المذاق الفريد لرهينة السينما

نجيب الريحاني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد

للبشر تركيبة نفسية شديدة التعقيد، من الصعب جداً سبر أغوارها وخباياها؛ حيث أنه في أي لحظة قد تفاجئ كل من يتابعها بشيء جديد يزيد من الوضع تعقيداً ودهشة. فالطبيب الذي تأكد من جنون مريضه يجده في لحظات أشد عمقاً وعقلاً منه، وفي لحظات أخرى يدهشه بمدى تمسكه بالهلوسة والهذيان، بالرغم من أن حالته قد لا تستدعي ذلك.

أما الأغرب، نشوء حالة من الحب والتعاطف بين المريض والطبيب، حتى ولو أنكر كلاهما هذه الرابطة الغير مبررة. لكن، عندما يتطور الأمر وتنشأ علاقة وطيدة من التعاطف، والتفاهم، بل وحتى الحب بين الجاني والمجني عليه، فهذه ظاهرة غريبة جداً تحيير العلماء حتى الآن؛ حيث لم يتوصلوا لتفسير محدد لها. فتلك الظاهرة لا يمكن تصنيفها كالمرض النفسي المسمى بالتلذذ بالألم، أو كما أيضاً يطلق عليه مصطلح “المازوخية” masochism، حيث قد يلاحظ أن المجني عليه يتحول للطرف الذي يسيطر على الجاني ويوجه أفعاله، والتي أيضاً قد تضمن الاضرار بحقوق المجني عليه. ولما تحيير العلماء في تفسير هذه الظاهرة أسموها ب “متلازمة ستوكهولهم Stockholm Syndrome نسبة لحادثة سرقة بنك بمدينة ستوكهولهم بالسويد عام 1973، والتي حدث فيها أن رهائن السطو المسلح صاروا متعاطفين مع من قاموا بالسطو على البنك واتخذوا منهم رهائن. بل وتفاقم الأمر حينما رفض جميع الرهائن أن يشهدوا ضد الجناة في المحكمة.

ومن المثير للحيرة أكثر في هذا الأمر، أن تلك الحالة تنطبق تماماً على السينما وما تقدمه من مواد، فهي تجعل من المشاهد رهينة طيِّعة تتصرف فيها كيفما تشاء، وأما المشاهد، فما عليه إلا تصديقها، والدفاع عنها، والتعاطف معها، والموافقة على ما تقدمه له من وجبات. ولو كان هذا هو الحال بالنسبة للسينما في جميع أنحاء العالم، نجد أن للسينما المصرية مذاق آخر فريد. فلقد نشأت السينما المصرية نشأة قوية على يد خبراء، لا ينقصهم شيئاً عند المقارنة بينهم وبين نظرائهم الأوروبيين، بل في بعض الأحيان قد يفوقونهم حرفية وإمكانات. فقدمت السينما حينها أجمل الروائع من الروايات المترجمة والمقتبسة، وقدمت نجوم كبار جاهدوا أن يجعلوا للسينما المصرية مذاق خاص – حسب ما هو متاح لهم ومتعارف عليه في ذاك الوقت. ولهذا السبب، لا تزال أفلام الأبيض والأسود تعيش معنا حتى الآن، ولا نمل من مشاهدتها، بالرغم من أنها قد قدمت وفق معايير صارت بائدة بالنسبة لنا في العصر الحديث.

ولما كانت السينما هي وليدة المجتمع وما يموج فيه من تغييرات سياسية واقتصادية، يلاحظ أن السينما المصرية قد مرت بحقب تدهور وقوة عديدة بسبب عدم استقرر البلاد سياسياً واقتصادياً. ودون شك، كان لفترات الركود والتدهور جم الأثر السلبي على السينما المصرية. وبما أن السينما المصرية هي عبارة عن سلسلة من المفاجآت الغير متوقعة، نجد أنها في شدة لحظات ضعفها تجتذب أقوى أنواع الأفلام. وتلك الظاهرة الغريبة سببها دوماً ليست صناعة السينما؛ لأنها في ذلك الوقت تكون في أضعف حالالتها، وفي أشد مراحل التدهور المحدق بها، لكن السبب فيها هو ظهور “ممثل قوي البأس ورائع التعبير” يجعل حال السينما يرتقي، ويرتقى بالمشاهد الذي لم يكن لديه مرشد روحي ممكن أن ينقذه من غيبات وضع سينمائي متدهور يلقي بالمشاهد يصل لأعماق الحضيض. وفي هذا المناح، يمكن أن نذكر فارسين من فرسان السينما المصرية اللذان أخذا على عاتقهما صناعة الرقي في زمن كان الرقي فيه شحيحاً، وصاروا علامات بارزة يشار لها بالبنان، ولا يزال المشاهد يدين لهما بالفضل ويضعهما تاجاً على رأسه. وهذان الفارسان والبطلان اللذان خلدهما التاريخ، هما: نجيب الريحاني، والفنان عادل إمام.

فالفنان نجيب الريحاني (21 يناير 1889- 8 يونيو 1949) هو واحداً من أشهر ممثلي الكوميديا في تاريخ الفنون المرئية العربية. علماً بأن نجيب الريحاني هو في الأساس ممثل مسرحي كبير وذائع الصيت، وكان يلقب ب “زعيم المسرح الفكاهي.” وبالرغم من أن المسرح الفكاهي والضحك كان طريقه، إلا أنه كان صاحب قوية، وكان أول من جعل للفن المصري هوية، حتى ولو كان ما يقدمه مسرح كوميدي الغرض منه إشعال الضحكات. ويذكر أن نجيب الريحاني كان أول من أضفى الروح المصرية الخالصة على المسرح، بعد أن كان أوروبي النزعة. ومن أفضل ما ورد على لسان نجيب الريحاني في هذا الشأن مقولته الشهيرة:  “عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة “الطعميَّة” و”المُلوخيَّة”، مش ريحة “البطاطس المسلوق” و”البُفتيك”… مسرح نتكلَّم عليه اللُغة التي يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم لهُ ما يُحب أن يسمعهُ ويراه…”. وبعد محاولات مريرة معه لتقديم فن سينمائي؛ لأنه فن المستقبل الذي سوف يعيش لتشهده أجيال قادمة، بدلاً من تقديم فن مسرحي خالص يزول بمجرد انتهاء العرض، دخل نجيب الريحاني مجال التمثيل السينمائي. لمنه قدم سبعة أفلام فقط، والمثير أن كل واحد منها يعد حقاً علامة بارز وفارقة في تاريخ السينما المصرية، ولا يزال يضرب به المثل بين العامة.

ولم يحاول نجيب الريحاني أن يبتز مشاهديه بمحتوى فكاهي سهل الأسلوب والصيغة لأنه خالي من المشاعر الإنسانية، ويقدم ضحك من أجل الضحك فقط، كما كان هو سائد في عصره، بل على العكس، قدم “كوميديا سوداء” لا يمكن أن يحدد فيها المشاهد مشاعره تجاه العمل لأنه يتأرجح بين الضحك الهزلي، والبكاء بحرقة. فصار المشاهد أسيراً طيعاً لدى نجيب الريحاني، الذي كان خير من يؤتمن على المشاهد، وعلى تطويع ما هو متوافر لديه من إمكانيات من أجل الارتقاء بذوق كل من يشاهده، سواء أكان في السينما أو المسرح، في زمن كان يستسهل فيه معاصريه تقديم خلطة من الضحك لاجتذاب أكبر عدد من المشاهدين. وما قرب بين نجيب الريحاني وجمهوره كان التمسك بتقديم لون مصري أصيل بعيد كل البعد عن هنات سيطرة اللون والشكل الأوروبي على الفن المصري. ولهذا، صار نجيب الريحاني وما يقدمه من فن أنموذجاً لدى المشاهد؛ لأنه يعمل على خلق نهضة فكرية وتوعوية بشكل غير مباشر، ينأى عن الإسفاف.

ومن هذا نستخلص أن بالرغم من أن السينما تتخذ من مشاهديها رهائن؟، إلا أن تقديم فن هابط يعتبر اختيار وليس إجبار، وخير دليل هو نجيب الريحاني وفنه الراقي الذي أجبر المشاهد على احترام الفن الجيد الذي يزيده آدمية ويوسع من مداركه. والدليل كان إقبال المشاهد على ما يقدمه حتى الوقت الحالي.

وأما بالنسبة للفنان الكبير عادل إمام، فما أنجزه للسينما المصرية يعد حكاية كبيرة سوف تفرد لها صفحات المقال القادم ؛ لما يمثله من أهمية كبرى، وقيمة فنية ينحني لها الجميع ويكن لها كل العرفان والتقدير.

مقالات من نفس القسم