الرواية .. اقتفاء الأثر

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ياسمين مجدي 

لماذا تبقى الجدة دائمًا في الذاكرة؟ هل لأنها فحسب ذلك الكائن المسالم الودود، أم لأنها بوابة كبيرة للحكاية. الجدة تعرف أشياءً كثيرة عن العالم، ونحن نتوق دائمًا إلى أن نمتلك مفاتيح الأشياء، دون أن ندري أن رحلة مجيئنا كلها للبحث عن المفاتيح، عندما نجدها يكون الهدف من الرحلة - من وجهه نظري- قد تحقق.

الفن بحث دائم عن المفاتيح، لذا ففي كل رواية مفتاح إذا تمكننا من فك شفرته، ربما نفهم جيل كامل من الكتاب، فأفلام المخدرات مثلاً انتشرت في فترة معينة لتعكس ما حدث في المجتمع وقتها من انتشار للمخدرات. الرواية أيضًا عندما تنتقي أشياءً من العالم لتحكيها فربما تكون علامة على ما يعيشه جيل كامل من المبدعين في المجتمع الآن، وإشارة لإحساسهم بذواتهم بداخله.

فيكتب الطاهر الشرقاوي في أحد تدويناته مقارنًا بينه وبين ممثل ظهر في لقطة واحدة في فيلم، قائلاً: “ماذا لو كانت حياتي مجرد مشهد صامت لن يتذكره أحد.. ياااه… جسد ضئيل لن يعلق في ذهن أحد.. أمرق مسرعًا دون أن أحظى ـ ولو لثانية واحدة ـ بكلوز أب على وجهي”. ثمة إحساس لدينا بأننا غير مرئيين ربما لذلك نكتب في محاولة لنكون موجودين. حتى لو كان هذا الوجود بكتابة عنيفة بعنف ما كتبه طارق إمام في “هدوء القتلة” عن رجل يهوى القتل، فالموت قد يكون بديلاً وملاذًا وانتقالاً “لتصير أكثر جمالاً، كانت فى حياتها امرأة قبيحة”. فالقبح حاضر في وعي جيلنا بشكل شديد، جيلنا الذي تربى على إعلانات التطعيم ضد شلل الأطفال، وتحذيرات وزارة الصحة من ابتلاع البوتاس، أو الانفجار السكاني ووسائل منع الحمل غير الملائمة و”الرجل مش بس بكلمته، الرجل برعايته لبيته وأسرته”، وبالنسبة للبيت والأسرة سنجد في كثير من الروايات نموذجًا لرفض العائلة التي تجاهلت مشاعر الأبناء أو استغلتها، كما نجد نماذج للعزلة عن الأب أو الأم، فلدى محمد صلاح العزب في روايته “سرداب طويل يجبرك سقفه على الانحناء” أب يعذب ابنه دائمًا وينتقم منه بسبب خطأ أمه، ويتكرر النموذج في “وقوف متكرر” حيث رفض لسلطة الأب ورغبة في الاستقلال. نظل في مواجهه مع قسوة الحياة كما يبدو لدى محمد الفخراني بهذا العالم المهمش الحقيقي إلى درجة القسوة في “فاصل للدهشة”، ورغم ذلك تنمو لدى الفخراني أحلام رومانسية بإعادة تفسير العالم من جديد في مجموعته “قبل أن يعرف البحر اسمه”. ويستمر الحلم الرومانسي في قصص حب حكايات نهى محمود.

الحلول الروائية تحاول مواجهة هذا الإحساس بإنعدام الذات، فتلجأ شيماء زاهر في مجموعتها إلى قصص الأطفال حيث حكايات البلياتشو والفراشة وأحلام طفولية مماثلة، في تلك الحالات من الكتابة يكون الهروب إلى العالم البريء. والحل الآخر هو الأمل في عالم آخر جميل نذهب إليه كما حلمتُ في روايتي “معبر أزرق برائحة الينسون”، وتؤكد سهى زكي الفكرة نفسها في روايتها: “جروح الأصابع الطويلة”، قائلة: “سيعرف كل الناجين من الحياة – وفي وقت يصعب عليَّ الآن تحديده- أنهم الفائزون بلا شك، وأن الناجي من الدنيا تهدأ روحه بلقاء أحبابه الحقيقين في السماء، حيث لا منافع ولا مصالح متبادلة تعب منها جسدي النحيل”.

أسأل نفسي الآن عن عالم الكُتاب، إذا كانوا يعاينون مناطق مؤلمة كهذه في الحياة، فلن يصبح فعل الكتابة سهلاً، كما يقول محمد حسين بكر: “قد يظن البعض أني آتي إلى هذه الصفحات بهدوء شديد وأكتب في هدوء شديد… لا، كل كلمة فيها احتراق وهموم. كل حرف معاناة”، “لا أريد أي شيء سوى القليل من الحزن وكثير من الكلمات أنني أحب الكلمات… وعندما يمر القلم فوق الورقة وأجتاز سطرًا أشعر بالفخر ليس كل الناس مثلي أشعر بذلك”. بهذا قد تكون الكتابة علاجًا حقيقيًا ببوح الكتاب بما يعايشونه. يظهر تلك الأيام كثير من الكتاب الجدد، كلهم – كما أحب تفسير الأمر- يعالجون أنفسهم، فالكتابة بحث عن الذات، وكل هؤلاء الذين يكتبون ينقبون، صارت الكتابة أكثر من مجرد تعبيرعن الآخر، الكتابة ألم شخصي متجدد.. الكتابة حزن نبيل.

المركب حين تمر في النيل تُحدث تموجات. والإنسان أكثر من مجرد مركب، الإنسان حياة كاملة، غضب وكراهية ومحبة وانتقام. الكتابة هي اقتفاء أثر الناس والحياة. وجدت منذ أيام صفحة على الفيس بوك عنوانها “صدقة جارية لياسمين مجدي” فتاة تحمل اسمي نفسه، وقامت فتاة أخرى بعمل هذا الجروب لها، قائلة: “الجروب دة علشان بنوتة عندها 21 سنة اسمها ياسمين مجدي توفت فجأة، وبجد أنا عمري ما شفت البنت دي بس موتها أثر فيا أوي”.

سأشك للحظات طويلة هل أكون أنا هي التي ماتت، يحملني السؤال إلى آخر.. هل بعد موتي يظل لي أثر، وخلفي تركت حكايات.

 

 

خاص الكتابة

 

مقالات من نفس القسم