الحقيبة السوداء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

اتخذ الشاب قراره حين جذبه المقهى القديم برواده القلائل. هبط الدرجات الحجرية الثلاث إلى الداخل. يده اليمنى منتفخة العروق من ثقل الحقيبة السوداء المُكدَّسة. تَلمَّس بعينيه الطوافتين كرسيًا، ومنضدة فارغة. وجدهما فى الركن الأيسر بعد أن دار قليلًا فى مكانه. تقدم متجاوزًا بعض الرواد إلى الركن الأيسر. دس حقيبته بين أرجل الكرسى الخيرزانية، وأرجل المنضدة الخشبية الصغيرة العالية.

يدير المقهى رجلٌ قصيرٌ مدكوكٌ كالقنفذ. يناديه الصبى الأسود النحيل الذى يتنقل بصوانى الشاى بين الرواد بـ”عم السماحى”. يروح “السماحى”، ويجيء وراء النصبة الرخامية العالية معطيًا الصبى _ الذى يتناول الأكواب الفارغة من الأول _ إشارات، ونصائح. الصبى الأول يدور كالمكوك بين الرواد بصينية الشاى العائمة بالماء. فوقها أكواب الماء البارد، والسحلب، والكوكاكولا.. والشِيَشْ بعد ذلك يضعها أمام الطالب، ثم يسحب طبقًا من الألومنيوم المثقوب من منتصفه مع مجموعة أخرى على مسمار فى الجانب بجوار النصبة. يُمرره فى رقبة الشيشة حتى يستقر على حامله، ويدس الحجر الفخارى المعبأ فى مكانه. يضع الفحم، والمصفاة فوق الحامل المعدنى، ثم يمنح الطالب مبسمًا أبيضَ من البلاستيك فى كيس شفاف. اللغط الذى يرسله الجالسون هدأ قليلًا. جاءت النظرات من العمق الآخر موجهة للحقيبة السوداء المكتظة بأشياء يرتعب بعضهم من تصورها. نغمات نشاز لتليفونات محمولة يرفعها أحدهم إلى جانب وجهه بين زملائه على الطاولة، وهو يتحدث بصوت عالٍ مرسلًا لهم إشارات مطمئنة بعينيه: “أيوه يا باشا. أنا هنا جنب الوزارة، مستنى سعادتك“.

الحقيبة السوداء المكدسة تحل مرة أخرى بدلًا بكل اهتماماتهم. معظم رواد المقهى جاء من محافظات بعيدة؛ لينهى شيئًا ما مهما فى الوزارة.. كاتب القصة يجلس وحيدًا أمام صاحب الحقيبة السوداء. يحمل خطابًا مهمًا لموظف كبير فى الوزارة. سوف يعيد إليه وضعه الوظيفى، وترقيته التى تأخرت. يتوجس من كل حركة. ويتابع الأخبار بشغف. إنه حين يسافر يحدق فى وجوه الركاب؛ ليطمئن. لو رأى واحدًا منهم غريب التصرفات، أو يوحى منظره بأعمال إجرامية فإنه يُفوِّت السيارة إلى أخرى، وإذا ارتكب أحدهم هفوة كالحِدَّة فى الحوار مع أحد آخر يظل ينظر باتجاهه معتقدًا فى كل لحظة أن ذاك الشاب، أو الرجل سيخرج مطواة، أو مسدسًا فى أيَّة لحظة؛ ليرتكب جناية مفاجئة يكون هو واحدًا من الضحايا فيها. إذا توجس من راكب خلفه، أو امرأة يظل يتحسس جيوبه التى يوزع بها أمواله القليلة.

لما كان، كاتب القصة، قد تعب من المشى فى شارع الوزارة جاء إلى المقهى حسب ما أمره الموظف الكبير الذى لم يأت بعد. جلس ينتظر اتصاله به. الآن هو محاصر بالشك. تضطرب خيالاته كل لحظة منذ دخل الشاب صاحب الحقيبة السوداء الكبيرة. يبتكر سيناريوهات، ومواقف كلها تذهب به محمولًا على خشبة فى طريق المقابر بقريته. لو قام ليدفع لـ”السماحى” حساب القهوة السادة، والشيشة فسوف يعود إلى المشى مرة أخرى بين أكداس متباينة من الوجوه الشاحبة المريضة، والكبيرة التى تئن، والمتطلعة فى كل ما حولها بوقاحة. ساعتها سيرى نفسه رقمًا من ألوف لا يعنى شيئًا. كما أن أقدامه لن تقوى على المشى أكثر من ذلك. سيعود مرة أخرى إلى المقهى الذى تناسب حساب طلباته ماله القليل. لو مال على أذن أقرب شخص إليه؛ ليحثه على الشك فى هذا الشاب الجالس وراءه _ وفى حقيبته السوداء الغامضة التى لا بد أن تُفتش _ فقد يضحك الآخر منه، ويتهمه بالجنون؛ فكم عدد الذين يحملون حقائب كبيرة فى سيارات الأجرة. فى الشوارع، والمطاعم، والمقاهى.

لو بدأ يومه بحكاية كهذه فسيصيبه الاضطراب. حتى أمام الموظف الكبير الذى سيسأله بضعة أسئلة، ثم يعيد إليه بعض حقوقه.

لَفَّ كاتب القصة رقبته إلى الخلف فقابلته نظرة الشاب الوقحة. لفحه _ حينئذٍٍ _ الخوف. لا.. لن يموت بهذه الطريقة. لديه زوجة تمضى أيامه معها كما يمضى الماء حول الجسور الكثيرة. رغم ذلك فالحياة لا يمكن التفريط فيها. أولاد ينتظرونه بشغف هم زاده من الأمل. إنه يشاهد الأخبار كل يوم، وبرامج التوك شو. يقرأ روايات التشويق البوليسية؛ ليغذى ذلك الجانب المحرض على الجريمة من نفسه، لكن ما يحدث هناك على الشاشة لن يحدث له بالتأكيد. ولن يصير رقمًا فى عداد المفقودين فى الحادث الإرهابى.

جاء صبى المقهى؛ لينقذه من هواجسه التى لا تهدأ متطلعًا إلى صاحب الحقيبة السوداء الكبيرة.

أيوه؟

شاى مظبوط.

فتى المقهى لماح فيما يبدو من ردوده. عيونه سقطت بجوار حذاء الجالس فشدت انتباهه تلك الحقيبة السوداء الكبيرة المستطيلة المنبعجة..

شاى مظبوط للأستاذ بتاع الشنطة السودا هنا.

للحظة تخيل الرواد القلائل الذين يجلسون _ لوقت محدود، حتى تأتى مواعيدهم، فيصعدون الدرجات الحجرية ليذهبوا _ أنه ينبههم لهذا الشاب، وللمصائب التى قد تحملها اللحظات القادمة. تحركت الرقاب حركات لطيفة فى البداية. حَلَّقت على وجه الشاب، ثم حطت على حقيبته. كان وجهه قمحيًا غامقًا ضخمًا. رأسه مُخْضَّرَة ببوادر شعر محفوف بموسى منذ أيام قليلة. ذقنه هى الأخرى محفوفة، لكن جروح الحلاقة السريعة تنتشر بها.. لا بد أنه لم يعتد حلاقتها من قبل. كان يرتدى تى تشيرت أبيض بلا أيَّة علامات، وبنطالًا أخضر. يتكتك بقدمه ذات الحذاء الكاوتشوك الأزرق على الأرض. أما قدمه الأخرى فمنطوية وراء الحقيبة السوداء..

معظم رواد المقهى يملكون حقائب صغيرة يفتحونها؛ لينشروا أوراقها ويراجعوها. حتى كاتب القصة؛ فلِمَ لم يُلمِّح لأي منهم عندما طلب مشروبًا بصاحب الحقيبة؟

أربعة من الرواد الجدد انتبهوا لتلك المفارقة. بدؤوا يتهامسون حول هوية صاحب الحقيبة، لكن أحدهم _ وكان رئيسًا فى العمل بشركة المقاولات. حسب ما توحى هيأته، وطريقته فى إعطاء الأوامر لرفاقه الذين يرتدون ملابس العمل الحِرفى _ قال: “إن ذلك هو الجنون بعينه. العاصمة تعج بالغرباء الذين يبحثون عن مأوى. ولو تحركوا حركة واحدة فسيتهمهم الناس بالجبن. وقد يتحولون فجأة إلى قسم الشرطة بتهمة البلاغ الكاذب. وتضيع مهمتهم هباءً. هناك رواد قلائل من أهل المدينة لا بد أنهم من سكان الجوار، أو هو واحد من الباعة الجائلين الذين ينتشرون بطول الشارع. جاء؛ ليشرب شايًا، ويُرتِّب نفسه قبل أن يستلم عربة البضاعة فى ورديته الصباحية“.

رجل يرتشف الشاى. ابنه يشرب الكوكاكولا. نظرا مرة واحدة دون اتفاق مسبق، قاطعين حوارهم. اثنان _ ممن لهما نظرة خاملة، ووجه عجوز _ يلعبان الطاولة. واحد كلما شرب من كوب الشاى لَفَّ رسغه ونظر فى ساعته ذات البنورة المستديرة الكبيرة، والمقبض الفضى الضخم. على المدخل يبرز ظهر رجل يلبس بذلة رمادية مقلمة قديمة. يتقافز كالقرد أمام زملائه الضاحكين. هو يمثل لهم حكاية يحكيها. أما كاتب القصة فيتابع كل ذلك، ويفكر بمصير الجميع لو كانت الحقيبة تحوى نهاياتهم جميعًا.

خفتت الضحكة وتكة زهر الطاولة؛ لأن اللاعبين انتبها. قال أحدهما إلى الآخر: “هذا الشاب لا يشرب شيشة، فلماذا طلبها؟”. رد الآخر ،ليكمل حلقة التوجس بكلامه: “لا لشىء إلا ليموه على شخصية الإرهابى الحقيقية التى يملكها“.

وانتشر همس متوجس فى كل طاولة، لكنه لم يلتحم مع رواد أى طاولة أخرى مجاورة، أو على البعد.

سعل الشاب سعالًا حادًا بطريقة لم يتوقعها أحد. لَفَّ الرجل القرد ذو الذلهَ الرمادية القديمة من باب المقهى موجهًا عينيه الضيقتين إليه: “طالما مش بتشربها ليه تطلبها؟!”. ضحك، فضحك رفاقه بعصبية، وتحفز.

إقحام لم يعتده المكان. فى الشارع أعداد هائلة من الناس تروح، وتجىء.

الآخرون عيونهم على الشاب الذى يصطنع ما يفعله؛ للتمويه. مدركون أنهم كلهم أصبحوا على قلب رجل واحد. شاب مضطرب خائف يُدبِّر شيئًا فظيعًا، لكن أحدًا من الرواد لا يملك دليلًا ضده حتى الآن.

يتساءلون: لماذا تهملنا الحكومة، وتترك لنا مقهى كهذا بجوار الوزارة دون أن تفتش رواده؟! تنهمر على رؤوسهم خواطر شتى.. المقهى أثرى لم تحدث به حوادث إرهابية من قبل. الرواد يجلسون دقائق قليلة حتى يأتى دورهم، فيذهبون سراعًا بأوراقهم، وحيثياتهم؛ لإنهاء مهمة ثقيلة. القادمون معظمهم من محافظات شتى لا يعرفون بعضهم بعضًا، لذلك لا يمكن أن يستهدفهم أحد معًا.

ليس بالمقهى حشيش، أو بانجو. صاحبه الثمين ورثه عن أبيه الذى يقف وراءه فى برواز مُذهّب أعلى الحائط المجاور للنصبة. يعرف أن مكاسبه لن تقل مهما انخفضت أسعاره بجوار الوزارة، وروادها.

بين توجسهم، وفضولهم الذى اشتعل دخل شاب آخر إلى المقهى بحقيبة سوداء مكدسة تشبه الأولى. يرتدى تى شيرت أزرق، وبنطالًا رصاصيًا فاتح اللون، وحذاءً كاوتشوك أبيضَ متسخًا، ونظارة شمس مدورة. رأسه حليق. كذلك ذقنه بها جروح كالأول بالضبط. سحب كرسيًا. جلس فى الركن الأيسر بجوار زميله الذى يقاربه فى العُمر. طلب زجاجة كوكاكولا.. رفعها على فمه مرة واحدة، ثم أنزلها فارغة، ثم سحب الحقيبة السوداء الأخرى تاركًا حقيبته مكان الأولى دون أن يُعلِّق. الرواد جميعهم راقبوا ما حدث: “يتم اللعب بأعصابنا، وحياتنا، ونحن صامتون“.

مشى خطوات. وضع الحقيبة على منضدة صغيرة وراء الباب. فتحها. رأوا كومة من ملابس غير منسقة. أعلاها سجادة. دس يده فى جوفها، ثم أغلقها.. ومضى. بادلوا بعضهم نظرات متحفزة. بدأت الطاولات المتباعدة تتحاور بكلمات مقتضبة سريعة، أخرج الشاب تليفونه المحمول. اصطنع مكالمة. مشى خطوات تاركًا الحقيبة الأخرى التى جاء بها الآخر. أبدلها، ومضى منذ عشر دقائق. فى لمحة وقف فى مواجهته الرواد الذين يجلسون قرب الباب الخارجى: “رايح فين؟!”

سحبه الآخرون بالداخل: “تعال يا أستاذ! اتكلم هنا جنب شنطتك عشان متتاخدش“.

جلس الشاب متأففًا. أغلق تليفونه دون أن يتم مكالمته.. وصل الخوف لدى الجميع إلى الذروة. حتى كاتب القصة الذى اتخذ قرارًا بالمغادرة؛ فهو لا يتحمل ضغط هواجسه. انتظر قليلًا؛ فقد تصاعدت الدراما من الموقف. انتظر مثلهم ابتسامة الشاب الساخرة التى تخبرهم أن ما يحدث الآن هو حلقة فى برنامج الكاميرا الخفية؛ لعرضها فى رمضان القادم، لكن ذلك لم يحدث.. ولدقائق تمنوا أن يغادر بحقيبته على أن يسمعوا صوت تفجير هائل فى مكان قريب بعد دقائق. وقف الشاب وحده مرة أخرى دون أن يحمل الحقيبة السوداء المكدسة، أو ينظر إليها. تمطى فاردًا يديه مطرقعًا عظامه، فظنوه يستهين بهم. أجلسه رئيس عمال شركة المقاولات فى كرسيه مصوبًا له إصبع مهددة. بينما اشترك الكهل الذى يجلس أمامه بالضبط فى الحوار قائلًا بنرفزة: “أنت مين أنت؟!”. الباقون أتوا فرادى من جوف المقهى القديم العالى، ومن خارجه وهم يصوبون له نظرات نارية. بينما ينقل هو نظراته إليهم بحدة محاولًا إبعادهم عنه بيديه مستفهمًا عن سر إحاطتهم به. بعد لحظات من النظرات المتبادلة تلقى صفعة أولى من رئيس العُمال سريع الاستثارة، فردَّها الشاب بسرعة، فتلقى صفعات، ولكمات مجنونة من أكثر من واحد.. وتطوح على الأرض صارخًا: “هامووووت! سيبوووونيييي! والله ما انا عاتقكم“.

كاتب القصة ابتعد ناحية النصبة، ومعه بعض من الرواد الخائفين من العراك مشيرًا بخوف للحقيبة السوداء التى ما زالت موجودة بين الطاولة، والكرسى صارخًا: “أوعوا الشنطة السوده! الشنطة السوده! الشنطة السوده!”.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون