طفولة قادمة من الأساطير

الجنوبي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الشماع

يُدهشك حسن عبد الموجود بقدرته الفائقة على إظهار الطفل بداخله. تراه يتكلم مع صوفي ابنته وكأنه في سنها. تراه يضحك ويغمز ويفور غضباً كطفل لا يزال يتحسس خطواته الأولى في الحياة، ولا أعتقد أنه يختلف الآن عما كان، فحسن صديقنا الحالي هو الطفل الذي كان يراه غيرنا في بداياته.

كان انتقاله من قرية القناوية إلى مدينة نجع حمادي، يشبه انتقالاً من حواري القاهرة إلى شوارع نيويورك، كان ينظر إلى السيارات باعتبارها مركبات فضائية، وإلى العمارات القصيرة، ذات الأدوار الأربعة، كأنها ناطحات سحاب، لكنه حينما جاء إلى القاهرة بعد ذلك بسنوات طويلة لم يشعر بنفس الشيء، إذ يبدو أن صدمة المدينة ذهبت بلا رجعة. يقول: “لم أنبهر بالقاهرة أبداً، لكن نجع حمادي المدينة الصغيرة أدهشتني”.

شعر الأب أن تعليم حسن وأخوته الأربعة أمر صعب إذا  استمرت الأسرة في القرية الصغيرة، لهذا كان قرار الرحيل لمدينة نجع حمادي التي يعشقها صاحب “عين القط” صائباً ومفيداً للأسرة كلها. أغلب سكان نجع حمادي توافدوا عليها من القرى المحيطة وكذلك من جميع المحافظات بما فيها القاهرة والإسكندرية، مع إنشاء مصانع تكرير السكر في عهد عبدالناصر، وكثير ممن جاؤوا للعمل استقروا بنجع حمادى وتزوجوا منها، وبالتالي حدث نوع من الانصهار بين سكان الشمال والجنوب في هذه المدينة، وربما لهذا السبب تجد لون بشرتهم فاتحاً، كما أن لكنتهم أكثر اعتدالاً. كانت نجع حمادي المدينة هي التي ستشهد جانباً مهماً من حياته.

لم يشعر الطفل حسن أنه سوف يصبح فلاحاً في يوم من الأيام. كان على يقين أنه سيُكمل تعليمه حتى الجامعة. في نجع حمادي كانت بداية علاقته بالأدب. يحكي “قرأت قصة مصورة للأطفال أحضرها لي أبي، وبعدها بحثت عن مكتبات المدينة. كنت وقتها في الصف الخامس الابتدائي، وكنت أذهب أسبوعياً إلى كشك الصحافة لأحضر (ميكي) و(ميكى جيب)، أما في المرحلة الإعدادية فقرأت تقريباً كل ما تضمه مكتبة مدرسة الشهيد خيرت القاضي، سواء في الأدب أو الفلك أو العلوم”.

لم أقرأ الشياطين الـ 13 ولا المغامرون الخمسة لمحمود سالم، أو رجل المستحيل لنبيل فاروق، أو بالأدق لم أهتم بها، لكن حسن قرأها وأحبها، إلى درجة أنه كان يجمع أوراقاً بيضاء، ويذهب بها إلى إحدى المطابع الصغيرة، ويطلب من صاحب المطبعة أن يقصَّ الأوراق على مقاس قطع الروايات البوليسية للناشئين، ثم يجلِّدها بغلاف أبيض سميك، ويعود إلى البيت  ليبدأ تصميم الغلاف ورسمه، ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي كتابة الرواية، التي لا تخرج في موضوعها عن الروايات التي يقرأها. يقول “كنت أغش منها أحياناً حينما أتعب من التأليف”.

عبد الناصر علام شاعر العامية كان صديقه الأقرب وأستاذه. كان ناصر معلماً في مدرسة “أبو بكر الصديق الإعدادية”، رآه مرة يمسك بواحدة من رواياته العجيبة، وسأله: “انت بتكتب؟ طب وريني كده، انت اللي راسم الغلاف ده؟ كاتب كام رواية لحد دلوقتي؟”، ورد حسن بمنتهى الثقة: “حوالي خمسين!”، وقد عرّفه ناصر إلى مشرفة النشاط الصحفي  الأستاذة إيمان، فنشرت له قصة كأول نشر في حياته، ولا يمكن لحسن أن ينسى أبداً تقديم ناصر لهذه القصة، المقدمة التي أثنى فيها على موهبته، متوقعاً مستقبلاً كبيراً لهذا الكاتب الصغير. “أحتفظ بصداقتى لعلام إلى الآن”، ويستدرك: “ولكن أنا لا أجيد الاحتفاظ بالأصدقاء في العموم”.

عبد الناصر علام ليس المعلم الوحيد الذي يتذكره. يرجع بالذاكرة إلى القرية، وبالتحديد إلى مدرسة القناوية المشتركة، وإلى الأستاذ ناصر، وهذا هو المدهش في الأمر، أن المدرّسيْن لديهما نفس الاسم. كان حسن، التلميذ في الصف الأول الابتدائي، يعبر له عن حبه الشديد، حيث يذهب إلى حديقة جده ويقطف زهوراً ويصنع منها باقة ويهرول إليه ليمنحها له منتظراً تلك الابتسامة المحبة، وكانت المفاجأة السعيدة بعد انتقال حسن إلى نجع حمادي واكتشافه أن الأستاذ ناصر أحد سكانها.

لا يتذكر صاحب “ناصية باتا” كثيرًا عن أصدقاء الطفولة، ربما زميله في الابتدائي “صلاح”، صاحب القدرات الخاصة، يقول حسن باندهاش: “كان باستطاعته اصطياد السمك بيده. كان يدفع بذراعه إلى الماء، ويظل ساكناً للحظات، ثم يرفعها ممسكاً بسمكة، وقد وضع سمكة في يدي ذات مرة، فاهتزت وجرحتني بزعانفها الحادة فألقيتها في الماء. كان يصطاد وكنت أعيد السمك إلى الماء”.

الخوف من العفاريت لم يكن هاجسه فقط، بل كان هاجس كل أطفال مصر تقريباً، خصوصاً إذا كان من أهل الجنوب، بأساطيره وخرافاته وخيالاته. “في بلدنا يقولك العفاريت رصدته يعنى ثبتته في مكانه”.

الغريب أن جدته التي شجعته على عدم الخوف من العفاريت، كانت أكثر من يحدثه عنها. يقول “أمر غير آدمي أنك لا تستطيع أن تسير لمدة عشرة أمتار في أي شارع وأنت طفل من شدة الخوف”.

العقارب أيضاً حكايتها حكاية. كانوا أطفالاً متخصصين في اصطياد تلك العقارب من داخل تجاويف الحوائط عن طريق “عيدان” خشبية، وكانوا يضعون غلتهم من العقارب في علب صفيح محكمة الإغلاق، كانت في الأغلب علب جبن “الـ3 بقرات”، وكان أقرب أصدقائه “محمود” الأكثر براعة في اصطياد العقارب، ومرة ذهب حسن بصحبته إلى البيت ووضع محمود العلبة في يد أمه، وأخبرها بأن فيها أكثر من مائة عقرب، وأمه المفزوعة انتفضت في مكانها وأسقطت العلبة فانفتحت، وأمام عيني حسن المذهولتين سرحت العقارب في كل مكان، وكانت حكاية.

كان حسن، كما صوَّر في روايته “عين القط” يشعر بالونس حينما يكون قريباً من أبيه، كان إحساس الأمان يلفُّه وهو يسير إلى جواره إذا انقطعت الكهرباء، كان أبوه يتوقف فجأة بعد أن يلمح عقرباً، ويسلط الكشاف عليه، صانعاً حوله دائرة من الإضاءة،  والعقرب المخدوع يظن أن الظلام جدار أسود سميك، وبالتالي يبقى حبيساً في تلك الدائرة المضيئة. يعلق حسن بسخرية: “كان أبي يعطينى إشارة البدء فأرفع قدمي وأهوي بها على العقرب، وأشعر بقوة هرقل في هذه اللحظة”.  

وكان حسن، على ما يبدو، يميل إلى الفن من صغره، وكان أفراد عائلته الضخمة يعتبرونه فناناً كبيراً. يقول ضاحكاً: “كنت أرسم ما أراه أمامى، الشجر، الطيور، ثمار الفاكهة، وكان أفراد عائلتي يعتبرون أنني فلتة زماني، كانوا يقولون إنني وسيم مثل عادل إمام، وبالتالي ظللت سنوات طويلة أتعامل مع عادل إمام باعتباره نموذج الشخص الوسيم، حتى أفقت ذات مرة على تلك الحقيقة المُرَّة، أننى وعادل إمام لا ننتمي إلى هذا الصنف من الرجال”. تربَّى حسن على أفلام الأبيض والأسود، وكان الأقرب إليه ممثلو الكوميديا، إسماعيل يس وعبدالسلام النابلسي وفؤاد المهندس، وكذلك كان يحب صلاح ذو الفقار وأحمد مظهر ورشدي أباظة، ومن الفنانات زبيدة ثروت، وليلى مراد، وصباح، وشادية، كما كان ينتظر أفلام الكارتون القليلة التي يجود بها التلفزيون في هذا التوقيت. يقول: “كنا نطلق على الكارتون أفلام القراقوش. بمجرد أن تبدأ فقرة توم آند جيري تجد الطفل منا يهرول باتجاه الباقين صائحاً بفرحة هيستيرية: الحق ياض انت وهوّ.. فيلم قراقوش اشتغل”.

كان أبوه يطمح في تربيته كمواطن صالح، يخاطب الأكبر منه بـ”يا عمي”، لكن حسن خرج طوال الوقت عن الخط، كان أبوه مثلاً يطمح في أن يختم القرآن لكنه بالكاد حفظ عشرة أجزاء، كما كان يحذره من اللعب في الشارع، وأن يحافظ على أحذيته، لكنه كان يعود إليه كل فترة بحذاء ممزق، كان كذلك حرامي بيض: “لم أترك عشة لأى أسرة في عائلتي إلا وقمت بالسطو عليها. كنت أتشاجر مع الدجاج، وأجبرها على التنحي جانباً، وآخذ ما تضعه، وأطير إلى جدتى، التي كانت تصنع لي فتَّة عجيبة مميزة من البيض والخبز الشمسي”.

كان حسن ينتظم لفترة في الكُتّاب، ثم ينقطع، مفضلاً لعب الكرة في الشوارع، وكان الشيخ يخبر الأب بغيابه، وبالتالي يقرر الأب أن يقوم بدور الشيخ: “كان أبي يبدأ التسميع من منتصف آية ما لتعجيزي، وهو لم يكن، في الحقيقة، في حاجة إلى هذا، وحينما أفشل، وهذا طبيعي، يهوي عليَّ بالعصا”.

كانت الاستغماية اللعبة المفضلة في طفولته، غير أنهم في القرية كانوا يطلقون عليها “يا حاية” ولا تسأل عن السبب: “تخيل كانت هناك لعبة نطلق عليها جغولة، وحينما أفكر في هذا الاسم العجيب الغريب الآن أشعر بالدهشة، كنا كائنات خارج التاريخ تتحدث مثل ديناصورات صغيرة”. لا ينسى حسن كذلك لعبة “البخت”، ويقول: “كانت السعادة تغمرني عندما أفوز بأي شيء، حتى وإن كان مجرد صورة لممثل أو لاعب كرة، لكني لم أنتبه أبداً إلى أنني أفوز كل مرة بنفس الأشياء إلا وأنا أحدثك الآن”، كما كان حسن وأقرانه يبحثون في كل الشوارع عن أغطية الكوكاكولا وكانوا يُطلقون عليها “الحقوق”، ولا تسأل عن السبب أيضاً. حسن نفسه لا يعرف، لكنه يتذكر جيداً أنه وخاله ممدوح خليفة كانا يقامران في “الحقوق”  وكانا يملكان “جردلين” كاملين من الأغطية، بالإضافة إلى عدد مهول من “البلي” بكل أنواعه، النيكل والكروم، وكانا يتعاملان مع الأغطية باعتبارهاً ذهباً، ومع “البلي” مثل ماسات  ثمينة، كما راجت لعبة أخرى في فترة من الفترات جعلت حسن وأقرانه يبحثون في الشوارع عن علب السجائر الكليوباترا السميكة ليصنعوا منها أوراق الكوتشينة: “كنا أطفالاً مازوخيين، وكانت هناك لعبة على سبيل المثال، تتطلب أن يشارك خمسة أطفال، وكان أحدنا يمسك بعصا من البوص، ويضرب خمسة أعواد خفيفة وصغيرة من البوص، وانت وحظك، فإذا وقعت كلها على الأرض ناحية اللون الذهبى تصبح ملكاً، أما أربعة ذهبي وواحد أبيض فهذا معناه الوزير، ثم ثلاثة ذهبي واثنان أبيض فهذا معناه الجلاد، ثم أربعة أبيض وواحد ذهبي فمعناه العسكري، أو خمسة أبيض فهذا معناه الأسير، وهنا يبدأ حوار قصير بين الملك والوزير. يقول الملك: يا وزير، دبرني في أمر هذا الكلب الخنزير. فيرد الوزير: أمرك يسير. فيقول الملك: اضربه عشرين ضربة من النوع الزمهرير. وأقسم لك، (وقد كان حظي يجعلني دائماً الأسير) أنني كنت أبكي بمجرد أن يصل الحوار إلى هذه النقطة، لكن لأنهم أطفال كلاب لا يرحمون كانوا يمسكونني من قدمي، لينهال عليَّ الجلاد بالعصا بلا رحمة، وكنت أعود إلى البيت بقدمين متورمتين، مقرراً ألا أشارك في هذه اللعبة أبداً، لكنني كنت ألعبها في اليوم التالي، على أمل أن أكون الجلاد، لكن حظي كان يختار لي الأسير إلى ما لا نهاية”.

يجبرك حسن على أن تستمع لحكاياته، حتى وإن كررها مرة ثانية وثالثة، وهو يفعل ذلك كثيراً بالمناسبة، لكنك ستشعر كأنك تسمعها للمرة الأولى، إذ أنه بارع في الحكي، وبارع في الصداقة أيضاً.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم