العمى يصيب اللسان أيضاً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 53
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبدالله ناصر

كان الأولون يوصون المرء بأن يمسك لسانه كأنه كلب، أو يحفظه كأنه فرج، أو يسجنه كما نسجن المجرمين فالأسنان البيضاء أو حتى الصفراء إذا اصطكت صارت قضبانا. ما وُضِع اللسان في الفم على ما يبدو إلا ليمكث هناك فإذا خرج وقعت الكارثة شأنه في ذلك شأن الرصاص في المسدس، والمسدس في الجراب. لم يسبق لفمٍ مغلق أن قطع وعداً وأخلفه بعد يوم أو سنة. ربما كان الصمت، وقد استبيحت اليوم كل الحصون والقلاع، هو الحصن الوحيد الذي وقف صامداً طوال هذه القرون.

كان صمت أبي هو الصمت الأول، كان صمتاً مخيفاً يشبه صمت القضاة قبيل إصدار أحكامهم القاسية والنهائية بصرف النظر عن عدالتها. وقد كان يضيق بالكلام خصوصاً عندما يبدو مشوشاً فلا يؤدي إلى معنى واضح، ولكم حاسبنا في زمن المراهقة على كلمةٍ وضعناها في غير مكانها. كان علينا أن نرتب الكلمات في الجُمل كما نرتب الملابس في الخزانة أو نغلقها فنصمت. عشنا في بيت هادئ، يحيط به من اليمين جارٌ أرمل، ومن اليسار بيتٌ مهجور فلا فرق كبير بين البيوت الثلاثة. كان ذلك الزمن -الذي يبدو بعيداً اليوم- ميالاً للصمت، فلا طائرات تهدر طوال اليوم، ولا مركبات ساهرة، وكان التلفزيون ينام مبكراً مثل عجوز، وتأوي كل قناةٍ إلى فراشها في الحادية عشرة ليلاً. حتى تلفون البيت كانت يد أبي تمتد في الليل لأسلاكه فتنزعها من الجدار وهكذا لن تسمع حركةً في البيت ما لم تكن ذا أذن حادة، عندها فقط قد تسمع قلب أمي وقد وضَعَتْ للتو صماماً معدنياً في قلبها يرن مع كل نبضة. يتكتك مثل الساعة عسى ألا يتوقف أبداً. أتذكر حينها أن جدتي أصيبت بالعمى فكأنه أصاب لسانها أيضاً وهكذا انطفأت حكاياتها. ما إن ينتصف الليل حتى يغدو الصمت كاملاً وينعدم الفرق بين الأحياء والأموات.

كان الصمت عقاب أمي المفضل، يكفي أن تشيح بناظريها فلا ترد حتى أتعلق بأستارها فأتبعها في كل أرجاء البيت من المطبخ إلى الصالة مروراً بغرفة النوم وصولاً إلى الحمام. كنت أقف في الجهة الأخرى متوسلاً أن تسامحني، وكم تمنيت لو تضربني عوضاً عن هذا الصمت الذي كان يؤلمني أكثر. ثم كبرت، للأسف، وفقدت براءتي فتعلمت اللامبالاة بل وحتى المساومة.

في “صورة دوريان غراي” لأوسكار وايلد كهل توقف عن الكلام وذلك لأنه كان قد استنفد رصيده من الكلمات عند بلوغه الثلاثين. وفي “ضيعة الأرامل” لجيمس كانيون رجل عُذِّب حتى القتل دون أن ينتبه العسكر إلى لسانه المقطوع. وفي قصة “اتفاق معمد بالدم” لبينيديتي يصل أوكاتبيو إلى الثمانين فيصمت حتى يظن أبناؤه وأحفاده بل وحتى الطبيب أنه صار أخرس وهكذا يعيش سنواته الأخيرة. يبدو أوكتابيو الوحيد الذي اختار الصمت. لا أدري ما يقوله المعجم عن الصمت والسكوت، لكن الصمت خيار في المقام الأول على عكس السكوت، الذي ربما بمزيد من الإلحاح والضغط يفشي المرء بعدها كل شيء. في الصمت لا نندم ما لم نخفِ كلمة حق أو شهادة صادقة، وفي الصمت نرتفع ونترفع فلا نخوض فيما لا يعنينا، وفي الصمت نقترب من الحكمة إذ نقطع تسع أعشارها أو العُشر الأول على الأقل. وفي الصمت نُبل، ثمة من يتعرض للتعذيب الآن أو بعد قليل أو أمس فقط لأنه يرفض أن يشي بالرفاق. وفي الصمت نتعبد، قيل إن رجلاً من الأنصار مر بمجلس فقال توضئوا فإن بعض ما تقولون شرٌ من الحدث.

لطالما حلمت بكتابة قصة عن صديقين أو زوجين، يتحدثان صامتَين، ويتحاوران طويلاً بلا كلمات بل ويضحكان، ويتخاصمان ويتصالحان في صمت، يكفي أن تعبر الفكرة رأس أحدهم حتى تظهر في الوقت نفسه في رأس الثاني، غني عن القول إنهما لا يشكوان من الخرس، لكن نصاً مثل هذا بالطبع لا يمكن كتابته بالكلمات، ربما يكتبه الصمت.

مقالات من نفس القسم