الحرية والخطيئة..تاريخ العالم السري للبغاء روائياً

عصام الزهيري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عصام الزهيري

في رواية “سعديه وعبدالحكم وآخرون” (ميريت 2006) للروائي المصري حسين عبدالعليم، يبدو التاريخ ليس بوصفه جوا أو مناخا ديكوريا للأحداث، بل مسارا روائيا يحدد كتيار نهر اتجاه الأحداث، ونسيجا من الدراما تختلط خيوطه بخيوط دراما الحدث، وأحيانا تلتحم الواقعة التاريخية بنسيج الحدث الدرامي بحيث يصبح من العسير في بعض الأحيان على القاريء غير الملم بوقائع التاريخ أو بأسمائه المشهورة التفرقة بين ما ينتمي من بعض أحداث الرواية للتاريخ وما ينتمي منها لخيال الروائي.

“فكر كلوت بك: وقد حان الوقت

عليه أولا أن يتخير كلماته جيدا ويتجنب تماما الإساءة للشعب المصري بقوله عنه جاهل أو أمي أو أحمق، فالشعب الجاهل يحكمه حاكم جاهل، ووقتها سوف يزوم والي البلاد و…

نعم سوف يقول له إن المصريات يتشاءمن من الحكيمات السودوات اللائي قامت الحكومة المصرية بشرائهن من بين السودانيات والحبشيات من سوق العبيد، تظن المرأة التي على وشك الوضع أن الوليد سوف يأتي أسودا، عفريت، كتربنت على شاكلة المولدة.

عندها سوف ينفجر الباشا محمد علي في الضحك.”

الاقتراح الذي كان يحمله الطبيب الفرنسي ذو الشهرة التاريخية في مصر كلوت بيك لم يكن أكثر من مدرسة المولدات (وبين الطبيب الفرنسي وبين نفسه: مدرسة الحكيمات)، ومحمد على باشا لم يقهقه أو يضحك لفكاهة الطبيب الفرنسي، بل إنه كان مهموما ومؤرقا بالمشكلة بأعمق من كلوت بك بكثير، أنصت له وهو يدخن الأرجيلة إنصاتا تاما، ولم يزد عن أن يهمهم هاها..هاها..هاها..، وعندما تحدث والي البلاد قال للطبيب:

“حضراتكم تحلون لنا مشكلة..وتخلقون لنا مشكلة جديدة.

– وما هي سموكم؟

– كيف تتزوج حكيمة مصرية؟..الرجال هنا يرفضون الزواج من ممرضة لأسباب أخلاقية!”

ونفس المشكلة التي فكر فيها محمد علي باشا هي التي تحكمت في حياة إحدى الحكيمات (عظيمه بوس) من أبطال الرواية، وصنعت هذه الحياة. لكن الخيال الروائي الفارق بين

عظيمه وبين غيرها من حكيمات المدرسة يكمن في سبب التحاقها بالمدرسة، فمن انضممن لمدرسة الحكيمات كلهن ينتمين لهذه الفئات التي اجتذبتها المدرسة في بدايتها، فئات من المهمشات أو “ذوي العاهات الإجتماعية”، باحثات عن المأوى أو يتيمات أو فارات من أهاليهن أو تائبات من الدعارة أو – بعد مرور زمن – بنات معدمين ممن تجرأوا على إلحاق بناتهن بالمدرسة. والفارق الروائي بين عظيمه وبين بنات المدرسة وهو ما جعلها جديرة بأن تصبح واحدة من شخصيات الرواية هو أنها لم تذهب إليها بفعل وضعها الاجتماعي أو حاجتها المادية الضاغطة ولكن ذهبت إليها بقدميها أو بفضل (عقلها المتأمل)، هذا التعبير المفضل لأحد شخصيات الرواية.

هذا (العقل المتأمل) هو المحور الذي اجتمعت حوله معظم شخصيات الرواية من سعديه وعبدالحكم والصاغ أسعد أفندي بساده والغربي و..آخرون من هؤلاء الذين ينتمون لعالم القاهرة السري، عالم الدعارة المرخصة آنذاك.

ويتشخص هذا العقل المتأمل عند أسعد أفندي بسادة في عالم سعديه – البطل المحوري في الرواية – في عبارة قالتها لتبرير

اتجاهها نحو الدعارة:

“أبدا أنا بس عاوزه أعرف وأشوف..مخي كده.”

لم تكن سعديه في أعماقها تبحث عن الجنس أو المال ولا حتى الحب، فقط..مخها كده.

والعقل المتأمل كان وراء كفاح “عظيمه” الناجح للالتحاق بمدرسة الممرضات، كما كان سر حلمها العجيب الذي لاحقها منذ حيضها الأول في أن تطفئ الشبق العارم في جسدها بالبوس!، أيضا كان وراء ولع عبدالحكم المهول بعالم الكلاب.

وتقدم رواية حسين عبدالعليم، في تدفقها السردي الذي لا يعرف المهادنة أو التوقف لالتقاط الأنفاس أو لا يعرف التأمل في بحثه وراء العقل المتأمل، مجالا هاما للمقارنة بين ولع عبدالحكم بالكلاب بولع تاريخي مكافئ هو ولع الألفي (صاحب الفضل الكامن وراء أسطورة الكلب هول في تاريخ القرن العشرين المصري)، نفس الولع بالكلاب والشغف برفقتها والعناية بها وبملاحظتها، ونفس الولع بما يثيره من دهشة الآخرين واستغرابهم وتندرهم وأحيانا استنكارهم، الفارق الوحيد بين الولعين هو أن ولع الألفي أمكن توظيفه توظيفا اجتماعيا أو شرطيا حين أدخلت الكلاب كسلاح وأداة هامة في

العمل الشرطي أما ولع عبدالحكم فقد ظل من البداية للنهاية ولعا مفردا عجيبا ينأى به عن عالمه ويخطفه من أي قدرة على التأثير في سواه.

يصف الصاغ أسعد أفندي بساده عقله المتأمل في خطابه الذاتي قائلا:

“مشكلتك يا أسعد إنك بتملك عقل متأمل..مالوش دعوه بالعملي..بيجنح دايما للنظري..تفكر تفكر تفكر وخلاص..مابتعملش شيء غير شوية حاجات هايفه ممكن يعملها أي حد..طول عمرك يا أسعد في الوسط..لا فوق ولا تحت.”

كان الصاغ أسعد في مجالات تأمله الوظيفية قد حلم باختفاء الجريمة من مصر وصمم طرقا للتعامل الإنساني مع المجرمين إلا أن سخريتهم منه جعلته يكتفي بكونه ضابطا يحرر المحاضر.

وهذه النهاية الآمنة للصاغ أسعد هي النهاية الأفضل في الرواية لعقل متأمل صغير لا يمتلك وعيا محسوسا بالواقع يقود إلى تحليله وفهمه، ويغامر في مجازفة قد تقوده إلى نهاية مأساوية كالخانكه التي انتهت إليها سعديه في صحبة عبدالحكم الذي “ينظر لها في بلادة”.

العقل المتأمل في السياق الروائي لرواية “سعديه وعبدالحكم” هو العقدة الأساسية لتكيف ذوات مبدعة (في الأصل) مع عالمها المكبل بالفقر، وهو – في نفس الوقت – أطروحة لمشكلة حرية الذات في مواجهة قدر الفقر والبؤس الاجتماعي، وهي العقدة التي غاص بها الروائي عميقا في سرديته الممتعة عبر تاريخ العالم السري للبغاء في مصر.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم