الإبداع المتمرد.. تجربة الكاتبة الأمريكية السوداء توني موريسون نموذجًا

توني موريسون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. نعيمة عبد الجواد*

ليس بصحيح أبداً أن الظروف هي التي تتحكم في مصير الفرد، فلربما جعل الفرد من ظروفه المجحفة دافعاً لبلوغ القمة، وخير دليل على ذلك ما قدمه لنا المجتمع الأفريقي الأمريكي من شخصيات جديرة بالاعتبار نالت شهرة وشعبية واسعة ليس فقط على الصعيد المحلي بل أيضا على الصعيد العالمي.

فلقد تواجد المجتمع الأمريكي ككيان مجتمعي معروف من جراء ظروف غاية في القسوة كانت السبب في وسمه بمجتمع تسود فيه الهمجية والفساد والرذيلة. فلقد نشأ المجتمع الأفريقي الأمريكي فى إطار مجتمع أبيض مناهض لأقلية سوداء تواجدت بعد قدومها إليه عبيداً، وحتى بعد أن نال السود حريتهم بعد عقود طويلة من العبودية لم تكن الحرية نهاية المطاف لتلك الحياة المضنية، ولم تكن أيضاً بداية ينعمون فيها بالحرية ورغد العيش. على العكس تماما، بعد الحرية لم يتجرع المجتمع الأسود سوى الهوان والتفرقة وسكنى الأحياء الغارقة فى الفقر المدقع وامتهان جميع الأشغال التي يعف عنها المجتمع الأبيض؛ مما عمل على ازدياد الهوة بين ذوى البشرة البيضاء وهؤلاء أصحاب البشرة السوداء إلى صارا نقيضين؛ فعمت البلاد صراعات طاحنة شنها أصحاب البشرة السوداء للبحث عن هوية وتوكيد الذات فى مجتمع لايعترف بحقوقهم أو حتى تواجدهم. لكن لم يمنع ذلك من ظهور شخصيات بارزة ساعدت على انتشال المجتمع الأسود من هوة التبعية والتفرقة العنصرية، وإحدى تلك الشخصيات: الكاتبة الأفريقية-الأمريكية تونى موريسون (Toni Morrison).

لم يكبل تونى موريسون ميراث العبودية والقهر والتفرقة العنصرية، ولم تستسلم أبداً أمام الصعاب بالرغم من كونها أنثى يحتقرها المجتمع بسبب بشرتها السوداء ووضعها الاجتماعي المتدني، ولكونها أنثى ليست فقط كأي أنثى تعاني من الاضطهاد والتفرقة من قبل عالم الرجال؛ بل أنثى سوداء تحمل بداخلها تاريخاً من العبودية المقيتة، وتنحدر من سلسال العبيد الذين يحتقرهم المجتمع الأمريكي الأبيض، ويعتبره نواة الرذيلة والهمجية بالمجتمع.     

ولكن، وعلى عكس كل التوقعات، اتخذت توني موريسون ببشرتها السوداء وكونها امرأة كي يكونا دليلاً دامغاً على رفض عبودية أبدية، وسعت إلى عمل مزيج ساحر؛ مهّد لها الطريق لتحقيق طموحات بعيدة المنال وفتح لها أبواب النجاح بشكل أو بآخر؛ ووفق قولها فإنها تؤكد ذلك بكل فخر حينما تردد: “إن شخصى الأسود وهويتى كامرأة جعل قلبى يجيش بمشاعر لا ينعم بها أحد دون ذلك . . . فلم ينكمش إطار عالمى بسبب أنى كاتبة سوداء وإمرأة، على النقيض اتسعت آفاقه.”

وبإلقاء نظرة خاطفة على نشأة تونى موريسون  نجد أنها ولدت فى الثامن عشر من شهر فبراير لعام 1931 فى بلدة لورين بولاية أوهايو الأمريكية، وهى الابنة الثانية لأسرة من الطبقة العاملة تضم أربعة أطفال. ولقد تشكل كيانها القصصي بدءاً من مرحلة الطفولة حيث عمل والدها منذ الصغر على إثراء مخيلتها بسرده الدائم لقصص من الأدب الشعبى للمجتمع الأسود بالولايات المتحدة، مما أثر بشكل واضح فى أسلوب رواياتها التى باتت تشبة قصصاً شعبية شديدة الخصوصية تمس مجموعة عينها من الأفراد.

وتذكر تونى موريسون أنها لم تشعر أبداً فى مرحلة الطفولة أو في مراحل تكوينها الأولى بأنها سوداء أو أنها محاطة بهالة من التفرقة العنصرية، ومرجع ذلك طفولتها الفقيرة التى ألهتها عن التفكير فى ظروفها الاجتماعية القاسية. فلقد تعين عليها منذ الصغر أن تكافح وتجاهد في الحياة وألا تعيش مراحل حياتها المختلفة كأي طفلة؛ فلقد دأبت أن تعمل فى مطبخ منذ الصغر للإسهام فى نفقات الأسرة، أضف إلى كل هذا وذاك فإن ولاية أوهايو من الولايات التي تنعم بالهدوء والسكينة الاجتماعية والسياسية بسبب تواجدها فى فى وسط الولايات المتحدة بعيداً عن الصراعات الطاحنة  بين المجتمع الأبيض والأقلية السوداء بالشمال والجنوب.

لكنها لم تنعم بهذه الحياة طوال عمرها؛ حيث إنها عندما دلفت معترك الحياة تجرعت مرار التفرقة العنصرية، وكانت بداية ذلك عندما التحقت بجامعة هوارد بواشنطن العاصمة.

ففي تلك المدينة الكبرى المتحضرة صُدمت بواقع التفرقة الكريه، فعلى سبيل المثال كانت بشرتها السمراء سبباً لمنعها من دخول بعض الأماكن العامة مثل: المنتزهات والمطاعم، وكذلك وسائل المواصلات، أو حتى التسوق من بعض المحلات التي اعتبرها البيض خاصة بهم وحكراً عليهم وحدهم. وعلى الرغم من ذلك لم تسبب تلك الذكريات صدعاً في شخصية تونى موريسون، وكذلك لم تؤثر بالسلب على كيانها النفسي المعتدل؛  وببساطة فهي لا تسترجع تلك الذكريات بمرارة حيث أنها لم تصبها بالاحباط، بل على النقيض كانت حافزا جعلها تعمل جاهدة على تخطي هذه العوائق، و أيضا التعبير عن آلامها وأحلام ذويها الذين يعانون مثلها من جراء التفرقة.

واستثمرت توني موريسون تجربتها وظروفها الصعبة في إطار إبداعي؛ فجعلت من الرواية متنفساً للتعبير عن الهوية السوداء وتوكيدها، وكذلك منبراً للبحث عن الحرية، ولم تتوقف عند ذلك فحسب حيث بات همها هو ترسيخ أسس الأدب الأسود بشكل ممنهج منظم بهدف أن يصبح لوناً يخاطب المجتمع الأسود، على عكس ما كان عليه في ذلك الوقت حيث كان مجرد ضرب من ضروب أدب الأقليات الذى يشجعه المجتمع الأبيض ؛ ليس من أجل الاعتراف بهويتهم المميزة أو لأن يصير نواة للحرية على جميع الأصعدة !! بل من أجل تحقيق متعة للمجتمع الأبيض عندما ينعم برؤية أدب “جلد الذات” كما هو كان حال الإنتاج الإبداعي للمجتمع الأسود.

اكتسبت تونى موريسون شهرتها العالمية واسعة من خلال رواياتها التى تعالج مشكلات الهوية الأفريقية الأمريكية التي باتت مركبة، وتؤكد تلك الكاتبة اللامعة أنها ترى ذاتها فى جميع شخصياتها التى تبحث عن الحرية وتمر بتجارب مميزة بعيداُ عن الأنماط والقوالب التى أراد المجتمع الأبيض سجنهم فيها. ومن ثم ظهرت رواياتها لا تغلفها عباءة العمل الأدبى المحض ولكنها ظهرت كأعمال ذات عمق سياسى. وتعلق موريسون على هذا الشأن بقولها: “لست مهتمة بالاستغراق فى قدح زناد مخيلتى . . . فالعمل الأدبى يجب أن يكون ذا مغزى سياسى.” وفى حديث صحفى لها بعد فوز باراك أوباما بالمقعد الرئاسى أكدت موريسون: “لا يزال جزءا منى تغلي فيه الثورة” مما يؤكد أنها لن تكف أبداً عن مساندة شعبها وإبراز مشكلاته.

والجدير بالذكر أن توني موريسون كانت أول من تنبأت بصعود رجل أسود لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية؛ وكان ذلك بعد الفضيحة الشهيرة للرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ، ذي التسع والأربعين عاماً من العمر آنذاك مع مونيكا لوينسكي البالغة من العمر اثنين وعشرين سنة ، والتي تداولتها وسائل الاعلام على الملأ في عام 1988، فلقد نعتته توني موريسون بأنه أول رئيس أسود للولايات المتحدة؛ وذلك بسبب عشقه لأكل الهامبورجر وحبه الشديد للموسيقى والعزف وأخيراً تورطه في فضيحة جنسية كأي رجل أسود.

وعلى الرغم من بلوغها سن السابعة والثمانين إلا أنها تصر على أنها لن تتوقف عن الكتابة، فعلى حد قولها: “الكتابة هى الشىء الوحيد الذى يبقي قواى العقلية سليمة.” ومن أهم أعمال تونى موريسون الروائية : العين الأكثر زرقة (The Bluest Eye)   (1969)، وسولا    (Sula)(1973)، وأغنية سليمان  (Song of Solmon)   (1977)، وطفل القار(Tar Baby)  (1987)، وجاز(Jazz)  (1992)، والجنة(Paradise)  (1998)، والحب(Love)  (2003)، ومؤخرا ظهرت لها رواية “رحمة” (A Mercy)  (2008) التى تعالج موضوعا تؤثره ألا وهو العبودية. فترجع أحداث الرواية إلى عام 1680 عندما كانت تتفشى العبودية فى الولايات المتحدة، وترسم موريسون معاناة العبيد وما يتعرضون له من قهر وهوان وعذاب على أيدى مالكيهم، كالقتل والتشويه واغتصاب الإناث والشنق وقطع الأعضاء والأطراف؛ أضف إلى هذا الموت جوعاً وتفشى الأمراض التى تحصد المئات.

   ولقد حصلت تونى موريسون على جائزة نوبل فى الآداب عام؛ ومن الملاحظ أن جميع انتاجها الأدبي من الروايات نال لقب الأكثر مبيعا. ولقد أشاع البعض أن الإعلامية الشهيرة أوبرا وينفري  Winfrey Operah أكثر تحيزاً لتونى موريسون، والسبب في ذلك ترشيحها الدائم لروايات موريسون للقراءة فى “نادى أوبرا”، ونفياً لذلك الاتهام ردت تونى موريسون وبقوة بتوكديها أن أوبرا لا تُقدم على ترشيح رواية للقراءة إلا بعد أن يتخطى معدل توزيعها المليون نسخة.

يذكر أن تونى موريسون قامت بزيارة مصر بعد حصولها على جائزة نوبل، وأتمنى أن يتوافد دوماً على وطننا العربي أعلام الفنون والآداب لإثراء الحياة الثقافية ، لنتعرف على نماذج يحتذي بها الشباب المبدع في مشوار حياتهم .

……………

[email protected]

 

 

مقالات من نفس القسم