الكتابة بوصفها جسرًا.. حينما يكتب محمد سليمان ليحييك

أكتب لأحييك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

يضعنا الشاعر المصري السبعيني محمد سليمان في ديوانه “أكتب لأحييك” إزاء فعلين أو ممارستين ربما تلخصان علاقته بالإبداع: الكتابة والتحية, حينئذ تسعى الكتابة لأن يصير الشعر جسرًا يربط الأنا بالآخر والقصيد بساطًا عابرًا الحدود ومخترقًا الحواجز, فالعنوان رغم تركيبه الموجز غير أنه مكتنز الدلالات؛ فالفعل (أكتب) يأتي مسندًا لضمير المتكلم الفردي (أنا)، فمن البداية تعلن الذات عن رغبة في أن تكون صاحبة الفاعلية، فاعلية الكتابة التي هي فاعلية الإبداع والحجاج، ومضارعة الفعل تعكس حالة من استمراريته الزمنية وامتداد مفعوله ودأب محاولات الكتابة. أما المتعلق بفعل الكتابة، وهو علته ودافعه، فهو للتحية (لأحييك)، وقد تكون التحية تقليدية برتوكولية أو إعلان تقدير أو إعلان تنبيه وتحذير، أما الضمير كاف المخاطب فالمفترض أنه يحيل إلى آخر، ولكن أي آخر يقصده؟ هل هو الإنسان عمومًا بوجوده الكلي وحضوره المجرد؟ أم هو الإنسان في عالم الغرب؟ أم الإنسان في عالم المدينة والآلية الصناعية؟ أم تشير إلى الذات (الأنا) باعتبارها (آخر) مجردًا؟ إذ تشكو الذات الشاعرة حالة من انبتات أواصر التواصل مع الآخر, مما أدى إلى عزلة الأنا:

أنتظر رسائل تأتي.. لا أعرف من أين

لا أحد هناك يرانى

لا أحد هنا ينحاز إليَّ

لكني خلف السور كميناء مهجور

أنتظر وأرنو

وأغربل بالأذنين الريح وأصغي

مثل وحيد القرن

يبدو أن الذات تقف على عتبات الانتظار تعاني من آثار الوحدة وتشكو عزلتها وهو ما يبدو في كثافة النفي الذي يعبر عن حالة من الفقد؛ فقد المعرفة والخبر وفقد الإنسان الحليف، أما تشبيه الذات لنفسها خلف أسوار العزلة والانتظار بميناء مهجور، فهو على طرافته وبكارته، يعبر عن حالة من الوحشة التي لا تخلو من أشواق اللقاء والأمل فيه، والميناء هو أول منزل للغريب أو الضيف ببلاد يقصدها، وهو ما يجسد حالة من الحنين والتطلع المتقدم لاستقبال الآخر من أول محطة للوصل وأقرب نقطة ممكنة للتلاقي، ثم يعود الصوت الشعري ليشبه الذات بوحيد القرن في تعديد للمشبه به، ثم تحذر الذات الشاعرة من تبعات الانكفاء على الذات والتفاف الصمت المهلك:

صوتك لايجتاز فمك

صوتك لا يحبو

ليهز هواء الغرفة

أخشى

أن يلتف الصمت علينا

ليحل دمي ودمك

إن شعور الذات باحتباس الصوت هو انعكاس لشعور بوحدتها وعزلتها، والبادي أن الآخر الذي تخاطبه الذات الشاعرة ليس سوى قرينها، ظلها الإنساني، فالعزلة الإنسانية تكرس لإراقة الدماء مما يعوز الإنسان إقامة جسور تواصل مع الآخر ائتناسًا به وتغلبًا على الغربة:

وماذا لو ثرثرنا كغريبين معًا

في الغربة ينجرف الإنسان إلى الإنسان

تكلم….

في فمك لسان

ولديك دم وفضاء واسم

وكأن هذا الوجود مغترب للإنسان أيًا كان موطنه. فهي دعوة حميمة للإنسانية لتلملم شتاتها وتقاوم تبعثرها نشدانًا لتلاحمها فى مواجهة التحديات الوجودية العصيبة التي تلاقيها.

  إنها رسالة شعرية تُبث عبر ضمير المخاطب المفرد الذي يحتل الرقعة الأكبر من مساحة ضمائر القصيد الذي يُعين المرسل إليه عبر عدة مستويات, منها ما هو سياسي فيكون الآخر هو الغرب المحاول بسط هيمنته, وقد يكون الآخر المُخَاطَب هو الإنسان عمومًا عبر مستوى وجودي وقد يضمر ضمير المخاطب خطابًا إلى الذات, كما أنه يشيع أجواء من الألفة بين قارئ القصيدة ومتلقيها نحو خطابها المصدر فهو يستدرج المتلقي ليورطه في الرسالة الشعرية؛ فيصبح الحديث وسطًا بين النجوى الداخلية والبوح والنصيحة, وفي المقابل يبعث المرسل رسالته بضمير المتكلم المفرد, وأحيانًا ما ينحو شطر المتكلم الجمعي؛ مما يجعل ضمير المتكلم المفرد “الأنا” يشي بوحدة الإنسان وعزلته الوجودية, فتبدو “الأنا” في أنويتها المنعزلة وحضورها المنفرد وكأنها تنوب عن الذات الكلية والأنا الجمعي للإنسانية عمومًا.

  وفى قصيدة يتلفع عنوانها “مديح للقيصر” بسخرية تنضح بشعور أسيف بالمرارة, مما يبرز مفارقة مدهشة بين عنوانها ومتنها؛ الذي تتجلى فيه “الأنا” الناطقة لتمثل الحضور الإنساني على صعيد إقليمي فتدعو “الآخر/الغرب” إلى أن يسمع خطابها له, والتخلي عن مساعيه الرامية فرض هيمنته وبسط نفوذه على الغير:

من الذي سيعبر البحر إلى روما

لكي يقابل القيصر؟

لا أستطيع العوم كالدولفين

لا….

ولا أجيد الغوص

رئتي ضيقة.. ولا أرى في الليل

والحيتان تحرس الممر

يعبر الاستفهام هنا عن الاستبعاد وانتفاء الاحتمالية، فما بين الذات والعالم هنا والآخر والقيصر في روما بحر فاصل تملؤه الحيتان ويغشاه الليل، فتشجب الذات الشاعرة منظورًا استعلائيًا للآخر المتغطرس الذي يبني إمبراطوريته المتوسعة باستلاب الغير, لتعلن الذات الشاعرة أنها غير قادرة على التواصل مع هذا الآخر في روما الرمز التاريخي للهيمنة الغربية:

القيصر الكبير لم يزل كبيرًا

وقادرًا على اختراق الوقت والمكان

مرة

يحط فى الشمال عرشه

ومرة

يسير باتجاه الغرب آخذًا روما

كمعطف معه

فتستخدم الصياغة الشعرية تقنية (القناع) إطلاقًا لخطابها عبر مستويين؛ أحدهما شخصي (القيصر) الذي يكني للسياسة الغربية الاستعمارية منذ القدم, في مقابل (علاء الدين) رمزًا للشرق العروبة وحضارتها, والوجه الآخر للقناع مكاني متراوح بين (روما) رمز القوى الاستعمارية في العالم القديم وبين (نيويورك وشيكاجو ونيفادا) رمز الهيمنة الأمريكية المعاصرة في إشارة إلى تناسخ الإمبريالية الممتد عبر العصور, كما تأتي لغة “سليمان” محقونة بالإشارات والرموز, فتبدو قنابل الغرب وصواريخه/ آلة الغرب الباطشة في مقابل مصباح علاء الدين وجنه/ سحر الشرق وثقافته الميتافيزيقية, وإزابة الغرب للنخل رمز للقضاء على الحياة؛ إذ يرمز النخل في الوعي الأسطوري إلى الحياة والتجدد الذاتي؛ فهي الشجرة الوحيدة التي لا تسقط أوراقها.

  وعلى ما يحمله خطاب “سليمان” الشعري من رسائل سياسية وإشارات أيدلوجية, إلا أن كثافة ما يجري به من موجات ترميز تشفيري ومد مجازي يحفظ صياغته الشعرية من الانجراف لتيارات الخطابية وينأى بها من الدخول في دوامات التقريرية والمباشرة.

 وقد تتعدى مشكلة الذات الإنسانية مسألة الصراع الحضاري بين الشرق في مقابل الغرب لتمسي صراعًا وجوديًا للإنسان مع موطنه/ مدينته:

فى المدن التي

تلتف بالدخان والضجيج والتراب

في المدن التي

لا تحتفي بالريح أو بالنهر

فى المدن التي

تباغت الحقول فى الظلام

والطيور والشجر

فى المدن التي

ينام فيها الناس أحيانا

أمام شاشة

أو فوق مقعد

أو تحت جسر

فى المدن التي

تقدس الحيطان والأقفال والأبواب

ندور كالأسرى

معبئين بالصور

ومحتمين كالأشباح دائمًا

بنعمة الغياب

لقد التفت المدن بالدخان والضجيج والتراب، وهي أمارات الفساد والتلف ولم تعد تحتفي بالريح علامة الثورة والتغيير أو بالنهر مصدر الحياة، ولقد باغتت المدن الحقول، مصدر ورمز الحياة المتجددة، أما ناس هذه المدن فقد ناموا أمام الشاشات وعلى المقاعد وهو مشهد دال على نمط حياة المدينة التي تقعد الناس عن العمل، مما يجعل الناس تروسًا آلية ومغييبي الوجود، فقد أمسى للبشر وجود شبحي، أي وجود باهت يكاد يقارب العدم، وأضحى الغياب نعمة وحماية في مدن الخوف، في مفارقة تتشكل بالسخرية والمرارة، فالغياب هو كالحضور، فتبدو مظاهر المدينة الصناعية الجامدة في مواجهة مع مظاهر الطبيعة الحية في صراع تسعى فيه المدينة لحجب قوى الطبيعة، فالمدينة (تقدس الحيطان والأقفال والأبواب) رغبة في العزلة والحجب وهو ما انعكست آثاره على ناس تلك المدن الذين لفتهم المدينة بالحصار، فيصبح مصيرهم هو الدوران في فلك الأسر والهروب من المواجهة والامتناع عن الفعل الإيجابي، حيث فقدت معالم المدينة هويتها:

فى المدينة لا النخل نخل

ولا الريح

ولا الماء ماء.

إنها صيحة “روسوية” منددة بحياة المدينة التي غيبت الإنسان وأبطلت فاعليته الوجودية, فأزهقت روحه وأبدلت فطرته النقية. إذ فقد الإنسان معرفته بالآخر:

أظنك لا تعرفني

وجهي لم يطفو على أوراق العملة بعد

وصوتي ليس قطارًا

تشيع في هذا الديوان أدوات النفي بأشكالها المتعددة كما في المقطع السابق، فتعمل بلاغة السلب على تأكيد انعدام الفعل الذي ييسر فرصة للتواصل مع الآخر، فقد تشيأ الإنسان, وبات التواصل مع غيره محدودًا أو منعدمًا؛ فالصوت ليس قطارًا يصل بين الأنا والآخر، واقترنت معرفة هويته بالعملة/ المادة؛ مما يوجب على الإنسان التمهل لرؤية الذات والآخر:

على مهل كي ترى

وكيلا تتوه وتنسى

وتبنى من الماء للنار دورًا

على مهل.. كي تريح يديك

وعينيك والأذنين

وكيلا تظن الحشائش نخلا

والنسانيس ناسًا

والكلام غيومًا تبل الدفاتر

والنثر شعرًا

تأتي هذه الدعوة للتمهل في الرؤية، رؤية العالم، ربما من صوت العقل إلى أسماع العاطفة والحماسة للذات، دعوة للتريث دفعًا للظن المبالغ والتقدير المفرط لقيم الأياء والموجودات، دعوة للتمهل في الإبداع الشعري حتى لا يختلط بالنثري.

…على مهل كي تُرى

وكي لا يظنك مستعجل حجرًا

والجنود غبارًا

وكي لا تخيف عصافير تحلم

بالحب والنخل

أو بزمن توارى.

إنها دعوة للتمهل في رؤية الآخر توخيًا لرؤية مصيبة مماثلة من الغير للذات, فإدراك الذات لايستوي إلا بإدراك الآخر. ومن اللافت في المقطعين السابقين استخدام تقنية (الأنافورا) التي تشيع على امتداد الديوان؛ وذلك بتكرار جملة محورية في مستهل مقاطع القصيدة (في المدن التي/ على مهل..) مما يجعلها متكئًا إيقاعيًا يسهم في ضبط مسافات الإيقاع بالقصيد, كما تشكل أيضًا منطلقًا دلاليًا. وهو ما نراه في تكرار استفهام رغم توجيهه للآخر إلا أنه يسقط عليه ما بداخل الذات من ضيق وريبة:

ماذا تفعل

حين يصير الشارع خطًا

والناس نقاطًا

والأبواب فواصل

والأبراج علامات استفهام

والصحراء هواء أصفر يحبو

أو يتمطى؟

ماذا تفعل

حين يصير الخوف محيطًا

والقلق محطًا

والكذابون لآلئ تلمع فوق التل

وأنواطًا وخيوطًا

لضمائر الخطاب وتنوعاتها- عند سليمان- دور في إبراز أحوال الذات، فيعكس ضمير المخاطب- هنا- عملية تجريد الذات من نفسها ذاتًا أخرى تخاطبها وتحاورها، فيما يبدو كانشطار للذات، وحضور ظلي لها، كما يبدو أن تكرار التساؤل (ماذا تفعل) يعبر عن شعور بالعجز عن الفعل في عالم المدينة الذي تتداعى معطياته على الوعي في تشكيلات مجردة كعلامات استفهام ونقاط وفواصل، فتبدو كائنات المدينة ذات حضور مجرد، ووجود رقمي وكمي، ويبدو الشعور بافتقاد القدرة على الفعل نابعًا من استبداد الزيف وطغيان الكذب في هذا العالم بعد أن صار (الكذابون لآلئ تلمع فوق التل وأنواطًا وخيوطًا)، فهو عالم البريق الزائف واللآلئ الكاذبة، فنجد صور “سليمان” تجمع بين التجريد؛ فالناس نقاط والشارع خط، مما يشي بتجرد كائنات الوجود من حيويتها, كذلك تجنح صور أخرى لتجسيد المعنوي؛ فالخوف محيط والقلق محط، مما يعكس وطأة ما يحاصر الذات من قلق وجودي مطبق. كما تأتي بعض الصور مشهدًا كاريكاتوريًا؛ يجسد شعورًا بالسخرية المكتنفة بالمرارة:

القيصر الكبير يمضغ الهواء

في الحديقة الكبيرة

القيصر الكبير تحت الشجرة

يزهو بفأره الذي يطارد القطط

وصقره الذي يراقص العصفورة.

يعمل تكرار المسند إليه (القيصر الكبير) على إبراز طيغانه واحتكاره للفعل الذي يتأخر بعد الاسم في الجمل بعكس التركيب المعهود لبنية الجملة في العربية، وينعكس أثر القيصر وفاعليته على موجوداته المرتبطة به كفأره الذي يطارد القطط وصقره الذي يراقص العصفورة في انقلاب لنواميس الفعل في الطبيعة، فتعكس تلك المبالغات عبثية كونية تسير عكس منطق الطبيعة.

…………….

(*) نقلاً عن أخبار الأدب أكتوبر 2016.

 

مقالات من نفس القسم