الأرملة تكتب الخطابات سرًا لطارق إمام

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 42
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد زين

يوحي عنوان رواية «الأرملة تكتب الخطابات سرًا»(1) للروائي المصري (طارق إمام) أننا مقبلون على قراءة رواية عاطفية، ولكننا منذ الصفحة الأولى ندخل في مناخ لا واقعي، وسرد طقوسي سحري، وعلى مهل يسوقنا الكاتب إلى عالمه الغريب، ويوقعنا في فخ لعبته السردية المتقنة، ودون أن ننتبه ينسج الروائي لغزه البوليسي متحاشيًا أية ضجة، ويتركنا في نهاية الرواية فريسة للتخمينات حول هوية الفاعل -العاشق السري للأرملة التي تكتب الخطابات سرًا- إذ لا توجد في هذا النوع من الروايات البوليسية الجديدة حقيقة واحدة مؤكدة ينحاز لها الروائي ويعلنها في النهاية. ويساعد المناخ السردي الغرائبي للرواية على أن تتماهى الحقائق الواقعية مع بدائلها الما وراء طبيعية، وحينئذ لا يجد القارئ بدًا من تشغيل مخيلته لاستكمال الصورة الناقصة، والسير على طريق الحل مهتديًا بالعلامات التي نثرها الكاتب بين السطور.

تدور أحداث الرواية حول الأرملة (مَلكْ) مدرسة اللغة العربية التي تزوجت في شبابها من صائغ ذهب وعاشت معه في القاهرة عشرين عامًا، لا ترى سوى الجدران، وكلب حراسة يمنع أي متسلل من الوصول إليها، وبعد وفاة هذا الزوج الذي لم تحبه يومًا، تعود إلى مسقط رأسها في مدينة صغيرة محافظة. تعطي دروسًا خصوصية للبنات، وتتواطأ معهن على كتابة رسائل غرامية لعشاقهن: تعطيها البنت خطابًا كتبته بنفسها لحبيبها، فتقوم المدرسة (ملك) بإعادة صياغة الخطاب متقمصة شخصية البنت وتعبر بلغة رائعة عن مشاعر اللوعة والحب وخفقان القلب، ثم تعطيه للبنت لتقوم بنقل الخطاب الغرامي بخطها، ومن ثم يأخذ طريقه إلى الحبيب. وبسبب هذه الخطابات الملتهبة تزوجت العديد من طالباتها أو سلكن طريق الانحراف وغصن في عالم الهوى.. تكتشف أن الطالبات في المدرسة يطلقن على البنات اللائي يترددن عليها مسمى «بنات ملك» وفي ذلك معنى الغمز من شرفهن. لكن هذه الأرملة التي تكتب الخطابات الغرامية نيابة عن طالباتها، تُفاجأ بأن شخصًا مجهولًا يرسل لها خطابًا غراميًا يربطه بحجر ويرميه على نافذتها، فيتهشم الزجاج وتستقر الورقة على بطنها تحت اللحاف، وكأنها رجل يشاركها سرير نومها. حدثت هذه الواقعة وهي نائمة، وحين استيقظت وجدت الورقة وعاينت الزجاج المهشم، ولكنها لم تجد الحجر.. فهل كانت تحلم؟ هل هي وساوس آخر العمر؟! في المنعطف الأخير للرواية تؤكد الراهبة العجوز التي تدير مستوصفًا أنها رأت حجرًا مقذوفًا باتجاه نافذتها التي تهشم زجاجها وأنها وقفت في الشارع تنتظر ظهورها ولكن ذلك لم يحدث.. تشتري (ملك) لنفسها قبرًا، وتروح تتردد عليه نهارًا، ولكن في مرة تخالف عادتها وتزور قبرها ليلًا، ودون مقاومة من طرفها يرفعها خفير المقابر عن الأرض ويضعها على حافة قبرها ويضاجعها.

تحفل الرواية القصيرة -79 صفحة- بعنقود متلألئ من الحبكات المترابطة فيما بينها ترابطًا محكمًا، وفي العرض الموجز الذي سقناه ركزنا على الشخصية الرئيسة دون غيرها، إذ لا يتسع المجال لإيراد البؤر القصصية الأخرى، وهي كلها غنية بالدلالات وتكسو شخصية (ملك) بالريش الذي يشكل عالمها الداخلي والخارجي، فتطير في وعينا متهادية ونحن نتابعها في مختلف حالاتها، ثم النهاية التي تبدو من وجهة نظري سعيدة، وإن لم يصرح المؤلف بذلك، ولكنه عبر عنها مجازيًا في آخر مقطع من الرواية:

«لا تعرف على وجه الدقة متى حدث ذلك، ولكنها أخرجت الخطاب في هذا الصباح خاليًا من كل تجاعيده، وحروفه الذائبة، وحوافه المصفرة.. كأي ورقة بيضاء لم تكتب. وابتسمت ملك، شاعرة بطمأنينة غريبة تسري في عروقها. كانت الصفحة المنبسطة أمامها مصقولة، حتى هيئ لها أنها ترى وجهها فيها. التقطت القلم لتكتب شيئًا، ولكنها توقفت فجأة، قبل أن تخط حرفًا.. لأنها تأكدت -مرتعدة- أن اليد التي همت بالكتابة، ليست يدها»(2).

ويتميز أسلوب (طارق إمام) بالاقتصاد الشديد في وصف مشاعر شخصياته، ويقف على الحياد متجنبًا إصدار الأحكام عليها، واضعًا نفسه والقارئ على مسافة من الحالة التي تعيشها الشخصية، وهي بلا شك مهارة عالية، اكتسبها الكاتب بعد تدريب طويل وشاق، متخلصًا من تلك السهولة التي يتعامل بها عموم الكتاب مع الشخصيات والمواقف التي تعيشها. وكلنا نعلم الإغراء الشديد الذي يسيل له لعاب الكاتب لتقديم شرح للقارئ وتفسير بعض الأوجه الغامضة لحدث ما.. وفي رأيي هذه منطقة مهمة ينبغي للنقاد العرب التركيز عليها، لأن معظم الروايات العربية تعاني من ترهل السرد فيها، بسبب ميل الروائيين العرب إلى الشرح والإسهاب وتدوير المعلومات داخل المتن الروائي مرات ومرات، وكأن القارئ يعاني ضعفًا في الفهم ولا يمكنه أن يكون لبيبًا ويفهم من أقل إشارة.

ينتمي طارق إمام (3) إلى جيل التسعينيات في مصر، إذ بدأ بنشر أول كتبه «طيور جديدة لم يفسدها الهواء» في عام 1995، وهو الجيل الذي تربى على أعمال الواقعية السحرية لأدباء أميركا اللاتينية السارية في العالم كالنار في الهشيم، وما يزال لهذا التيار الأدبي جاذبيته القوية حتى اليوم. ويستفيد طارق إمام من تقنيات الواقعية السحرية ويوظفها في أعماله الأدبية بطريقة مختلفة، بحيث تخدم حبكته البوليسية وتضفي عليها المزيد من الغموض المثير لخيال القارئ. وما يمكننا تسجيله لصالح الروائي أنه استعاض بدلًا عن الحبكة البوليسية التقليدية بحبكة بوليسية سحرية، لا ترتكز على قوانين المنطق والاستدلال، ولكن تقوم على الخيالات والتصورات العجائبية. وهذا الاستبدال في طريقة بناء الحبكة البوليسية لم يأت وليد الصدفة، ولا هو أيضًا بالأمر المعتاد الذي يمكن لأي امرئ أن يحققه بسهولة، بل هو اشتغال حاذق ومعقد، ويحتاج إلى موهبة وصبر عظيمين، لإنجاز قصة على قدر عالٍ من التشويق وتتضمن رؤية سردية جديدة.

تقارب هذه الرواية من ناحية المضمون موضوع العشق النادر الحدوث بين كبار السن والشبان، ويخالف الروائي الشاب طارق إمام الروايات العالمية الشهيرة التي تناولت هذا الموضوع مثل «ذكريات غانياتي الحزينات» لغابرييل غارسيا ماركيز، و«يوميات عام سيئ» لكويتزي، و«الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا، حيث تنتقل البطولة من الذكر إلى الأنثى – من شيخ بلغ من العمر عتيا تعشقه شابة عند أولئك إلى امرأة مسنة يعشقها شاب عند طارق إمام- ويغوص عميقًا في ماضيها وحياتها الطويلة العقيمة التي عانت فيها من الحرمان العاطفي، ثم في النهاية تحصل على حبها الكبير وهي تتفقد قبرها متهيئة للموت! لا ريب أننا أمام شاب عربي مبدع استطاع أن يقدم مساهمة مهمة في موضوع شائك كهذا، واضعًا اسمه مع كبار كتاب الرواية في العالم.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم