المترجم الروسي

كسور المرايا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد غريب

صباح بارد جداً. صباح آخر في نهاية فبراير لا تظهر فيه الشمس. أدفأ لحظات هذا الشهر تكون الحرارة -16. ارتديتُ الملابس المناسبة وخرجتُ في الصباح الباكر لأقطع المدينة الشاسعة من أقصى جنوبها المطلّ على بحيرة أونتاريو إلى الطرف الشمالي منها. هناك يكون السكن أقل تكلفة. لدي موعد في إدارة الويلفير، التي تمنح معونة لمن لا يجدون عمل شرط أن يكونوا في حالة بحث أو دراسة. الموعد للاجئ عراقي سأقدّم له خدمة الترجمة خلال مقابلته.

عندما زرتُ سويسرا قبل سنوات فوجئتُ بأنهم يتواعدون بالدقيقة دون تقريب العدد. فيكون الموعد الساعة 7 و12 دقيقة، أو 4 و26 دقيقة، ويظهر الشخص الذي واعدك قبل أن يصل عقرب الثواني إلى الدقيقة المقصودة ببضع ثوانٍ فقط. في البداية فكرُتها نكتة، لكن عندما تأكد لي أنهم يتكلمون بجدية قلتُ لهم إن سويسرا هي حلم حياتي.

غالباً ما أذهب إلى مواعيدي بدقة، وأحلم بأن يأتي الآخرون في الموعد. لكن لا أستطيع أن أواعد شخصاً الساعة 7 و5 دقائق، لا ينطبق ذلك على مصر فقط، لكن المواعيد على الطريقة المصرية غامضة. في سويسرا وجدتُ المواعيد دقيقة للغاية، لا تعترف بأفضلية أرقام 5 و10 و20. يواعدونك في الساعة كذا و8 دقائق، أو39 دقيقة!

في كندا ثلج أكثر، وبطء. كل شيء بطيء، وهناك تفهّم لهامش تأخير من عينة 5 دقائق.

في محاضرات التوعية التي يتلقاها اللاجئون يتم التشديد على أن كل اللقاءات هنا بموعد، وأن حضورهم في الوقت أو الإلغاء المسبق أمر ضروري. يتم تخويفهم بأنه سيتم تحصيل فاتورة الخدمة المقدمة لهم لو تأخروا وفاتهم الموعد.

في الحقيقة أن ما يقال لهم شيء من الحقيقة، لكن ليس كلها. هناك عيادات طبية نظامها يعمل بلا مواعيد مسبقة، بل بأسبقية الحضور، وليستْ كل الخدمات يتم تحصيل فاتورتها لو تأخر الشخص، أو لم يتم الإلغاء قبل الموعد بيومين كما يقال لهم.

حضرتُ قبل موعدي بـ 10 دقائق لألتقط أنفاسي من البرد الشديد في الخارج. كنت أتوقع أن أكون أوّل من يصل من المتعاملين مع مكتب الويلفير، لكني وجدتُ شخصين ميّزتُ ملامحهما العربية. ألقيتُ صباح الخير، فهزّا رأسيهما معاً وقال الشخص الذي يبدو أكبر سناً: أهلا أستاذ أحمد. عرفتُ أنه العميل الذي سأقدم له الخدمة، فرددتُ التحية باسمه.

سألتُه إذا كان قد أحضر الأوراق المطلوبة، وأجاب: نعم. كان ضخم البنية أشيب الشعر لكن في عينيه حيوية تصارع من أجل البقاء. قدّرتُ أنه في بداية الخمسين من عمره.

ظهرتْ الموظفة، ودعتنا إلى غرفة اللقاء. يوجد بها دائماً كرسيان يمكن تعزيزهما بثالث، إلى جانب مكتب صغير يوجد عليه كومبيوتر وأمامه كرسي الموظف. أتردد على مكاتب الويلفير منذ عدة سنوات لخدمة الترجمة.

بعد وصول اللاجئ بسنة يتوقف راتب إدارة الهجرة القليل، فينتقل إذا لم يجد عملاً إلى معونة البحث عن عمل، والتي كنا نسمع عنها في بلادنا بأنها معونة للبطالة. هنا النظام يختلف، لا معونة إلا إذا قام الشخص بدراسة أو تدريب لتحسين كفاءة بحثه عن العمل، أو يكون في حالة بحث فعلية وعليه إثبات ذلك. راتب المعونة أقل ويصدم الكثير من اللاجئين الذين قدموا من مستويات معيشية أفضل، وظنوا أن راتب الهجرة هو أسوأ ما يمكن أن يحدث لهم في بلاد الغرب. لكن الويلفير يدفع تكلفة الدراسة أو التدريب إلى جانب المعونة والتي تزداد كلما استطاع الشخص عمل مقابلات مع جهات التوظيف.

تتهرّب كثير من السيدات اللاجئات من البحث عن عمل عن طريق الإنجاب، ويعفيها ذلك من متابعة موظف الهجرة لها إلى أن يذهب الطفل إلى المدرسة. وعندها يكون سن المرأة وقلة خبراتها لا تؤهلها للمنافسة في سوق العمل فلا يتم الضغط عليها من أجل البحث عن وظيفة فتظل ربة بيت.

كانت الموظفة شقراء، في سن قريب من العميل. طلبتْ الأوراق بجفاف، لم تنظر إلى عيني أو عينيه. صورتْ بعض الأوراق بآلية. تفحّصتْها. ثم سألتْه، وقمتُ بالترجمة: أين اسمك في عقد الإيجار، لا يوجد إلا اسم الأم والأخ؟

كان أطول مني، ضخم البنية، ويبدو أنه غير مرتاح في بنيته الضخمة، وقد حوّلته نبرة سؤالها إلى تلميذ فجأة.

تحرّك من على الكرسي وقال: إن الاسم موجود، لقد تمتْ إضافته على العقد الذي تم تحريره باسم أخي.

ردتْ الموظفة: لا أجد إلا اسم الأخ. عليك إحضار نسخة أخرى من العقد. لم تُضف معلومة أساسية تطمئنه بها، وهي أن أوراقه ستمُر، وأن بإمكانه إحضار النسخة الأخرى من العقد في أي وقت، وإيداعها في الصندوق البريدي للمكتب.

ارتبك الرجل، ولملمتْ هي الأوراق بطريقة أوحتْ له إن طلبه للمعونة مرفوض. لا يحق لي أن أنطق بكلمة توضيح إلا إذا كانت ترجمة لما قالتْه أو ما قاله فالتزمتُ الصمت. حاولتُ أن أنظر إليه بطريقة تطمئنه، فهمس لي: أنا مترجم أيضاً يا أستاذ أحمد!

وأضاف، عندما انشغلتْ هي بتسجيل بعض البيانات على الكومبيوتر وتصوير أوراق: أنا مترجم للروسية، كنت مترجماً عسكرياً في الجيش العراقي. هزُزت له رأسي بابتسام، وفهمتُ لماذا أتى قبل الموعد على غير عادة كثير من العرب.

سألتْه: هل تعمل؟ ونفى، هل بحثتَ عن عمل؟ ونفى، ماذا تفعل؟ وقال إنه مؤخراً سجّل في مدرسة لتعليم الإنجليزية ليتمكن من البحث عن عمل، وكان الخجل بادياً على وجهه. عادة يسأل الموظف عن الخبرات المهنية والشهادات في البلد الأصلي ليقدم للشخص نصائح عن نوعية التدريب المتوفرة والمناسبة له، لكنها لم تسلك هذا المسار.

صمتتْ قليلاً، ثم قالتْ: هذه المقابلة لا ينبغي أن تمتد أكثر من 20 دقيقة. ولم تنظر في عيني. ما أعرفه أن زمن المقابلة بتراوح بين 20 و50 دقيقة، لكنها لم تكن مهتمة بالحديث مع هذا الرجل. وبادرني هو قبل أن أترجم كلامها: لقد فهمتُ ما قالتْه، فلم أنطق.

أعطتنا أوراقاً طلبتْ مني أن أترجم محتواهاً له بعد أن نخرج من الغرفة. انسحبنا. شرحتُ له المحتوى، وحاولتُ أن أطمئنه، وردّ هو إنه يعرف نظام الويلفير، وأضاف محرجاً: لا أعرف كيف لم تجد اسمي في عقد الإيجار! قلتُ له إن الأمر هيّن، ولذلك عملوا صندوقاُ بريدياً لوضع المظاريف التي تستكمل البيانات، هي فقط من ضخمته بطريقتها. وردّ: لقد فهمتُها، ثم أضاف وفي عينيه حزن: فهتُمها جيداً.

في طريق العودة حاولت أن أتخيل كيف كانت حياة هذا الشخص وهو مترجم في الجيش. أعرف أن أجر الترجمة التقنية العسكرية هو الأعلى، لكن أن تعيش هذه التجربة مع جيش العراق، وتشهد صعوده وانكساره وحلّه. يا لها من دراما.

أن تكون وسط كل هذه الذكورية المتضخمة، بجسم ضخم، وشارب كث مثلهم، ينظرون إليك باعتبارك أقل منهم لأنك لست عسكرياً، لكنك ترجمانهم، بدونك لا يفهمون الآلة ولا المدرّب الروسي! كم آلمته أسئلة موظفة المعونة: ألا تعمل؟ هذا شخص عاش تجربة الهزيمة في منتصف عمره، انتهى العالم الذي كان يعرفه. مُسح من الوجود، وكان المسح عنيفاً.

كنتُ أعيد تفسير حركات ارتباكه الجسدي مرة أخرى وأنا في طريق عودتي، هذا الشخص لا يعرف ماذا يفعل بجسمه، حتى أخاه لم يتأكد من إضافة اسمه إلى عقد الإيجار، على الرغم من روتينية هذا الإجراء في كل العقود هنا.

كيف يمكن أن تعيش حياتك وسط هذه العواصف! هذا الشخص ربما بدأ حياته المهنية كمترجم قبل غزو العراق للكويت بقليل، وسط عواصف البروباجاندا في العراق، ثم رجّته عاصفة الصحراء، وأمضى سنوات بعدها ينتظر السقوط، ثم هبّت عاصفة أعنف وأقسى أطاحتْ بكل العالم الذي يعرفه ومزّقته.

هل كانت الموظفة تعلم أنه محطّم بالكامل، وأن ليس بإمكانه أن يبدأ من جديد؟ هل عاملتْه بإذلال مستتر لأن مظهره الذكوري أزعجها؟

…………….

*مقطع من رواية “كسور المرايا” الصادرة أخيراً عن دار ميريت

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون