الإحباطي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 34
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فاروق

لا احد يعرف حسن عبد الموجود كما أعرفه. وأتحدي كل أصدقائه وحتي أبوه وأمه وإخوته أن يكونوا قد توغلوا داخل دهاليز عقله كما توغلت .. لا ـستطيع أن أنكر أبداً ماتعلمته منه، بل إنني لن أكون كاذباً إذا قلت إنني لم أعد أتذكر شيئاً مما تعلمته لأنه غالبا ما يغير مدرسته في الحياة حسب مزاجه، ومزاجه يشبه كثيرا الروليت ..يستحيل توقع الرقم الفائز، ولابد أن تعترف بالحظ وتوقع علي ذلك قبل الخوض في اللعبة.

حسن باختصار هو صاحب إعلانات الكائن البيض إحباطي، وبجد أنا تصورت في البداية أنه صاحب الفكرة وتم سرقتها منه في إحدى جلساته المريبة عند محمد هاشم، وسبب تصوري لذلك أن حسن بالفعل بيضة ضخمة ترفض أن تفقس من شدة الإحباط .. يعيش بمشاعر هشة تخشي اللمس خوفا من مواجهة ما لا يعلمه من العوالم الخارجية ..يكتفي بأن يعيش خلف هشاشة القشرة التي كونها حول نفسه ويشعر بالسعادة والدفء والحنان، رغم أنه لم يجرب الخروج لما هو أبعد من قشرة البيضة التى يعيش داخلها .

حسن ببساطة فنان يتغذي على موهبته ويقتات ساندويتشات الجمبري الرخيص من مطعم أبو العينين  خوفاً من الاحتياج لأحد،  خصوصا أنه لايثق في أحد سوي حسن نفسه .. الأسوأ أنه يشك في نفسه مثلما تشك الزوجة فى زوجها الذي اعتاد خيانتها، لكنها لم تمسك عليه شيئا بعد، وفي نفس الوقت لاتستطيع منحه الثقة حتي وهو مرتمى في حضنها.

حسن عاشق لملامحه، وليس لديه في المرآه سوى جماله ووسامته التي يتغزل فيهما دون أن يعلن عن ذلك، فهو معتاد الوقوف خصوصاً في الاسانسير لينظر في المرآه الي بعض الشعيرات التي تنمو على خده وينتزعها بسرعه باصبعين طويلين، وكأن تلك الشعيرات تفسد اللوحة الدافنشية المرسومة لوجه وملامحه  وتأخر الناس في فهم سر جماله حتي الآن، لأنهم انشغلوا بفك الغاز جمال الموناليزا عن جهل.

أزمة وسامة حسن تحولت إلى اعتياد دون أن يدرى، فالعبث في خده بنفس الاصابع الطويلة بعيدا عن المرآه تحولت الي عادة يمارسها دون أن يشعر كلما شرد بذهنه أو كان مستمعا لحديث لايكترث له كثيرا، وعندما حاولت تنبيهه لهذه العادة أكثر من مرة، واكتشفت أنه لاينتظر سوي ثواني ويعود كالطفل الذي يعشق مص اصبعه ليعبث من جديد في خديه، اتفقت معه علي “سيم” ليفهم أنه يمارس عادته أمام الناس وهم ينظرون إليه كالجربان أو المصاب بمشاكل نفسيه ..”السيم” هو “فيس اوف” وهو طبعا اسم الفيلم الشهير لترافولتا الذي غير فيه وجهه وعندما اقولها لحسن وسط الناس يدرك فورا أن اصابعه التي تشبه ديدان الاسكارس عادت لتتمشي علي كورنيش خده في حركة عصبية موترة ..الأغرب انه يسمع السيم وينتفض ويبعد اصابعه في حركة عصبية اخري لينتبه الجالسين ايضا ان هناك سيم بيننا ومعناه أن يقلع عن هذا السلوك الذي يشبه كثيرا عادة “التقوير” في الانف وسط مجموعة تتناول العشاء!

حسن يمتلك قلبا اشجع من قلوب الاسود التي قد تضطر لعمل “بيبي” علي نفسها عندما تري مدربها يمسك الكرباج في يده ..هو من الآخر يخاف تقريبا من ظله ويتوتر من مجرد “ودنه” ظهرت في طرف اصبعه واذا اردت ان تراه مغشيا عليه اذكر امامه كلمة “سرطان” وتابع ملامحه واصفرار وجهه وتقليبه في ارقام تليفونه بحثا عن رقم عيادة دكتور الباطنة الذي يحجز عنده مرتين أو ثلاثة في الاسبوع ليسمع عبارة واحدة وهي “متقلقش يابو علي انت معندكش سرطان”.

كل الأعراض عند حسن تؤدي للسرطان من وجهه نظره، لدرجة أنه لو أصيب بالتعنية الصباحية وهو جالس القرفصاء علي الحمام ويتابع لون البراز باهتمام شديد خوفا من ان يكون قد تغير عن براز الأمس، سوف يتصل بالدكتور ويحجز كشف مستعجل ليتأكد انه لم يصب بالسرطان، لو شعر بالتهاب تحت إبطيه بسبب استعمال ماكينة حلاقة سوف يخرج ذراعه النحيف أمام كل اصدقائه ويدفعهم لتحسس التورم ويسألهم نفس السؤال وهو: هو فيه خطورة من الورم ده .. ورغم أنه يجد نفس الإجابة وهي انها حالة عادية تحدث للجميع، إلا أن حسن لن يصدق سوي عبارة الدكتور طارق يوسف صاحب عيادة فحص هلوسات حسن عبد الموجود وهي: متقلقش يا حسن ده مش سرطان!

حسن أيها السادة مصاب بالوسواس القهري، وهو مرض العباقرة الذين يتشبثون بالحياة طمعاً في صنع المزيد من المجد .. مرض نفسي يصيب كل موهوب يعشق الابداع والاختلاف، ويمتلك حس مرهف ومشاعر راقية، لكن مع حسن الوسواس نفسه كفر من كثرة ضغط أبو علي عليه، وقد نما إلى علمي أن الوسواس اتصل بطبيب حسن وعرض عليه العمل في الخليج بمرتب فلكي ليهدأ حسن وينساه ويريحه قليلاً من الوقت.

الوسواس ليس بسبب الأمراض، لكنه أيضاً للموت والحوادث والحكومة وخصوصا الشرطة التي تمثل في قانون حسن الحياتي كفار قريش قبل هجرة المسلمين فهدفهم في الحياة التعذيب والسحل والقاء القاذورات علينا بداع او بدون .. ما إن يلمح أبو علي ضابط الشرطة أو حتي السيد الامين، إلا وتنفر عروق رقبته الطويلة ويحمر وجهه ويتعامل معهم وكأنهم صفعوه علي قفاه وهو ماشي في حال سبيله، وطبعا لأن الآخر يشعر كما تشعر فكان من الواجب ان نقابل اي كمين في طريقنا ليتجه الضابط مباشرة إلى حسن تاركا كل من في السيارة ليسأله عن بطاقته وهنا يفهم حسن أن الرجل يستقصده بل يتعامل معه علي طريقة “اسم امك ايه ياض” وتبدأ الازمة التي غالبا ما اتعامل معها بعقل، وأخرج كارنيه الصحافه ليطمئن الكمين ونستكمل مشوارنا في هدوء!

حسن موسوس أيضاً بالنظافة، فهو يغسل الماء نفسه قبل أن يشربه، وإذا استطاع أن يغسل الهواء الذي يتنفسه لفعلها، وأنا لا أنسي أبداً أنه اقسم بالطلاق علي احد اصدقائنا الذي قرر استضافته في بيته ليقوم من نومه الهادئ ويستحم لأنه شك في رائحة عفنه تصدر من اصابع قدمه!

هو انا جبت إلا حسن ..إنها العبارة التي تضايقه كثيراً مني، وبصراحة أحب دائما ترديدها أمامه لأني أعشق نبرة صوته وهو يمثل أنه لا يكترث مثلما يفعل دائما معي عندما ألقي عليه نكتة تخص أخبار الأدب، ورغم أني أقولها أمامه كل يوم تقريبا إلا أنه لا يعرف كيف يخفي غيظه من النكته كلما قلتهاـ ولم يعرف حتي أن يبدى عدم اهتمامه لأنه يحمل وجهاً فاضحاً مثل مواقع البورنو التي لاتستطيع اخفائها من علي سطح المكتب بسبب الاعلانات التي تلاحقك بمجرد تصفحك لأحدها في الخباثة.

نسيت أقولكم. النكتة التي تغيظ حسن وهي أن أسرة أخبار الأدب اجتمعت اسبوعاً كاملاً في ندوة مغلقة عنوانها “نجيب محفوظ ..ولا منجيبوش”!!!

أزمتي في الكتابة عن حسن أني عشت تفاصيل حياته القذرة والعبقرية بنفس المشاعر، وهو غالباً ما يتعامل معي علي أني بتاع عوالم، ولن أفهم مطلقا العقل الكفكاوي الذي يحمله في رأسه، وأنا بصراحه أعشق التعامل معه بنفس الغباء اليومي، لأتبادل معه دور الكائن البيض احباطي الذي يجسده في حياتي، ومن المرات التي أجدت فيها هذا الدور عندما طلب مني حضور حفل حصوله علي جائزة ساويرس عن عين القط، ورغم فرحتي الشديدة باليوم إلا أني قررت وصف ما أراه أمامي بأنه يشبه كثيرا قناة “سبيس تون” وانني اشعر ان كل ما اراه من مثقفين ومثقفات غير حقيقي، لأنهم كائنات لزجة تتحرك مثل العرائس الخشبية رديئة الصنع وهو الوصف الذي حرمني بعد ذلك من مشاركة حسن عالمه الروحي الثقافي خوفا من فضحه أمام اصدقائه المؤدبين والمثقفات !!

رسالة حسن في الحياة تعاليمها العمل الشاق، ومعجزته هي النوم لعشرة دقائق وسط العمل ثم الاستيقاظ لاستكمال اليوم حتي ساعات الصباح، وكأنه نام مع أهل الكف لمائة عام، وبصراحه انا احسده علي هذه المعجزة، ولا بلاش كلمة احسده لأني اعرف أنه موسوس ايضا من كلمة حسد، وإذا استشعر برائحتها في كلام أحد يتحسس علي الفور أقرب مائدة خشبية أو باب او حتي قلم رصاص كأنه يوقن انه سيحمي روحه من رصاصات الحسود علي طريقة جدته!

حسن بلغة المثقفين برجوازي متعفن .. يطمع في العلمانية ويتمسك بالصوفية ويسبح بالماركسية ..يمتلئ جسده بمئات الكتب والاسماء والعبارات البراقه ..يحفظها جيدا وهو قادر علي قراءة وحفظ اضعاف ما يعرفه لأنه ملئ بالنهم تجاه كل ما هو ورقي ادبي، لايهتم بالاتجاهات ولا الديانات أو اللغات ..ينظر إلى الفكر والاسلوب، ويندمج بسرعة مع الاديب والشاعر والقصاص، ويتابع أعمال ريم البارودي لأنها سلمت عليه وقبلته من خديه لأنه صاحبي، وأعتقد أنه عاش بعد هذه القبلة: دور عنترة بن شداد في خياله ..المصيبة أن حسن يري الممثلين والمطربين في غاية التفاهة، وأعتقد أنه مرض يصيب المثقفين الذين يملؤون حياتهم بالكتب والدخان والسهر والتفكير ليحصل اشهرهم علي جائزة لا تصل لنصف اجر فنان في عمل واحد يغني او يرقص فيه ربع ساعة فقط ..

تابعت حسن وهو يتعامل مع نجوم التمثيل والغناء بنوع من التعالي وأحيانا القرف، لكني تأكدت بعدها أنها مرحلة انتقالية وفروق توقيت بين الحياة مع البساطى والغيطاني وقبلات ريم ودينا وأحضان ليندا فهمي، وهي ظاهرة صحية مر بها وتخطاها بسهولة بعد ذلك!

الآن، جاء وقت الكلام عن حسن الذي وعدته انني سوف أكتب عنه ما لا يقل عن ٢٠٠ كلمة كرثاء له بعد وفاته، وطبعا أنتم تعرفون شكل ملامحه ووسواسه القهري عندما يسمع هذه العبارة ولا مانع من إخفاء رهبته بضحكة تضع أسنانه العلوية في مواجهة وجهك مباشرة، وتضطر لإغلاق الموضوع خوفا من التهامك حياً، لكنه فعلاً اطيب انسان قابلته في حياتي ولا استطيع ان اصف مدي اخلاصه وتفانيه في الصداقة، وخوفه على أصدقائه لأنكم لن تصدقوني بعد كل ما كتبته عن صديقي حسن عبد الموجود، لكن والله أنا اعشق كل تناقضاته وخوفه ووسواسه ورسائله المستفزة وكتاباته المتميزة وأسلوبه الذي لا يشبه أحداً ولا تقرر الفطام بسببه مطلقاً.

أحبيبي يا حسن

ـــــــــــــــــــــــــــــ

*صحافي وسيناريست مصري

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم