التماع الخاطرة بالسيرة العاطرة

أحمد صبري أبو الفتوح
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد صبرى أبو الفتوح

فى العادة لا أنتظر كل هذا الوقت لأقرا ما يكتبه صديقى ورفيق عمرى الأستاذ حسين عبد العليم، أنا أقرأ رواياته فور أن تصل إلى يدى، أترك نفسى لحكاياته وأظل أحسده حتى تفاجئنى النهاية.

* البيت قديم.

كل البيوت عند حسين عبد العليم قديمة، فيها منقولات ساذجة، وجدران تحمل آثار من مضوا، وفراغات تلعب فى سديمها الذكريات، أمهات يرتدين أثوابهن المنزلية القديمة ويشمرن أكمامهن عن أذرع أفلتت باللكاد من الهزيمة، ومن فتحة الصدر تتصاعد روائح الحليب، كأنهن يواصلن إرضاع أبنائهن حتى بعد أن صاروا أباء وأمهات، آباء يخرجون فى الفجر ليصارعوا الرزق، ينتصرون مرة وينهزمون مرات، وفى الليل يلقون برؤوسهم فوق صدور الأمهات ليتدارسوا كيفية الإفلات من قبضة الفقر وربقة الزمن، وأبناء يرفضون المضى قدما فى الحياة، يقبضون على أزمان الطفولة ويبكون إن طاردهم أحد ليبتعدوا، وذكريات تصخب طوال الوقت، غناء ورقص وضحكات ونهنهات وألعاب وكراسات وكتب وأحلام صغيرة، وأحياء أنشأتها أزمان قديمة بعزائم خائرة وقلوب مجهدة وأحلام لا تحدها حدود.

* الذكريات حاضرة

يا ربى! أيكون لنشع الباكابورت كل هذا التأثير؟ أيكون للعطب كل هذا الفعل؟ عند حسين عبد العليم الإجابة نعم وأكثر، فالأسرة التى تضمها الشقة الصغيرة تخسر أزمنتها وذكرياتها والحدود الدنيا من كرامتها وتخرج إلى العراء، ويستأذن الأب فى الاختلاء بالجدران ليتحدث إليها قبل الرحيل، كان حسين فى تلك اللحظة يحدثنا نحن، ويبكينا نحن، ودون أن ندرى رأينا أنفسنا نخرج معه إلى المجهول، والكرامة التى كانت محتبسة داخل الجدران ما أن خرجت من باب البيت حتى تبددت فى الهواء كما تتبدد رائحة الذكريات الحلوة، فقط طفلنا الصغير هو من يبحث عن القبض على الزمن أما فى صور تلتقطها كاميرا ليست موجودة أو فى حلم برسم لوحات تخلد المكان والزمان، المعانى والروائح، الضحكات المتوارية والدموع المحبوسة، والناس، ليخلد البيت والفناء والحارة والجيران، والطفولة التى ترفض أن تولى هاربة.

* والأحلام أيضا

هذا الطفل الذى سيرسم كل شىء كى لا يَمَّحِى ليبنيه الخالق الناطق كبيتهم هو نفسه الذىى سيبحث عندما يكبر كيف سيعيد إلى هذا البيت كل شىء، الناس والجيران والرحابة ولمحات السعادة التى لا تكون من غيرها الذكريات.

فى فصل آخر لا يكف حسين عن البحث عن السعادة فى واقع مرير، فحتى لو لسعك البعوض فتدثرت بالكيروسين لتنفره منك، وحتى لو طلب منك مضيفوك أن تنام فى مكان محدد وبطريقة محددة، فإن الخيال لا يمل الطواف على الغناء والشعر والبحر حتى لو سبب له حضور الذاكرة ارتجاف القلب.

لأول مرة يقول لنا حسين عبد العليم إن الناس كالبيوت، تتداعى، لكنه كصياد اللؤلؤ ينسى جروح ساقيه ووهن ذراعيه وآلام كل شىء وينظر إلى المحارة حيث تثوى اللؤلؤة تنادى حبيبها، قد يمرض الإنسان ويغسل الكلى، لكنه من بين كل هذا يرى فى الساعات الأربع التى يكون فيها موصولا بجهاز الغسيل الجبار سكينة وفرصة للتأمل فيما مضى، وفيما هو آت، تماما كما ترقص رضا فى صالة معهد الأورام برأسها الأصلع من تأثير الكيماوى وبما تبقى من ثدييها، فالحياة أقوى من الموت والذكريات أبقى من الفناء، والقلوب المسكونة بالحنين لا تفقد ساكنيها.

كما فعل معنا فى فصول من سيرة التراب والنمل وسعدية وعبد الحكم والمواطن ويصا عبد النور ورفيقاتهن جعلنا حسين عبد العليم نقبض على الجمر، ونلحس دمعنا بأطراف ألسنتنا، ملوحة الدمع يا حسين لا تمت لحاسة الطعم كما قد يظن الأغرار، إنها عزاء الإنسانية عندما تتذكر.

سامحك الله يا صديقى الحبيب، أسعدتنى وأو جعتنى.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم