الفيلم الدنماركى The Guilty.. رحلة فى النفس البشرية

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 693
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يوسف نعمان

التطهر من الذنوب،  شعور يصل إليه قليل من البشر، يصعب فعله، لكن حين حدوثه يصل المرء إلى القدرة على الاستمرار فى هذا العالم القاسى، فيتواصل معه، وربما يستكمل مسيرته مع نفسه التى أرهقته، بخطط قد أُعيد ترتيبها.

هكذا يأخنا هذا الفيلم المثير “المذنب” كعمل أول لمخرجه “جوستاف مولر” والذى يبدو أنه قد اختار أدواته السينيمائية بمخاطرة شديدة، فنحن أمام فيلم تدور أحداثه خلال ساعة وخمس وعشرين دقيقة بداخل مكان واحد، وبطلها الذى نراه أمام أعيننا رجل واحد، يدير مجموعة من المكالمات التليفونية.

قبل الشروع فى التحدث عن المغزى الإنسانى من سرد هذا الفيلم خلال شخصياته – المرئى منها و المسموع “فقط”– يجب أن نرفع القبعة لـكاتب السيناريو إيميل نيجارد وللمخرج .جوستاف مولرعلى تقديمهم لهذا العمل الرائع

هذا العمل الذى جعلنى أجلس خمسة و ثمانين دقيقة لا أتحرك من أمام الشاشة، بصرى يحدق بموازاته مع مسمعى، لأنتظر نتائج إثارة شديدة الحرفية فى طرحها على الشاشة، بلا أى عامل من عوامل الإثارة المرئية أو السمعية المعهودة فى أفلام الإثارة و التشويق.

هكذا لعب جوستاف لعبته، بلا موسيقى، وبلا شخصيات تركض أو تطلق النيران، أو تريق الدماء، وبلا رجال بوليس يصوبون أسلحتهم فى وجه المجرمين، بل حتى وبلا مونتاج سريع التنقل بين لقطاته لإحداث إثارة بصرية، فكيف فعلها!

فعلها جوستاف حين توغل فى النفس البشرية، بما تتعرض له من آلام الحياة، حتى وإن كانت النفس هى المخطئة فى المقام الأول، عرضها من خلال حادث تتعرض له “إيبن”، الزوجة التى يخطفها زوجها ويترك أبنائه الإثنين “أوليفر” و”ماتيلدا” ، لنظل نسمع صوت إستغاثة “إيبن” طوال الفيلم، نسمع ضعفها و إحتياجها، نشفق على الأطفال، نتشارك مع “آسجر” فى أمنيته وهدفه بإنقاذ “إيبن”، نكره هذا الزوج العنيف الذى أثار الذعر فى نفس زوجته وأطفاله، ونتمنى له أشد العقاب.

كل هذا يدور من خلال أداء صوتى بديع للممثلة “جيسيكا دينيج”  –  “إيبن” من خلال مكالمات تليفونية، ومن خلال أداء بديع للمثل “جاكوب سيدرجرين”  الذى يلعب دور “آسجر”، “آسجر” ظابط  الشرطة الذى يبدو أنه متوقف عن العمل الميدانى وينتظر محاكمته فى الغد، يتمنى العودة لعمله وترك هذا العمل الممل فى استقبال مكالمات المواطنين، إلا أن هذه المكالمات التى أصيغت ببراعه شديدة فى السيناريو و الإخراج، قد وصلت بـ “آسجر” لقرارات وتغيرات أدارت دفة حياته إلى منعطفات أخرى.

كيف يرى الإنسان ذنوبه؟ محاولة منه ببحث مسبق عنها؟ … أم بحافز من رؤيته لأحداث البشر من حوله، فيوقظن فيه حس المساعدة والرغبة فى إنقاذهم بعدما استشعر آلامهم، فيستشعر هو الآخر آلامه وآلام من أذنب إليهم فيقرر أن يتتطهر!

أهكذا كانت مكالمات “أيبن”  لـ “آسجر” عميقة إلى ذلك المدى! ربما، كل منهما تعاطف مع الآخر بينما لا يراه، يستشعره فقط، و هل الحياة إلا شعور يتدفق بداخلنا فنحب من نحب ونلفظ من لفظ، فتتحرك دوافعنا للإنقاذ أو المشاركة أو الدفاع أو حتى الحب أو القتل،  لمجرد بشعور يتسلل إلى نفوسنا بقوة.

هكذا أدار جوستاف مكالماته التليفونية ليسرد بها مشاعر شخصياته من خلال سيناريو مكتوب بحكمة و حرفية شديدة الصنع …

كل هذه المشاعر والألفة بين الشخصيات والإثارة المتدفقة، نتآلف معنا كمشاهدين، فنظل مشدودى الذهن فى إنتظار إنقاذ “إيبن” وأطفالها، إلا أنها كانت المفاجأة، المفاجأة التى أظهرت المستوى الآخر من هذا السرد السينيمائى، ليست مجرد حادثة عابره كحوادث يتلقاها قسم الطوارئ بالشرطة، إنما كانت إثارة وقصه لتهيئة نفس المشاهد لتتوغل بنفوس الأبطال، فترى منهم الجزء الآخر غير المعلن عنه، هكذا كانت لعبة جوستافو  وألبرستن، مفاجآت درامية تقلب مشاعرنا وتأخذنا لمنحى أخر تماما، ننظر لكل الشخصيات بمنظور جديد، بل ننظر لأنفسنا فى حكمها على الآخرين و نعيد حساباتنا.

نرى “إيبن” من منظور آخر، فنتعاطف معها، ومع زوجها الذى كنا ننتظر معاقبته فى أول الأحداث، بل نتعاطف مع “آسجر”، الذى أعلن سره فى مكالمته الأخيره مع إيبن، سره الداخلى الذى أعلنه ليتطهر، ليزيل عن كاهله عبء الذنب، ليعترف ببشريته الخطائة تحت ضغوط الحياة، وليدور حوار بين “آسجر” و”إيبن” تملأه المشاعر والاعترافات من الطرفين، يتطهر “آسجر” من ذنبه و يلهث فى محاولة إقناع “إيبن” أن تتطهر هى الأخرى من فعلتها المشينة المرعبة.

هكذا كان المذنب، ليس مذنبا واحدا هو آسجر، بل كان معه من استشعرهم واستشعروه، “إيبن” بقصتها غير المعتادة و بذنبها القاسى، حتى رشيد الذى كان ينوى ذنبا جديدا بالشهادة الزور بناءا على طلب “آسجر”.

هكذا دارت أحداث هذا الفيلم الدنماركى الشيق، إثارة و جريمة و ذهن مشدود بلا نقطة دم واحدة نراها بأعيننا أو صوت رصاصة يخترق مسمعنا.

سيناريو اعتمد على حبكته المدروسة بعناية، وشريط صوت كان بطلا مشاركا فى الأحداث، وممثلون أبدعوا فى أدائهم إن كان بوجوههم أو فقط بصوتهم، ليخرج لنا عمل أول لمخرجه، لا أعتقد أننا سوف ننسى أبدا درامته التى أخذت نفوسنا لتتوغل بها بداخل نفوس هذه الشخصيات، لتتعاطف و تبكى وتتفاجأ و تتطهر معها، و لنعيد النظر نحن الآخرون بداخل نفوسنا، لعلنا أيضا مذنبون نبتغى التطهر

………………………

المذنـــب – إنتاج 2018  

سيناريو: إيميل نيجارد ألبريستن – جوستاف مولر

إخراج: جوستاف مولر

 

مقالات من نفس القسم