الكهوف قصد تلمس الكنز المدفون…

     بهذه اللقطات زاد المسلسل رونقا، وجمالا، وإثارة، لقد قام المخرج في هذه الحلقة ببسط الأحداث بانفتاح، وتوسع، فكانت المتعة أكبر، والتشويق أعمق.           

الحلقة الرابعة: انكسار الحلم          

     انطلق المسلسل في الحلقة الأولى بعودة أحمد المحبطة من إسبانيا بسبب توجسه وخوفه من المستقبل والآتي، وبإحساسه الأكيد باحتمال انفجار الوضع بينه وبين والده، وانتهى في الحلقة الرابعة باستحضار كم مرعب من اليأس، والإحباط، والخواء.

     تطالعنا الحلقة الرابعة بمشهد لشخصيات جديدة يبدو أنها تتقاطع في مصائرها مع الخط الوجودي والنضالي ” لأحمد “، رغم اختلاف بعض الأساليب والتفاصيل. ” فؤاد ” مع زوجته   ” نزيهة ” من أصدقاء الدراسة مع ” أحمد “، استكملا دراستهما في ” إسبانيا ” وعادا إلى البلاد بشهادة علمية محترمة، ينويان الإقامة والانطلاق في إنجاز بعض المشاريع التنموية.

     هذا ما يبدو في الظاهر، أما خلفية الأمور فتخفي اهتمامهما بالعمل الإحساني، والنضال السياسي. لقاؤهما بصديقهما وزوجته ” مرجانة ” كان فرصة لتبادل الحديث حول ظروف الإقامة والدراسة في ” إسبانيا “، واسترجاع الذكريات، وقد دارت بينهم على مأدبة غذاء أحاديث متنوعة تتعلق بالحياة، والسياسة، ولأحزاب، و… الكنز، الذي أصبح الجميع يعلم به وبوجوده.

     الكل يتحدث عن الكنز، لقد أصبح هذا الكنز هاجسا للجميع، وأصبح ” أحمد ” مهووسا به، لا يتحدث إلا عنه، وعن قرب الانطلاق في رحلة البحث لاستخراجه. إن حضور مفهوم وأسطورة ” الكنز ” في المخيال العربي منتشر كثيرا، ويلقى رواجا كبيرا على مستوى الحديث عنه، والتداول في شأنه، ويتمظهر هذا الرواج، وهذا الحديث في محيط التمركز حول الذات التي يعيشها الإنسان العربي كوضع عام، يشترك فيه الكثيرون، إذ عندما نستحضر أزمة الوعي نلفي وعي الأزمة، لأن ما يصعب الوصول إليه في الواقع يتحول بحكم الخلفية السيكولوجية إلى حلم يكتسب قدرة فائقة على تخطي الحجب والوصول إلى تشييد معالم تصور للحل والإنقاذ، والخروج من الأزمة.

     إن هذا المشكل العويص الذي ما زال يهمين على طبيعة الفكر في عالمنا العربي يستسهل الانتقال السريع من الفعل إلى السكون، من الإقدام إلى النكوص، من العقلانية إلى الأسطرة، وتتحول قيم العمل والإنتاج فيه إلى صيغة من الاستكانة القدرية التي تفضي إلى اختلاق نوع من التفكير اليقيني الدوغمائي الذي يتصور أصحابه أنه يمكن أن يقود يوما ما إلى تحقيق الخلاص عبر الآتي القريب الذي لا يأتي أبدا.

     والغريب هو أن هذا الآتي الذي يتميز بالاستعصاء الأبدي يتمظهر لدى حاملي هذا الفكر تقريبا في شكل كنز له صفات مبهمة، لا أحد يستطيع وصف مكوناته، أو تحديد سماته، لأن الذي يبقى في الاعتبار هو أن ” الكنز ” يجب أن يتحقق ويظهر يوما ما لكي ينقذ الحالمين به أنفسهم من براثن الفقر والحاجة والانحطاط. ويبدو الكنز هنا شبيها بفكرة الخلاص المسيحية التي تستند دائما إلى حضور المسيح في الزمن لكي يخلص حوارييه من الخطايا والآثام، ونفس اللحظة في الفكر والمخيال تتجذر لدينا، الكثيرون يحلمون بالكنز الذي سوف يتجسد قريبا أو يوما ما مخلصا للحالمين من أرذل الحياة، ومطهرا للمتطلعين من أدران العيش الرقيع.

     والصادم أحيانا في هذا النوع من التفكير الذي يمكن أن نسميه فكر ” الكنز ” هو أن بعضا من الذين يتميزون لدينا بفكر ” المقاومة ” ضد كل ما هو أسطوري، ولاعقلاني، وخرافي، واتكالي، يظلون يحملون بذورا وبائية لإمكانية تحولهم، وعودتهم إلى الوراء، ونكوصهم نحو اعتناق الفكر العدمي في الحلم بالخلاص عبر مفهوم الأسطرة، وهذا ما نلاحظه من خلال الخط التحريري الذي اعتمده كاتب السيناريو، وجسده المخرج عبر الصورة، حيث كان المثقف ” أحمد ” المناضل التقدمي، الحامل لشهادة عليا من دولة غربية حداثية، يشع أمام معارفه ومجايليه بكل معاني التنوير والانفتاح على الفكر العقلاني، وكان يستهين بأحلام شيخ كناوة المتعلقة بوجود الكنز، ويعتبرها ضربا من الخيال ليس إلا، ولكنه فجأة أصبح مفتونا بالكنز، ومهووسا بوجوده المفترض، ويعلن عن تطلعه هذا أمام الجميع، الشيء الذي أصاب صديقه ” فؤاد ” بصدمة جارحة.

     يقدم المسلسل لقطات جميلة معبرة تدل على اقتناع ” أحمد ” التام بوجود الكنز، وبضرورة البحث عنه في القريب. وأصبح ” با خلافة ” شيخ كناوة يكثر من تنظيم الليالي والرقص الكناوي لكي يشحن عزيمته، ويقوي نسيجه النفسي بكثير من عناصر الشجاعة والإقدام والتحصين ضد كل مكونات الخيبة والإحباط، والاستعداد النفسي التام لولوج عالم الكنز، لقد أصبح كثير الخشوع، والإقبال على الجذبة الكناوية بتكثيف الحضور الطقوسي، وكأن في الأمر تصعيدا، وإخراجا لخوف ورهاب التوجس المرتبط بالإقبال على المجهول.

     ورغم أن الحاجة ” رقية ” ترفض فكرة أن يدخل ” أحمد ” إلى الكهوف تحت الدار الكبيرة للبحث عن الكنز فإن ” أحمد ” أصبح أكثر إصرارا ورغبة في الحصول على الكنز، وقد عبرت الحاجة عن رفضها هذا بقولها: ” لو كان الحاج عبد الحق ما زال بصحته لما ترك ابنه يبحث عن الكنز”، وكلام الحاجة لا يعود في الحقيقة إلى رفض فكرة الكنز في حد ذاتها، بل يعود فقط إلى خوفها على ابنها من المجهول والأخطار المحدقة بكل من يلج عالم الكهوف، ويبقى على الأقل موقفها وخوفها من المآل الغامض للعملية مبررا.

     انتهى التردد، وترسخ العزم، فقرر ” أحمد ” وصهره شيخ كناوة الدخول إلى الكهوف، فاختارا لذلك ليلة مناسبة، رافقهما في رحلتهما العجائبية رجلان من أتباع ” با خلافة “، وأصرت ” مرجانة ” إصرارا على مرافقة الجميع، خوفا على زوجها من الوقوع في الخطر.

     وكان مخرج المسلسل موفقا في رسم معالم لقطات جميلة معبرة عن الفعل وعمقه على مستوى الفكر والصورة، عبر عرض مشاهد مركبة تتداخل فيها الصور وتتشابك، معلنة عن موقف غير طبيعي، موقف كله قلق وخوف وتوجس، فتجسد ذلك جليا في المشاهد التي اكتنفها نوع من الغموض، وشابتها بعض الضبابية في الرؤية، لكي تجعل المشاهد مستعدا للتفاعل مع مشاهد مصورة داخل كهف مظلم تعكس أفكارا ذات أبعاد حالكة، واستطاع المخرج أن ينتج بذلك زاوية فنية مرصعة بالإبداع والتجديد.

     اللقطة المشكلة من المشاهد التي تعتبر الثابت الذي بني عليه المسلسل هي التي يظهر فيها الرجال مع ” مرجانة ” داخل الكهوف تحت سراديب الدار الكبيرة بحثا عن الكنز. لقد انتصر كاتب السيناريو، ومخرج المسلسل لفكرة نسف الأسطرة، وتدعيم العقلانية، فكانا بهذا الطرح منسجمين مع تطلعات المشاهدين، عن طريق نزع بصمات الوهم من الحلم الخرافي بصمة بعد بصمة، رويدا رويدا، خطوة بخطوة، لكي يكون الأمر مؤسسا على تصور علمي منظم ومقنع، وبأسلوب ملموس.

     بدا منذ الوهلة الأولى بأن ” با خلافة ” تائه تماما داخل الكهوف، ظهر الأمر وكأنه يوشك أن يلقي بالجميع إلى التهلكة، فهو لا يعرف بتاتا كيف يتحرك داخل الكهوف، وهذه علامة أولى على نسف الخرافة، بمعنى أنه لا يوجد أي طريق يدل على الكنز. ثم ظهر أن شيخ كناوة لا يعرف بإطلاق أين يوجد الكنز بالضبط، كل ما هنالك هو فقط رجم بالغيب، وتخبط حول المكان المقصود، وهذا يدل على أن أماكن دفن الكنوز الوهمية لا وجود لها في الحقيقة المنطقية. ثم وفي لحظة خاطفة توهم ” با خلافة ” أنه وصل إلى الخلاص، توهم أنه وجد مكان دفن الكنز، فأخبر ” أحمد ” بذلك، فشرع هذا الأخير يتحرك ببطء وقلق.

     و كان مشهد البحث عن الكنز بواسطة استخدام المشاعل يثير النفس ويجعلها تتساءل هل هذه المشاعل تضيء الكهوف أم تميط اللثام عن المخفي والمستور؟ وأخيرا حسم ” با خلافة ” تردده، وتخبطه، فقرر أن يوجه ” أحمد ” للبحث عن الكنز داخل البحيرة المائية الموجودة في الكهوف. وبهذا عمل السناريست والمخرج على استكمال الصورة باستحضار العناصر الأربعة الماء، والهواء، والنار، والتراب، قصد توظيفها للإيحاء باستمرار وجود الحياة وسريانها حتى داخل الكهوف تحت الأرض، وحتى في عمق مكونات الفكر الخرافي.

     لقد كانت النتيجة محبطة، ومؤلمة، وغير منتظرة، ارتمت ” مرجانة ” داخل البحيرة رغبة منها في إنقاذ زوجها الذي غاب طويلا تحت الماء، فأوشكت على الغرق، وأصيبت باختناق كاد يودي بحياتها. حتى ضمن الفكر الخرافي هناك ترتيب، حيث يبدو أن الأمور هنا تحتاج لمقابل، إذ لا بد للكنز من ” جسد أضحوي “، هذا معطى تاريخي تحليلي مؤكد، إذ يحتاج الكسب دائما إلى البذل والعطاء، والتضحية…

     المشاهد التي ختم بها المخرج الحلقة كانت مرتبة ودالة على نوع من تجميع الموضوع، وإضفاء بعض لمسات الضبط والتنظيم على معالمه المعبرة، ” مرجانة ” حملت إلى المستشفى لكي تتلقى العلاج. حصلت قناعة للجميع بانتفاء وجود أي كنز، تم العثور فقط داخل صندوق متهالك على خمسة ” مدامع ” عبارة عن قوارير زجاجية صغيرة الحجم ومزخرفة، كان الرومان يستخدمونها لملئها بالدموع في الجنائز بكاء على وفاة الأهل والأقارب، ويبدو الأمر مثيرا للدهشة والطرافة، حيث نحس وكأن كل شيء كان مرتبا بدقة، إذ يدل إيجاد ” المدامع ” على وضوح الخطاب والرؤية، فهو دعوة مفتوحة وصريحة لكل من الرجلين لكي يصرخا، ويندبا حظهما العاثر، ويبكيا بحرقة حتى يملآن ” المدامع ” بدموع الخيبة والمعتقدات البئيسة. لقد كانت النتيجة إحساس ” أحمد ” بخيبة أمل شديدة، فامتنع عن الكلام أو التعليق، أما ” با خلافة ” فقد اكتشف أنه كان ضحية وهم سحيق، وأصبح متوجسا من ردة فعل عنيفة غير منتظرة من ” أحمد “، فبدأ يقتصد في الكلام والتعبير. 

     سوف تظل المرأة هي السند، وهي رمز الجمال البديع الذي ينثر الحب والحياة، وسوف تظل علامة على الحضور المستمر والفاعل ضمن دائرة الأمل والتطلع إلى مستقبل واعد. هذه واحدة من القيم الجميلة التي وظفها المسلسل وآمن بها، وبواسطتها اكتشف  ” أحمد ” أن زوجته ” مرجانة ” هي الكنز الحقيقي، وهي التي تستحق الاهتمام والتقدير والاحترام، وهي التي سوف تشيد معه صرح حياة مستندة إلى العقلانية، والتنوير، والعمل، والإنتاج، لقد اكتشف بأن اسم زوجته يرمز للبياض والنضارة، والصفاء، واللؤلؤ الفاخر، فقرر أن يتخذها كنزه الذي لا ينضب.       

     كان مخرج المسلسل يفضل عقب كل مشهد فيه إحباط، ويأس، وفشل أن يقدم لقطات عامة، شاملة، تمسح المكان، وتظهر سلسلة الجبال الشامخة التي تحيط بمدينة ” تطوان المغربية “، كان يقدم لقطات عامة للدار الكبيرة بأقواسها، ورخامها البديع، وهندستها التقليدية المتنوعة. كما كان يقدم بعض معالم المدينة العتيقة، حيث كان يعمل على صهر الجزء ضمن الكل.

     ويبدو أنه اشتغل بنظام ” الماكرو “، يقدم لقطة عامة شاملة، ثم ينتقل إلى أجزائها فيبسط معطياتها لحظة بلحظة، ويعود مرة أخرى إلى ” الماكرو ” ويفصله عبر ” الميكرو “، وهكذا تقريبا في جميع مكونات المسلسل. وقد مكنه هذا من تشييد عمل فيه كثير من التماسك، وكثير من عمق الفكر والرؤية.

     وكل لقطة تقدم إليك عناصر جدواها وإقناعها، لقطة عامة للدار الكبيرة، تقابلها لقطات جزئية تصور مثلا دخول ” الحاج عبد الحق ” من الباب، أو الخروج منه، وكل حركة أو فعل له دلالة، مرة ترى شموخا وتعاليا، ومرة تلمس انكسارا وحسرة، ثم تلاحظ حركة الكاميرا وهي تصور كيف يصعد الحاج الأدراج وهي تتبعه صاعدة معه بلقطة كاملة من الخلف، وتعود مرة أخرى لاستكمال عملها عبر استقبال الحاج وهي نازلة به بلقطة كاملة كذلك وهو ينزل من الأدراج، تحس أن سيكولوجية الحاج في صعوده هي غيرها في نزوله، وكل لحظة تتميز بتحليلها الخاص، وخلفيتها المتميزة. وكذلك بعد لقطة طرد ” عبد الجبار ” من البيت قدم المخرج مشهدا عاما مكبرا للمدينة من أسفل، والكاميرا تتوجه إلى المشهد وتقدمه من أسفل إلى أعلى دلالة على أن أرض الله واسعة، وعلى الإبن الأصغر أن يسعى فيها، ثم دلالة على أن المدينة أمامه بكاملها، فقط عليه أن يصعد إلى قمتها، بمعنى عليه أن يشقى لكي يثبت ذاته ويعيش.

     ثم بعد لقطة حفل زواج ” أحمد ومرجانة “، أتبعها المخرج بمشهد السحب الداكنة في السماء، دلالة على تلبد العلاقات، وزيادة كم السواد المحزن في حياة شخصيات المسلسل… ونفس الشيء يمكن أن نقوله عن جميع لقطات ومشاهد المسلسل، بحيث نستطيع أن نقول إن المخرج ” محمد الشريف الطريبق ” ينتصر كثيرا في عمله لمنطق وثقافة الصورة، أكثر من التعبير والحوار والكلام، فهو يعد الصورة المنقولة بحركة مضبوطة للكاميرا كفيلة بتجسيد عمق المقصود، والتعبير عنه بكل وضوح وشفافية، فما كان يغفله الممثلون، أو لا يعرضون له في حواراتهم كان المخرج يقوم بتعويضه عن طريق التواصل بتوظيف لغة الصورة بواسطة حركة الكاميرا عبر لقطات وصور مجسدة للمعاني الكامنة في عمق المشاهد المستهدفة. ويظل باب التأويل مفتوحا لمن يستطيع أن يضبط آلياته، ويتقن تشغيل تقنياته.                                                                               

………………………

  • عناوين حلقات المسلسل الأربع من اقتراحي.
  • “المدامع الخمسة” المشار إليها والتي كان يستعملها الرومان في الجنائز ما زالت موجودة ومحفوظة بالمتحف الأثري بمدينة تطوان بالمملكة المغربية، ويسمح لجميع زوار المتحف بالتطلع إليها، وتأمل شكلها البديع.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم