اللعبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 3
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد ثروت

الورقة الأولى من الكتاب الأكثر مبيعاً هذا العام:

سنلعب. أنت وأنا. فقط إن أتممتَ القراءة؛ شاركتني اللعبة.

هي مثل كل لعبة، تمنح بهجة ومتعة. لكنها تختلف عن بقية الألعاب التي تعرفها واختبرتها، إذ لا تستمر إلا بالألم. ذُق الألم تربح المتعة. ولتكن واثقاً أنني لن أواجه الألم وحدي.

 أنت تظن أن الكتابة عمل يسير ربما، جائز أنك تحسب الكلمات والأفكار تنساب بفتح صنبور ما، ولن تصدق أن هذا تسطيح وتبسيط مخل، إلا إن شاركتني اللعبة. إلا إن امتزجت بي. سنتقاسم الألم والمتعة.

المتعة التي تنتظرها: صفحات مشوقة جاذبة، كتابة مثالية، تمكث في الأرض للأبد، بأقل قدر من جَهدك.

أتمنى هذا بالطبع، لكنني أعلم أن لكل متعة ما يقابلها من ألم. كلما استمتعت أكثر كلما نما ألمك، وكلما نما ألمك استمتعت أكثر.

واعلم، أنني سأترك لك الخيار طوال الوقت.

فلنترك الاسترسال في ما أعلم أنك تعلمه، وتخفيه داخلك. ولنبدأ خطوة عملية. لنفتتح المعركة الأولى. هي معارك كثيرة، ضخمة، لتفوز بالمجد. لتربح كتاباً حقيقياً. والمعارك -كما تعرف من مشاهداتك في mbc2 ومواقع التحميل الالكترونية- تُغرقها الدماء، تتناثر فيها الأطراف المبتورة، بل ربما تنقسم دماغك في النهاية لنصفين. لكن هدفك الذي تصدقه، أنك يجب أن تربح. أن تستمتع بالربح. وتذكر حينها أنك قد تألمت على قدر حبك لقراءة كتاب حقيقي. على قدر حبك للحياة.

الخطوة التالية هي أن أرشدك لطريق الربح.

الحقيقة يا رفيقي أنني لا أعرف الطريق، ولم أدرك الطريقة بعد.

سنخطو سوياً في الظلام، نصنع نارنا بأنفسنا، نهاجم فرائسنا في اللحظات الحاسمة، ونحمي أرواحنا من هجمات عدونا الأكبر؛ وقفة الكتابة.

الوقفة هي أكبر عدو، لكنها في ذات الوقت أكثرهم وضوحاً. بثبات مُذل سيتوقف عقلك، ستشعر بسكون يتسرب في دماغك. لن تستطيع كتابة حرف.

إن منّ عليك عقلك بجملة، ستفرح، ثم ستحزن فوراً. أن تكتب جملة ترضيك فهذا يُفرحك، أما أن لا تستطيع تثنيتها وتثليثها وتربيعها فهذا يحزنك، يحزنك جداً. الكتابة إذن مواقف متشابكة، وعاطفة مختلطة. إنّ حزن الجفاف لا تطمره قطرة من حروف، بل يحتاج نهراً لا يتوقف، إلا في مصبه الطبيعي.

عليك هنا أن تكتب. حل بسيط واضح. فقط اكتب.

فكرة ربما، ربما جملة، وربما كلمة واحدة، الهام في الأمر هو أن تكتب يومياً أي شيء. ساعتها ستخطو خطوة للأمام، خطوة أولى. ولن يتبق لك سوى تسع وتسعون خطوة أخرى.

**

ما تحدث به القارئ الأول:

لهذا الكتاب الذي أقرؤه بقية، لكنها بقية من فراغ. منحني المؤلف تسع وتسعون صفحة خالية من أي نقطة حبر، بلا حرف واحد أو علامة ترقيم تدل على اتجاه.

هذه الخدعة التي أوقعني فيها، يجب أن يُحاسب عليها؛ لقد كتب مقالاً قصيراً وباعه لي ككتاب كامل. صفحة واحدة بسعر كتاب، لا عدالة هنا، يبدو أن الكتابة ليست عادلة، مثل الحياة. يبدو أيضاً أن المؤلف تاجر ماهر.

لكنني كنت ساذجاً من البداية، حين قررت شراء الكتاب؛ لماذ أحاول استكتشاف أسماء مؤلفين لا أعرفهم، ماذا أنتظر من مُقتحمٍ مجهول؟

 رغم كل هذا لا يجب عليّ أن أغفل أصل الشَرَك الذي أوقعني فيه، إنه عنوان الكتاب، لقد جذبني كالسائر نائماً، أردت أن أعرف اللعبة، أكتشف المتعة المخبأة. من المحتم أن أعترف أنه خدعني.

 رغم هذا  فلست ممن يتركون مثل هذا الأمر يمّر. إن كان يظنني غبياً أو كسولاً فسأفتح عينيه بأصابعي حتى العظام، سأوسّع جفنيه حتى النهاية، وسيتسع بؤبؤاه حتى الانفجار. سألعب معه لعبتي الخاصة.

 أملأ صفحاته الفارغة، أرتب حروفي فوق بياض لا ينتهي. حينها سيصبح كتابي أنا.

 إنه كتاب من يكتب. أنا أملك الفراغ الأكثر، وأملك القدرة على الكتابة بالطبع. هي عملية سهلة مثل الكلام تماماً، وأنا أهوى الكلام بلا توقف.

ليس ملء هذه الصفحات بعمل مضن. قال هو ذلك. قال اكتب ولو كلمة. كل ما سأفعله أن أكتب كل ما يأتي لخاطري، سيكون هدفي الواضح، طريقي المباشر للانتصار، هو تسويد هذه الصفحات البيضاء.

**

ما كتبه القارئ الأول ” مع الوضع في الاعتبار تعمده الكتابة بخط   Tahomaفونت 72″:

أنا أملك القدرة على الكتابة..

 أعلم جيداً أن الكتابة عملية سهلة..

أحب الكتابة..

سأنتصر على المخادع..

المخادع كلمة من كلمات لا تنتهي.

أنا أبحث عن جملة..

أنا أبحث عن كلمات..

أنا أبحث عن كلمة.

سأملأ لك باقي الصفحات بكلمة “أنا”.

أنا أيضاً مخادع مثلك.

أنا  لست أقل منك.

مخادع أنا.

أنا..

أنا..

أنا..

أنا.

**

الحقيقة أن خطة القارئ الأول لعقاب المؤلف، قد أثمرت عن انتشار الكتاب أكثر، فاشتهر المؤلف أكثر. وانعكس هدف القارئ في عقاب المؤلف على خدعته. استحال عقابه مكافأة غير متوقعة.

**ملاحظة ربما تهم أحدهم:

لم ينتبه أحد أن المؤلف لم يكتب كتاباً آخر أبداً. كان بائعاً جيداً أكثر من كونه كاتب جيد.

الحقيقة أيضاً أنه في نفس الوقت أنتجت هذه الطريقة العقابية، آلاف الكتب الجديدة، المختلفة.

لقد امتلك كل قارئ كتابه الخاص. حكايته المنفردة، المتفردة. تحول هذا الكتاب لبصمات أصابع متعددة، صار كل القراء مؤلفين.

 البعض امتلك أكثر من كتاب، ليحكي أكثر من حكاية. والبعض كان يخط خطوطاً عشوائية يُسوّد بها الصفحات، دون أن يكتب حرفاً. كان كل هذا في النهاية، يُعبّر عن قدرات ومهارات مفاجئة، مهارات تخص المؤلف الجديد.

**

** عن أفعال بعض القراء –المؤلفين الجدد- :

وصلت للمؤلف الأول عدة نسخ من كتابه الذي أكمله قُرّاء مخلصون، مؤلفون آخرون.

كتب أحدهم أحلامه، وصفها بدقة. أمّا الثاني فكتب كل ما حدث له منذ وعيه بالحياة، لم يترك حادثة أو تفصيلاً، وثالث ملأ صفحاته بحسابات ومعادلات رياضية. آخرٌ نسخ رسائله المتبادلة مع حبيبته، وهناك من كتب قائمة طويلة للأفلام التي يحبها. كانت أفكاراً لا نهائية، وحكايات غريبة أو مقلدة.

 حصل المؤلف على ثروة من الحكايا. كمفاوض ماهر، استطاع إقناع الناشر بسهولة متوقعة، أن طباعة الكتب الجديدة –مع بعض التعديلات التي لن تضر أحداً-، حق أصيل يرجع له وحده استغلاله. إنه صاحب الفكرة، وهم ينفذون ما تم الاتفاق عليه.

**

**تصريح مختصر نُشر في جريدة البلاد الأولى على لسان الناشر:

الفكرة أعقد مما يتصور الجميع، إنهم يهاجمون المؤلف حاقدين على ذكائه وشهرته.. بينما هم مهوسون به كنجم لامع، يطمحون لإسقاطه. اليوم أصدرنا الطبعة رقم ماْئة.. نحن ماضون على الدرب.

**

** مقتطفات أعجبت المؤلف الأول، كتبها المؤلفون الجدد:

*(( العابر من هذا الشارع لا يعود. عجوزاً كان أو طفلاً أو امرأة حبلى. هذا الشارع يمر بأول صف المقابر، ويظل متعرجاً بحذائها حتى بابها الأخير. بدأت الحكاية بجنازة الطفل الصغير، الذي دهسه القطار. الجميع يعرفون أن الطفل لن يعود، لكنه لن يذهب وحيداً، فكل من مشوا خلف نعشه لن يعودوا.))

 

*(( لرصيف المحطة ثلاثة مقاعد عريضة، رخامية باردة، خاصةً في شتاء تتزايد برودته عاماً بعد الآخر. يجلس شاب متوسط الطول، منكمشاً، ملفوفاً على نفسه، حاضناً جسده بذراعيه، لا يأتيه الدفء رغم ملابسه الثقيلة، المعطف الصوفي الطويل، والكوفية العريضة. كان يشعر بالبرد في عقله وبين أسنانه.

التقطت أذناه صوتاً أنثوياً خافتاً، وسط صمت المحطة. لمحتها عيناه تقف جوار الكشك. أقصر منه، محددة تفاصيل جسدها في الجينز الضيق والبلوفر الرقيق، سألت صاحب الكشك عن الرصيف الذي يأتي جواره قطار السادسة والنصف، طلبت كوب نسكافيه بملعقة سكر واحدة، ثم راقبها وهي تتجه ببطء نحو مقعد فارغ، لم تحتمل برودته، وقفت جواره تنفخ في كفيها، ثم ترشف رشفات من الحرارة الخالصة. جذبته الحرارة فاتجه نحوها مبتسماً آملاً، صوت القطار ارتفع باقترابه من الرصيف. وصل القطار أمامها لحظة وصوله. تحركت نحوه.

حين استقرت في مقعدها داخل عربة القطار، كان المقعد المجاور فارغاً، لكن النظرات كلها كانت موجهة نحوها، كل العيون منتبهة لهذا الرأس الأنثوي السافر، لا غطاء رأس يحميه أو يستره. تابعها الجميع منذ دخولها، وحتى جلوسها. كانت إناث العربة كلهن يغطين رؤوسهن، امرأة نحيلة بإسدال رمادي باهت، تخطت الستين بكل تأكيد. الطفلة التي لم تتعد العاشرة، يجب أن أشير أن أمها كانت منتقبة، فبدا حجابها منطقياً بشكل ما. بقية النساء والشابات كن محجبات أو مخمرات أو منتقبات. شفاههن جميعاً لا تتوقف. بدت هي لوناً غريباً في الطلاء.))

*(( السماء مالحة، تومض قَدَراً ومسارات متعرجة. هذا ما شهدته عيناه، وتذوقه لسانه بِرَوية. في أول الشارع عن يمينه، تنتصب مصفحتان متقابلتان ليسدّا مدخل الطريق. في آخر الشارع عن يساره، يتكرر المشهد، مضافاً له القليل من الفضوليين، يستطلعون ما لا يلفت انتباه الآخرين. اعتاد الناس في هذه البقعة، رؤية المصفحات تسد الشوارع أو تجوبها، في أي وقت وكل وقت.

في باطن الشارع وبين ظهرانيه- وهما مكان واحد بالمناسبة- يقف، رافعاً لافتته الورقية. لم يتبق منها، سوى قطعتي ورق متآكلتين، يسيل فوقهما لون أحمر، ينحدر حتى أصابعه. صوت الماء الساقط من أعلى، يغطي أصوات السيارات البعيدة، سارينة الشرطة لا تتوقف. واقفاً كنبتة صبّار وسط صحراء بلا نهاية، يرفع جبهته نحو السماء فاتحاً فمه، وعينيه، صارخاً بكلمة كانت تحملها الورقة الذائبة.))

**

أخبار الدعوى القضائية  تداولتها كل جريدة. تكلمت عنها كل مجلة، شهيرة أو مغمورة. كانت مقاضاة المؤلفين الجدد للمؤلف الأول، مصدر نشوة للكثيرين من القراء المخدوعين، أو المتابعين في صمت. ربما تحسسوا في ذلك محاولة لتحقيق عدالة ما.

لكّن أعمار القضايا لا نهائية، وسنوات التقاضي تُقاس بالعشرات.

كان لا بد من فكرة أخرى، يهزمون بها خداع المؤلف الأول، الذي كان يعرف ما يفكرون فيه، يعلم تماماً خطوتهم التالية.

. كان واضحاً أن الحل أمام أعينهم، لكنهم تأخروا في رؤيته قليلاً. لا يجب أن يكون لكل واحد كتابه. لقد تحتم عليهم أن يختاروا أفضل كتاب كتبه أحدهم، ليكون كتابهم جميعاً.  سيتبعونه صامتين. متحدين.

 

** ملاحظة ملفتة نوعاً ما:

الكتاب مُغلّف بأكياس شفافة ملتصقة بالغلاف الفاخر.

**ملاحظة هامشية:

ورق الكتاب كان من النوع المطفي  matt paper ، لقد تحمّل كل أنواع الأقلام والأحبار.

** ملاحظات محددة عن الكتاب الفائز:

الحديث عن تفاصيل اختيار الكتاب الذي يمثل الجميع، يستغرق بضعة كتب متوسطة الحجم.

 فالمسار بدأ بمحاولة تحديد من سيتولى الاختيار، تلتها العديد من محاولات تشكيل مجلس تنفيذي، مسئول عن المهمة.

كلها فشلت.

 الرائع في الأمر أن الحيوات التي انقضت، أو تلك التي دُمرت، لم تذهب هباءً. فقد تم الاتفاق في النهاية، على عمل انتخابات عامة يشارك فيها كل صاحب كتاب.

 هذه المحاولة أيضاً اضطروا لتكرارها عشرات المرات، ليستقروا على رأي راجح. لكنهم انتقوا كتاباً يمثلهم في نهاية الأمر، كتاباً يقف أمام المؤلف الأول ويرفض سطوته، وخدعته.

كان المؤلف الأول في هذه الأثناء، يصعد للسماء، فوق أطنان من أوراق البنكنوت، التي نالها من بيعه لنسخ لا تنتهي من كتابه.

**لم تنته الملاحظات، ولم تنته اللعبة.

الحقيقة التي مازالت مستمرة حتى الآن، أن اسم المؤلف الأول كمدعى عليه في القضية، قد اقترن باسم المؤلف الثاني الذي اختاره الجميع. فالكثيرون لم يوافقواعلى هذا الاختيار، أو على الاختيار الذي تلاه، أو أي اختيار تم بعد ذلك.

حتى أنه بعد سنين قليلة، كانت القضية تحمل أسماء الجميع كمدعى عليهم، كمتهمين.  

**ملاحظة غير واضحة تماماً، نشرها المؤلف الأول على صفحته على Facebook، وهو “يشعر بالإثارة” مشتركاً مع آخرين، كما وضع في النهاية وجهاً ضاحكاً:

اللعبة لا نهائية، نتيجتها محسومة منذ البداية.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون