اشتغال الفانتاستيك والرؤية السردية في رواية “كيميا” لوليد علاء الدين

كيميا
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد المسعودي

 من يقرأ رواية “كيميا” لوليد علاء الدين يتبين له أن النص ينتمي إلى الأعمال السردية التي نحت منحى فانتاستيكيا في سياق محاولتها تشكيل عوالم متخيلة تقرأ في ضوئها التاريخ وتسائل شخصياته وتحلل نفسياتها وتفاعلها مع الناس والحياة، بحيث يقوم المتخيل الروائي في نص “كيميا” على تحليل شخصية جلال الدين الرومي وصديقه شمس التبريزي في موقفهما من حب “كيميا” و”علاء الدين ولد” ابن جلال الدين الرومي. فكيف يشتغل الفانتاستيك في رواية “كيميا” لوليد علاء الدين؟ وكيف يُسهم في تشكيل عوالمها المتخيلة وبناء طرحها الروائي؟ وكيف تتشكل الرؤية السردية في الرواية انطلاقا من هذا الاشتغال الفانتاستيكي وارتباطا به؟

هذه أسئلة ستكون منطلقنا إلى مناوشة رواية “كيميا” للروائي والشاعر وليد علاء الدين، وهي عمله الروائي الثاني بعد “ابن القبطية”؛ وفي العملين معا يستحضر الروائي شخصية جلال الدين الرومي إن بشكل أو بآخر. فكيف تحضر شخصية الرومي في “كيميا”؟ وما حدود الفانتاستيكي والتاريخي في بناء متخيل الرواية؟

يجعلنا السارد نعيش معه – من بداية الرواية إلى نهايتها- تفاصيل رحلة قام بها إلى تركيا لحضور ذكرى الاحتفاء بمرور ثمانمائة عام على ميلاد جلال الدين الرومي، وكانت هذه الرحلة بغرض كتابة تغطية، أو إنجاز كتاب عن الشاعر الصوفي، وعن “المولوية” وما تبقى منها، فكانت الرحلة بابا نحو ولوج عوالم غريبة ودخول السارد في متاهة أحداث ووقائع تشبه أحداث أفلام الرعب، وعوالم الأشباح والأرواح.

وهكذا منذ حلول السارد “وليد علاء الدين” بغرفته في الفندق، وجد نفسه خاضعا لحالة غريبة لا يعرف كيف يخرج منها، إلى درجة تختلط عليه الأحلام بالوقائع، ويجد نفسه مُسيرا للقيام بأفعال يمليها عليه “شبح” علاء الدين ولد ابن الرومي، أو روحه. بل إن التماهي بين الشخصيتين يتبدى من خلال تحول شكل السارد أو توهمه ذلك وقد تداخلت أحلامه بواقعه، يقول في مقطع دال من الرواية: “أفزعني أيضا أنني عندما حدقت في الكلمات محاولا فك شفرتها، لم يكن الوجه الذي يطالعني في المرآة وجهي، كان وجها آخر” (الرواية، ص. 13).

وقد كانت علامات كثيرة تؤكد أن روح “علاء الدين ولد” قد تلبست جسد وعقل وروح السارد “وليد علاء الدين” في الرواية. وهذه الروح التي انبعثت بعد ثمانية قرون من موت والدها (الرومي) وصديقه (شمس التبريزي) ليس لها من غاية سوى كشف عوار الرجلين، وتعرية أفعالهما أمام الناس، وكشف مدى ظلمهما ل”كيميا” ووقوفهما في وجه حب “كيميا” و”علاء الدين ولد” البريء الطاهر. وبهذه الكيفية تقدم الرواية صورة مختلفة عن الشاعر الصوفي من منظور يستثمر بعض معطيات التاريخ، لكنها تندغم في سياق فانتاستيكي مفرط في غرابته، لتقدم “حقيقة” أخرى عن جلال الدين الرومي وشمس التبريزي. حقيقة “جديدة” تقطع مع الصورة المتداولة عن الرجل وصديقه. وهكذا سيتبين للقارئ مدى ما قام به الرجلان من شطط وعسف وهما يئدان حب “كيميا”، بل ويطمسان ذكرها. وبذلك ستتحول رحلة السارد من الكتابة عن المولوية وعن الرومي إلى رحلة تتغيا معرفة قبر “كيميا” والعثور عليه في مسار فانتاستيكي تقوده روح “علاء الدين ولد” التي تلبست السارد، وأملت عليه منطقها ودفعته إلى كشف الحقيقة الخفية لجلال الدين الرومي ورفيقه التبريزي، ولتبين للعالم أن القداسة الممنوحة للرجلين لا يستحقانها.

ويبدو من خلال أحداث الرواية، في متخيلها الفانتاستيكي الغريب، أن السارد يتماهى بشخصية ابن الرومي (علاء)، ويذوب كل منهما في الآخر إلى حد ما. ولكن على الرغم من هذه الحيلة الفنية، حرص السارد على تبيان أن هناك حدودا بين ذاته باعتباره شخصية معاصرة تعيش في زمننا وتتعامل مع واقعها بعقلانية ودراية، لها همومها وتطلعاتها المرتبطة بالكتابة والإبداع؛ وبين شخصية “علاء الدين ولد” التي عاشت قبل ثمانية قرون، وكانت لها هموم مختلفة وإشكالات أخرى تتعلق بسعي شمس التبريزي إلى تهميشها ومنعها من تأدية أي دور ضمن أتباع جلال الدين الرومي، ومن هنا كانت شخصية متمردة قلقة.

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل قلق وتمرد “علاء الدين ولد” كان مبررا لكي يتحامل على “التصوف” وعلى “الدين” ويرفضهما؟ وهل هذه “النظرة النقدية الرافضة” هي نظرة هذه الشخصية الروائية أم نظرة السارد “وليد علاء الدين”؟ وهل نجد انسجاما في هذه الرؤية إن كانت رؤية “علاء الدين ولد” ابن الصوفي الشاعر جلال الدين الرومي؟

مما لا شك فيه أن الروائي ذهب إلى حيز “جديد” قصد تشكيل متخيله الروائي، ومما لا شك فيه أن القارئ ينبهر بمدى جرأة الكاتب، وهو ينبش في سيرة جلال الدين الرومي وشمس التبريزي ومن أحاط بهما من شخصيات، وأنه سيكتشف تصورا آخر ل”حقيقة ممكنة” تحاول الرواية أن تعرضها على متلقيها، هذه الحقيقة التي يمكن إجمالها في جملة واحدة مختصرة: جلال الدين الرومي وشمس التبريزي كانا مجرمين قاتلين أسهما بقتل “كيميا” ووأد ذكرها باسم العشق، وأنهما حالا بينها وبين معشوقها الحقيقي: “علاء الدين ولد” الابن الأصغر لجلال الدين الرومي. ولكي يقنعنا السارد بهذه الحقيقة المكتشفة “الجديدة” توسل بصيغ فنية مركبة ومتعددة، وبأساليب سردية ملتوية ومتنوعة، كان قوامها الفانتاستيك، كما حاولنا أن نبين، لكنه جعل الرؤية السردية والنظرة إلى الحقائق المتخيلة التي تقدمها الرواية منظورا إليها من زاوية نظر السارد المحوري “وليد علاء الدين”، ومن ثم لم يضع السارد بينه وبين شخصيته المستدعاة في الرواية مسافة تمكنه من تقديم رؤية نقدية موضوعية لممارسات الرومي وسلوكاته، كما سقطت في رفض التصوف والدين من أفق زمننا لا زمن علاء الدين ولد ابن الرومي، وبهذه الشاكلة كان الخلل ناجم عن التماهي المطلق الذي وقع بين الشخصيتين. ولم يتمكن الأفق الفانتاستيكي من جعل الروائي يكتب رواية تاريخية متخيلة يصحح فيها رؤية القراء لما يمكن أن يكون قد حدث منذ ثمانية قرون سالفة، فضلا عن أن الرواية عرفت تدخلات الروائي تكشف عن معتقده ورؤيته، لا رؤية شخصياته السردية المتخيلة، فعلى سبيل المثال يقول السارد:

“.. خرجت إلى المحطة. استوقفت أول تاكسي. طلبت من السائق أن يقلني لمشاهدة كنيسة آيا صوفيا، لا أعرف لماذا أحسست أن طلبي أغضبه، استمر هذا الغضب خلال حوارنا القصير جدا، قال: ” Aya Sofia Cami”، قلت ظانا أنه لم ينتبه:” ” Aya Sofia Church”، قال بحدة:” Cami… Cami”، وانتهى الحوار.

ولكن آيا صوفيا كنيسة أيها السائق. وإن تحولت إلى جامع بعد غزو القسطمطينية على يد السلطان محمد الفاتح، فهي توصف بأنها أعظم كنيسة بنتها اليد البشرية على الأرض. سخر لها الإمبراطور جوستيان أفضل المعماريين؛ آرتموس الأمهر من آسيا، وإيسادور من ميلانو، وجلب لها الأحجار والأعمدة والرخام من مصر وبعلبك وأوبوا وأثينا وروما، وأنفق عليها 360 مليون فرنك ذهبي، واستخدم فيها عشرة آلاف عامل، حتى قيل إن هذه البناية لم يُشهد مثلها منذ آدم، ولا يمكن تشييدها بعد الآن. فمن أقنعك بأنها جامع؟” (الرواية، ص. 26)

يتبين القارئ في هذا المقتطف من الرواية- وهذا مثال واحد للتدليل- تدخل الروائي المباشر وإملاء رؤيته الخاصة التي تؤمن بما يعتقده هو، وهذا التصحيح لتصور سائق التاكسي لا يضيف للرواية شيئا سوى تبيان رفضه وإعلان اختلافه عما يعتقده الناس وما هو واقع. ولعل هذه التدخلات المباشرة هي التي جعلته لا يتمكن من التحكم في وضع مسافة بينه، باعتباره شخصية متخيلة وبين نفسه ككاتب، وبين هذا السارد والشخصية التاريخية المتخيلة “علاء الدين ولد” فجعل الجميع يعلن عن موقف واحد ورؤية سردية واحدة لا تنبئ عما يقتضيه منطق الرواية من تنوع وإمكان للتعبير عن وجهات نظر متباينة.

ومن خلال هذه النتيجة التي نصل إليها نؤكد أن الرواية الفانتاستيكية التي تنطلق من التاريخ وتزعم تصحيح بعض “الحقائق” ينبغي أن يتحلى أصحابها بروح حيوية محايدة لا تنطلق من أحكام مسبقة. رواية تشدنا وتطرح رؤية مغايرة، ويكفيها أن تطرح السؤال، وتنبش في المقدس.

وفي الختام أشير إلى أني استمتعت بهذا العمل الروائي وبخياله الطريف، وبشعريته وجمال لغته، وبقدرته السلسة على الانتقال بين السياقات التي خلقها الكاتب في روايته. وسوف يجد المتلقي في الرواية ما يشده ويلبي تطلعاته لمعرفة ما جرى ل”كيميا”، وكيف كان الرومي والتبريزي رجلين ظالمين، وأنه في النهاية سيتفق معي في الرأي الذي خلصت إليه بصدد الرؤية السردية في هذه الرواية.

…………………….

*وليد علاء الدين، كيميا، دار الشروق، القاهرة، 2019.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون