الأنا المقدسة والآخَر الذي من الطين .. 

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

مؤمن سمير

يتضح من خلال تأمل مشروع دعاء عبدالمنعم الشِعري وذلك من خلال ديوانيها السَابقيْن " من غير رتوش 2011 " ، " النفي خارج الروح  2012" أن لنظرتها للعالم عندما يكون على هيئة شِعر مداخل عدة أو سمات تَسِم طريقتها في النظر للنصوص وطريقة انتاجها لها .. منها : اعتبار الكتابة متنفساً ومجالاً للحَكيْ المختوم بصوت وأعماق روح أنثوية تعيد خلق العالم باستمرار وكأنها الأم المقدسة القديمة أو الأرض المستعيدة والمستعادة باستمرار، وسواءً كان العالم هو عالمها الضيق اللصيق وتفاصيلها الشخصية الصغيرة أو هو العالم الخارجي المحيط  ، فضفضفة حرة وآمنة تتحول عن طريقها الكتابة لصديقٍ نفقد بإزاءه كل المحاذير والمخاوف التاريخية ونتعرى نفسياً أمامه بكل بساطة ، دائماً وطول الوقت .. عدم التقيد بأية اشتراطات فنية تخص شكلاً كتابياً معيناً أو تقنيةً فنيةً بعينها ، فنجدها تجمع مثلاً بين أجزاء موقعة وأخرى نثرية في مقاطع متتالية في نفس النَص أو تُزاوج بين المجاز وكتابة التفاصيل .. وما إلى ذلك .. عدم التوقف أمام صلاحية بعض الموضوعات - في حالتها الغُفْل- أو عدم لياقتها وقدرتها وملائمتها – في حالتها الشِعرية - لانتاج الشِعر وبالتالي يمكن أن نتعامل مع موضوعات سياسية أو اجتماعية أو دينية وسط كتابة ذاتية وشخصية بلا أية مشكلة ولا إحساس   بالتنافر .. اختيارها أن تكون الذات هي مُدخلها ومرآتها  التي بها تفسر الأحداث وتحاور بها الأسئلة ، الكبرى منها والبسيطة ، وتحكم بها على المنطق الاعتيادي للأمور وتحيلهُ شعراً وتبني عوالم وتهدم أخرى .. السخرية المُرَّة من غباء الآخرين تجاه الذات وتجاهل تفردها و كذلك قد تهدف السخرية لإسقاط الهيبة والعلوية عن المواقف والمشاهد والأفكار وإثبات بساطتها وهشاشتها ..

وفي ديوانها الجديد " وجعاً يليق بك " * الصادر هذا العام 2016  تستكمل ما سبق وارتضته منهاجاً وطريقةً في النظر والرؤيا والتعبير وذلك عبر الكتابة وتقنياتها وآلياتها .. فتحدد بدايةً من عنوان الديوان أن هناك آخر وأنه معنِيٌّ بالحكي الذي سيتعرض لمشاهد الألم التي حدثت له أو على العكس لم تحدث ولكن تتمناها      أو تقوم الذات الشاعرة بالتخييل لأجل غاية حدوثها .. وفي كل الأحوال هو آخر مستحِقٌ للعذاب نتيجة لفشله في الوصول لما تطمح الذات الشاعرة في تحقيقه لهُ    أو بالأحرى معه .. ( مع ملاحظة أن الذات عندما تحاور نفسها في النصوص فإنها تخلق من ذاتها المنقسمة تلك ذاتاً وآخر وإن بآلياتٍ للمواجهة تختلف وتتراوح في درجة ومقدار العنف في الأداء أو في مقدار ومبررات التبرير والتسامح مع الأخطاء والخطايا ) ثم يتأكد هذا التوجه من خلال الإهداء الذي ترثي فيه هذا الآخر الذي لم يدرك قيمتها ولم يلمسها من الداخل وتعاتبه على غيابه الجبان أو تؤكد خيبة الأمل فيه .. تقول :                                                                     

" للي عَلِّم سكر الجلاب يحافظ على لمعة السكر

ويقاوم كل حشود النمل ،

ليه وقعت في نُص الطريق ؟ " ..

ثم تحسم وضعية هذا الآخر في النص الأول الذي جاء تحت عنوان " تنحي "  لافتة الانتباه نحو عملية الخلق المستمرة التي تحددت هنا باعتبارها هي الخالق الأول الثابت والدائم الوجود والآخر هو المخلوق المتغير الدائم التجدد .. تقول :

" أعمل إيه ؟

وانت عجينة

كل ما أعيد تصميمها .. تتشكل فشل " ..

إنها تُنشئ الحبيب / العالم من العدم ثم يخيب رجاءها فيه فتعيد خلقه من جديد وكأن الحبيب هو الكون الذي يحتاج كل فترة للتطهر من خطيئته الموشومة بروحه والتي تتكرر كلما طلعت شمس يوم جديد .. 

نلتقي في هذا الديوان بقصائد بسيطة تتخفف من المجازات الجزئية لصالح المجاز الكلي الذي هو النص ككل ، وهي الحالة الكتابية المسيطرة على الكتابة .. فتقول في نص بعنوان " بعودة " :

" لفيتي لفيتي وراجعة

وهو كان ايه ؟

جرعات بسيطة لمسكن قوي

بس

لم تؤدي لظهور أعراض إدمان "

فنلحظ عادية الكتابة وتداوليتها وخُلُّوها من الصور المباشرة ولكن إذا اعتبرنا عنوان النص عنصراً رئيسياً ، فاعلاً ومعتَبَراً .. نستطيع أن نتفاعل مع النص ونقترح حكايةً لفك انغلاق الكتابة رغم الوضوح والمباشرة المتبدية !! إن الصعوبة هنا تتضح وتتركز في جملة " وهو كان إيه ؟ " وبما إننا لا نعرف " هو كان إيه ؟ " نضطر بأن نقول بإن هذا النص عبارة عن مونولوج داخلي تسخر فيه الذات من ضعفها واقترابها من المحبوب الذي لايستحق نعمة القُرب ودفئه ، ورغم اعترافها أن الاقتراب المُحرَّم ممتعٌ بطبيعته إلا إنه سرعان ماتسترد البنت قوتها وصمودها وعافيتها الروحية .. ويستمر هذا مع استخدام الكاتبة في غالبية النصوص لتفاصيل وإشارات حياتية خاصة جداً تبدو وكأنها مبتورةً من سياقٍ ما لايملك المتلقي أي تاريخ مشترك معه .. هذا الانغلاق هو الذي يضطر المتلقي لأن يكون مقترِحاً طول الوقت وليس موقناً أبداً .. يقترح تأويلاتٍ للأحداث المبهمة ويقيم نصوصاً تخييلية موازية بُغية الفهم و التواصل ..

ونلفت النظر إلى مركزية العَنونة في تجربة الشاعرة وإن بطريقة متمايزة ومختلفة عما ألفناه إزاء العناوين .. فالعنوان في نصوصها لا يلخص تجربة النص و ليس مقطعاً شعرياً من النص ذاته مثلاً  وإنما قد لا تجد صلة مباشرة بين العنوان والنص ولكن يطرح كل نص وعنوانه نوع العلاقة بينهما وكنهها ويحددها بطريقته هو ، فنجد عنواناً يكون في حد ذاته طرفاً مساوياً لكتلة النص .. في حالة تضاد كامل معها أو حتى في صراع .. كذلك قد نجد عنواناً يسخر من الفاعل في النص أو من المهزوم         أو من الحالة أو يقوم بنسف وَهْم النص في رسم المشهد .. وهكذا .. المهم أن العناوين في نصوص الشاعرة هي صوت واضح وظاهر يُعَلِّق وينقض ويسخر ولا يقل أهمية عن النص بذاته .. ليس معادلاً موضوعياً ( عن ) النص ولكنه معادلٌ للنص ذاته .. وبهذا فإن العناوين تخرج عن حالة العفوية والحكي الحر التي جاءت النصوص على هيئتها .. ثمة قصديةٌ وترتيبٌ يجعل وضع العنوان تالٍ لعملية الانتهاء من النص وكأنه التعليق الأخير من صوتٍ متأمل وحكيم ..

تُضَفِّرُ الشاعرة نصوصها بقيمٍ ثقافية ومعلومات ومشاهد سياسية و سينمائية وتليفزيونية وجمل فصيحة – ونذكِّر بعنوان الديوان الفصيح والعناوين الفصيحة للكثير من القصائد - وأسماء وحالات لأبطال معروفين سواء من التراث الديني    أو التاريخي أو الاجتماعي أو الفني .. ولا تمثِّل تلك القيم نتوءات أو أحجار عثرة لتدفق الكتابة .. تقول :

" عذراً تاجر البندقية

لن نعطي المال

ولن نسمح بتقطيع اللحم .

جاي تمثل دور أحمد مظهر

ف غصن الزيتون

بس أنا عمري ماكنت عطيات "

وأظن أنها لا تفعل ذلك التضفير بقصدية أو بغية إثراء نصوصها وإعطاءها أبعاداً أكبر أو بغرض توسيع دوائر ومداخل التلقي بل إنها لا تفعل ذلك أساساً وإنما يفعل النص ذلك عبرها .. حيث أن التجربة التي تنجح في تصدير الاحساس بالعفوية والبساطة من الوارد والطبيعي أن تتجاور فيها القيم جميعها حتى المتضادة منها فهكذا تفعل الذاكرة حين تكون في حالة من الفضفضة والتداعي الحر فنلتقي بأحداث بسيطة إلى جوار قضايا وجودية كبرى إلى جوار أسماء وأماكن متعينة الخ الخ ..

وبالتالي فليس من المستغرب والأمرُ هكذا - أن تتسرب الحكمية وبعض النصائح الوعظية – ولو حتى كانت موجهةً للذات – وسط الكتابة المتدفقة .. تقول :

" هتحب .. هتسامح .. هتبقى

هتقدر .. هتحس .. هتموت "

أو " وغاب عن فكرك

إن كل صنم وله يوم "

وكذلك لا يكون الأمر مستغرباً أن نلتقي بجمل قد تبتعد عن الشعرية باقترابها وتبنيها الهم السياسي المباشر من مثل : " كامب ديفيد كانت أفضل الحلول " أو " ممنوع الدخول لغير المصريين بجد " ..

أو أن نلتقي بألفاظ وجمل أجنبية من مثل : " africansk,s " – " bmw "-     " sorry " وهكذا ...

ولا يمنعنا عدم الاندهاش من طريقة الكاتبة تلك والتي تفتح الباب للذاكرة لتنطلق بلا رابط ولا ترتيب ولا منطق والتعاطي معها وتقبلها ، أن نذكر أن هناك لحظات شعرية عديدة وملحوظة قد تبدت في خلفيتها ( ذهنية فصيحة ) جعلت من دخول بعض الألفاظ على الجمل يبدو مقصوداً ومتفلسفاً ومقحماً على بساطة الحكي العامي وخارجاً عن جو الفضفضة المتدفق بلا قصدية ولا ترتيب ولا معاظلات ..

إن كتابة دعاء عبد المنعم كتابة متسائلة بالأساس وليست سكونية وَصْفية باردة ترصدُ من الخارج .. كتابة قلقة رغم سخريتها الحادة ورغم حالة الاندياح المتبدية .. ويبدو أن اندهاشاتها المتعددة من غرابة مواقف الحب وعلائقياته ثم من تصاريف القَدَر الغامضة أدخلاها في أتون التساؤلات الأكثر صعوبة ، تساؤلات التراث الديني وقصصه ثم انتهاءً بالتساؤلات الوجودية الكبرى ، التي تطرحها أحياناً بتصادم يدخل إلى العمق وأحياناً تكتفي بالاشتباك اللفظي فقط بلا طرح ورؤية يحملان موقفاً واضحاً .. فقط هي تنتقي مايتشابه مع حالاتها الخاصة ومواقفها الشخصية وعينها التي تسقط على الحدث والتاريخ الشخصي أو العام وتسلط عليه بؤرتها وعدستها ..

تقول : " أقدر أفهم

إحساس الكليم دلوقت

لما اليهود خذلوه

( إذهب أنت ولربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون )

( من شاء فليؤمن ) ومن شاء ..هو حر "

أو : " مش أشجع م المسيح

لما صرخ م الخوف

لا إيدك تسيب إيديه

شال الصليب وشيلهولنا من بعده "

أو  : " طيب هيَّه

لو لبست توب الألوهية

ياترى ده هينسيكم إنها بنت ؟"

وكذلك : " مش عشان المكان طاهر بأصحابه

يبقى خالي م الشياطين

ماتقدرش تنكر

إن آدم سمع لإبليس ف الجنة

يعني تحت أي ظروف

إوعى تِدخُل مِسَلِّم أبداً "

إنها تتعامل مع كل التراث سواء كان دينياً أو تاريخياً على أنه قابل للتعامل معه ببساطة وعادية .. وأنهُ مثله مثل غيره سواءً بسواء .. قابلٌ للعب معه وإطلاق التساؤلات والتفكيك وإعادة تركيب الحكايات حيث تنزع عنه كل الأسوار والهالات سواء النوارنية أو المجتمعية التي تمنع الدخول والاشتباك .. ويعد ذلك استمراراً لحالة البساطة الماكرة التي تتعامل معها الذات الشاعرة مع الأحداث القريبة والمعاشة والذكريات وكل ما يقبل أن يكون مسرحاً للتعامل المباشر معه على هيئة قصائد .. ويبدو أن سر جهدها الفني يتمثل في أن تصل لدرجة من العادية في التعامل مع كل شئ بلا أية حواجز تراها هي بعقلية طفل مندهشٍ وإن كان شقياً ، محضُ وَهْم ..

نستطيع القول في نهاية المطاف إن سؤال الحب - وهو سؤال تُثبت الكتابة عبر تجاربها المتعددة والمتباينة في هذا الكتاب ، أنه سؤالٌ كبير ومحوري ومتشابك ومعقد وليس مجرد هَمٍّ شخصيٍّ عارض وبسيط – هو السؤال الأهم والمركزي في حياة هذه الذات التي تنقش وترسم الحيوات وتنقضها في آن .. وأن علاقة الحب تأتي في هذه الكتابة على هيئة علاقة ثنائية بين طرف يحكي ويسخر ويعيد تقييم المواقف ويصاب بالحنين والضعف ثم يصير حكيماً وصلباً الخ و هو هنا الشاعرة  ونصوصها ، وطرف آخر غائب هو الذي تحاول النصوص أن تجعل المتلقي يرسم صورة كاملة له بتجميع ملامحه المتشظية في النصوص .. فهو وإن كان طرفاً غائباً إلا أنه حاضرٌ طول الوقت وفاعلٌ وأساسي ومُتضمَن في فداحة حضور وتفاصيل الطرف الأول . أقول إن علاقة الحب هذه هي العنصر المهيمن على النصوص .. هي المادة الخام والمبدأ والمبتغى وما كل التداعيات التي وسعت دائرة النصوص إلا الإثبات العملي لكون هذه العلاقة تكافئ الحياة ذاتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 " وجعاً يليق بك "، دعاء عبد المنعم ، شعر عامية ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد الثقافي ، 2016

مقالات من نفس القسم