“ابتسامات القديسين”

ابتسامات القديسين
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ألعاب السرعة!

عندما كنت أستيقظ على صوت دقات الأجراس القادمة من صوب الكنيسة القريبة، تتداخل الدقات ذات الرنين المعدني المتتابعة بصورة كريستين - أمك الله يرحمها - وعماد.

هكذا بدأت نادية تحكي لابنة أخيها. وتغمرني السعادة لذكرها اسمي – رغم أنها لم تترحم علي – فأستعيد فورا ذلك الزمن البعيد، الذي لا أستطيع العودة إليه، ربما لأن ما يكفيني الآن هو الاستماع إلى صوتها وهي تحكي، وتطلق وشيشها الداخلي للمرة الأولى.

تحكي، فيكشف حكيها عن حساسيتها ورهافتها – وربما أن هذا تصوري الذي يوهمني إياه حبي لها – دون أن تعرف أنني أقرأ ما تحكيه وهو يدور في ذهنها، ويبدو لي أجمل.

.. وبمجرد أن أفتح عيني أدرك أن رامي قد استيقظ هو أيضاً، ولكنه، وكما كل أيام الجمعة والأحد، لا يستطيع أن يبدأ يومه باصطحابهما. سيعيد الغطاء فوق رأسه، ويكور نفسه مثل كائن دقيق داخل قوقعة بحرية ملقاة على رمال الشاطئ، محتفظاً لنفسه، ولي طبعاً، بذلك الصخب الداخلي الذي لم يكن بإمكان أحد أن يسمعه سواي. كنت أستمع إلى أغلب ما يدور بذهنه، وأشعر بمشاعره.

أحياناً أستيقظ مندهشة من دموعي التي تغافلني أثناء النوم. أحاول أن أتذكر الحلم الذي أبكاني، فأدرك أنه هو الذي كان يحلم.

بعد زواجي بفترة قصيرة ظن زوجي أنني ممسوسة. وقال لي موضحاً، إنني أضحك كثيراً أثناء النوم. وفي أحيان أخرى أبكى طويلاً، لكنه لم يكن يعرف أنه لا حيلة لي في ذلك، إذ كانت أحلام رامي العبثية إلى حد الكوميديا، أو كوابيسه المزعجة هي السبب في ذلك.

مرة واحدة فقط جاءني رامي ضاحكاً، ليحكي لي تفاصيل الحلم الذي حلمت به ليلاً وأنا أركض خائفة من بواب العمارة العجوز وهو يمسك بعصا غليظة، ويتهمني بأنني كسرت «القلة» التي يشرب منها. ارتبكت للحظة، قبل أن أشاركه الضحك، وأنا مندهشة من أنه استطاع أن يرى حلماً من أحلامي. ولكنه توقف عن متابعة أحلامي بعد ذلك، حيث تضخمت روحه بالحزن الذي تسرب إليّ بالتدريج، وملأ ليلي بالكوابيس التي كانت تلاحقني لليالٍ متتابعة حتى أسرع إلى أمي – جدتك – لأحكي لها، فتتأملني واجمة قبل أن توصيني بألا أحكي الحلم لأي أحد، وبعدها تردد: «اللهم اجعله خير»، ثم تشرع في حكايتها المكررة عن ولادتنا التي عذبتها طويلاً، ولساعات تجاوزت الـ 18 ساعة حتى اضطرت الداية للاستنجاد بالمستشفى: «نقلوني هناك، ورامي رأسه مش عايزة تخرج، وجيتي أنتي وراه بنص ساعة».

المكان الوحيد الذي لم يكن مسموحاً له بمرافقتهما فيه هو الكنيسة، وكان مشغولاً بالتفكير في الطريقة التي يستطيع بها تجاوز هذا القيد. يعرف أنني أستمع إلى وشيشه، لكنه لم يعد يمتلك القدرة على التراجع عن تقليب الأمر في خياله مصحوباً بصوت دقات الكنيسة، والتراتيل التي كثيراً ما أسترق السمع إليها عندما نذهب سوياً إلى «خالتي درية» في شارع «السكة القديمة»، حيث تطل الشرفة الجانبية للبناية القديمة، ذات السقف العالي، على فناء الكنيسة، ويقف مشدوها يراقب الصبية والبنات – أيام الأحد – في شغف.

كان شغوفاً بفكرة التحول إلى المسيحية، ولم تقنعه كثيراً آراء جدك الذي بوغت برغبته، وحاول أن يثنيه عن أفكاره بطريقته الهادئة، دون جدوى. وظل طويلاً يعيش في حلمه بأن يصبح مسيحياً، ويتمنى كل ليلة أن يحلم بالمسيح، كما يراه بعيني طفولته: الإله الجميل ذا الشعر الأشقر والعينين الزرقاوين.

وكما ملأت أفكاره كل حياتي، كانت كريستين – امك – هي التي تملأ عقله وروحه وتفيض نفسه بها إليّ.. إلى ذهني وروحي.

تقريباً.. لم يتسع خياله لأي امرأة اخرى سوى مرتين: الأولى عندما تعلق بحب «أبلة سوزان» مدرسة الرسم في المدرسة الإعدادي، لم يكن مشغولاً بالرسم على الإطلاق، لا يستحوذ على خياله سوى شخصيات الروايات التي يلتهمها يومياً، وخاصة «فهمي» في ثلاثية محفوظ، و«أوليفر تويست» لديكنز و«دارتانيان» فارسه النموذجي بين فرسان دوماس، و«أزميرالدا» فيكتور هيجو: نموذج الأنثى التي يبحث عنها في كل علاقاته. يتقمص شخصياتهم في خياله ويجمعهم معاً، أو يتسلح برداء دارتانيان لينقذ أزميرالدا من الضابط الفرنسي الذي يكرهه، أو يترك لمشاعره العنان لحب «مريم»، متأملاً حياتها المأساوية بعد رحيله، باعتباره فهمي ابن السيد «أحمد عبدالجواد».

لكن هذا العالم، بكل تفاصيله، سقط فجأة من سقف ذاكرته ليفسح الطريق لصورة «أبلة سوزان» شبيهة «ميرفت أمين»، ولكن بعينين واسعتين عميقتين، وملأ من أجلها صفحات كراسة الرسم بخطوطه السخيفة ورسومه المشوهة.

أما الثانية، فهي «ماريا» اليونانية التي تعلق بها جدا، وكانت بديلاً طبيعياً لأمك في فترة انفصل خلالها كل منهما عن الآخر، بعد موت عماد الدرامي.

نعم.. كان موتي درامياً يا نادية. معزولاً ووحيداً. مجهداً بتعب القلب الذي أنهكه المرض، وغارقاً في الحمى والخوف المضني من المجهول، متوسلاً ليسوع بالغفران باسم الأب والابن، وبأبينا الذي في السماوات، وبحق كرامات الشهداء والقديسين. غير أن أحداً لم يشفع لي يا نادية. وغبت مذبوحا بالألم إلى زمن آخر، يشقيني أنني لا أستطيع أن أحكي لك عنه، ومازلت بعد عودتي الدرامية هذه لا يمكنني أن أحقق تحدياً يماثل ما فعله رامي وكريستين.. في ذلك الزمن الجميل..

نلعب الحجلة منذ البلاطات الأولى لسور الكورنيش المحاذي لمبنى المحافظة، وحتى مبنى المكتبة العامة المغلقة دائماً، والمواجه لفيللا الشناوي الأنيقة بتصميمها الذي لا يخلو من فخامة، والتي نعبر إليها في الجهة الأخرى من شارع البحر على حدود المختلط.

نتأمل التماثيل الحجرية البيضاء، تجسد فتيات لهن ملامح جمال اغريقي قديم، والموضوعة بجوار الباب الرئيسي الذي يتوسط المدخل الزجاجي الملون بألوان صارخة يطغى عليها الأحمر والأزرق. نتسلل بخيالنا إلى ما بعد الباب، نحاول اختلاق السيناريو المناسب للحياة داخل الفيللا التي ارتبطت في خيالنا، أنا ورامي وكريستين – بالقصور المسحورة، غامضة وممتلئة بالأسرار التي خلفها البشر: عائلة الشناوي التي لم نعد نسمع عنها كثيراً الآن، بينما بقيت آثارهم دلائل أرستقراطية قديمة: قصر محمود الشناوي المهيب بقبابه المميزة وطرازه المعماري الأوروبي، والذي تحول إلى مبنى مديرية الأمن القديمة على حدود كفر البدماص مطلاً على الميدان القريب من جامع النصر. وقصر الشناوي الكبير الذي تحجبه الأشجار والسور المحيط به والمباني، حيث يقع قريباً من تقاطع شارع البحر مع شارع جيهان، والذي ارتبط في أيام مجده بأسماء الإقطاعيين، وبالحفلات التي أقيمت به، بعضها بحضور أم كلثوم وعبدالوهاب، قبل أن يصبح بدوره الآن شبه مهجور.

نصعد بعدها على المشاية العلوية التي تبدأ من أمام السور الخلفي لمدرسة «المنصورة الثانوية بنات»، وتعلو تدريجياً فوق كوبري القطار الذي يصل بين طلخا والمنصورة، ثم نهبط إلى الجهة الأخرى من المشاية عند مدخل «الهابي لاند» نأكل «الآيس كريم» قبل أن نعود مرة أخرى إلى موقعنا الأثير في توريل.

تلك كانت الأيام الخوالي يا نادية. سنجد الجميع في انتظارنا: «جلال» الأسمر ذا الجسد المدكوك، و«علي» الذي ينتصر لي دائماً على كل من يطلق علي لقب «أبوعضمة زرقا» و«جولي» النصف ألمانية، بشعرها الطويل الأشقر وجسدها النحيل وعينيها الزرقاوين، والتي ينتظر جلال لأجلها لعبة المنديل متحرقاً، ويختار الفريق المضاد لفريقها بحيث يقف في مواجهتها متخذاً من المنديل ذريعة للاقتراب منها هائماً، يحيطها بذراعيه دون أن يلمسها ليمنعها من الركض بالمنديل إذا اختطفته. لكنه غالباً ما يفقد تركيزه بتأثير اقترابه منها أكثر مما ينبغي، وهو ما يعطيها الفرصة لتهرب بالمنديل وسط تشجيعنا الحماسي لها، بينما تقف «بسنت» بالمنديل بينهما، وهي تكاد تحترق من الغيرة والكمد، لتعمد جلال المستمر تجاهلها، بينما انتظر أنا ورامي ألعاب السرعة: «الاستغماية الجديدة» أو «الملك» لنعلن للجميع أننا الأسرع بلا منافسة.

ولعلي كنت الأسرع يا نادية بلا منازع. رحلت وحدي، مذبوحاً بالألم. مشفوعاً بالدعاء والنذر والصلوات وبصيام الميلاد والقيامة، دون جدوى. والآن لست سوى حالة شبحية، لا يراني أحد، ولا أثر لكريستين أو رامي ايضاً، وأمامي تقف حنين ابنتهما علامة فارقة على عبث الحياة التي تعيشونها يا نادية.. بينما تحكين لها حتى ما تكاد ذاكرتي تهمله تحت ضغط الألم.

…………………….

الطنين الأخير

قاطعت حنين عمتها لتسألها إذا ما كانت ترغب في شرب شاي، وهي تتجه إلى المطبخ لإعداد قهوتها. تسهب عمتها في التفاصيل بينما يأكلها الفضول لتعرف ما حدث لأمها ولأبيها.

– هو إحنا هنشوف بابا إمته يا عمتي؟

رفعت حنين صوتها بالسؤال وهي تقف في المطبخ.

– مش عارفة يا حنين لسه. يمكن آخر الأسبوع.

احست بالتوتر والقلق. وانتبهت إلى أن جزءاً من عقلها يردد أغنية «بول آنكا» دون وعي منها، بإلحاح، كعادتها حين تظل تردد الاغنية التي تسمعها للمرة الأولى في أي صباح.

Every night my papa would take me

and Tuck me in my bed

Kiss me on my head

After all the prayers were said

أحست بأنها تفتقد أباها بشدة. لكنها في الوقت نفسه كانت مدفوعة بالصبر على ثرثرة عمتها بفضول اكتشاف شيء ما لم تكن تعرفه. ملامح خاصة بأمها. سر غامض عن أبيها. حكاية عن أهل أمها الذين لا تعرف عنهم شيئا.

I could tell

That mama wasn,t well

papa knew and deep down so did ahe

So did she

when she died

My papa broke down and cried

All he said was: God. why not take me?

خرجت حنين من المطبخ وهي تحمل صينية وضعت عليها قدح القهوة وكوب الشاي. سألت عمتها وهي تضع الصينية على المنضدة الصغيرة أمام عمتها:

– أنتِ عمرك ما خرجت معاهم يا عمتي؟

– لأ طبعا.. خرجت معاهم.. بس مش كتير.

حكت نادية لحنين عن المرات القليلة التي خرجت فيها معنا:

زيارتنا «لدار ابن لقمان» التي ذهبنا إليها مبهورين وفخورين بالتاريخ المنقوش أعلى الجدار المواجه للمبنى القديم البسيط، وهو نفس التاريخ الذي أسر فيه «لويس التاسع» بعد معركة «فارسكور»، وعرفنا من الموظف الذي اصطحبنا في جولتنا بمتحف اللوحات التي تجسد المعركة انها كانت تدور بعد سنوات قليلة من بناء المدينة التي عرفت باسم «جزيرة الورد»، التي بناها «الملك الكامل» لتكون استراحة عسكرية لمواجهة الجيش الأيوبي للحملة في عام 1219. وخرجنا محبطين من فرط بساطة المكان، وسذاجة الحارس الذي رافقنا إلى غرفة صغيرة بها نافذة تطل على «كوبري طلخا» وأشار إلى مكتبة صغيرة ومقعد خشبي مطليين باللون الأسود، قال أنهما كانا يخصان ابن لقمان صاحب الدار!

قالت نادية: كانت لهم ألعاب سخيفة، بالذات عماد ورامي. تصوري أنهم كانوا بيتسابقوا يروحوا عند مزلقان القطر عشان يناموا تحته وهو معدي. وبعدين أنا ما كنتش صاحبتهم قوي. يعني أنا ما كنتش زي أبوكي. دايما كنت بأحس إن فيه حاجة بتفصلني عنهم.. مش بارتاح لهم.. يعني أنا كنت متخلفة شوية وأنا صغيرة.. وكمان كريستين وهي صغيرة كانت شبه الولاد.. وطول النهار قاعدة معاهم في الشارع.

وأضافت نادية أنها رغم ذلك لم تمتنع عن صحبتنا كثيرا إلى «الهابي لاند» أو لشرب الكوكتيل عند أحمد أمين في شارع العباسي أو «الكاساتا» في كازينو الشجرة أو «مانيرفا».

ثم ضكت وهي تقول: «لو سمعتني نسرين وأنا باقول على الأماكن دي هتقول عليّ دقة قديمة. دلوقت فيه أماكن جديدة.. إيشي «فوندي» و«كنتاكي» و«جرين كورنر» و«علاء الدين» وكل يوم مطعم جديد، أو «كافيه»، ده غير نادي جزيرة الورد اللي قاعده فيه طول الليل والنهار.

وصرخت نادية كأنها تذكرت شيئا مهما: أيوه.. افتكرت.. كنت باحب أروح معاهم جنينة الحيوانات.

طبعا يا نادية.. وكنت تستمتعين بكل الطقوس بدءا من شراء التفاحات الخضراء الصغيرة المثبتة بالعصي النحيلة والتي تعلو كلا منها تلك الطبقة الحمراء من الحلوى تملأ الصندوق الصغير الذي يحمله «عم علي» على كتفه. تتسللين من بيننا لتذهبي ركضا إلى بيت الطاووس.. مكانك الأثير.. حيث تستمرين طويلا تتأملين الطائر البديع بانبهار.

Every time I kiss my children

Papa;s words ring true

your children live through you

They’ll grow and leave you too

وأحست نادية بتملل حنين التي اغرورقت عيناها وهي تردد الأغنية في ذهنها، فحكت لها هذه الواقعة التي غابت عن ذاكرة الجميع إلا نادية في ما يبدو: قالت لها إنها اكتشفت غيابي أنا وكريستين في واحدة من زياراتنا لحديقة الحيوان، وإنها ورامي بحثا عنا طويلا في أرجاء الحديقة حتى وجدانا في بيت الطيور نقف متقابلين وقد تلاصقت شفتانا.

كنا صغارا يا نادية، وما حدث كان مجرد نزوة صبيانية أدركنا بعدها وجود حائل كبير يفصل بيننا، فقد كان تفاهم رامي وكريستين واضحا للجميع. كانت هناك لغة خاصة يستخدمان فيها نظرات العيون، ولكني كنت أفهمها بحكم قربي منهما، ولم يكن ذلك يعنيني في شيء لأنك أنت التي تمنيت أن أقف أمامها بين كل تلك الطيور محاطين بالزقزقات المنغمة والهديل، أتأمل عينيك السوداوين العميقتين.

لكن شيئا من هذا لم يحدث لسبب بسيط هو أنني تركت كل شيء متوجها إلى مصيري المحتوم. أمسكت يد أمي أتحسسها برفق. تلاشت صورتك من خيالي، وكانت تلك البرودة القادمة من عمق الروح تدهمني بسرعة. أمسكت كف أمي بقوة. فتحت عيني لأحتفظ بصورة وجهها. ابتسمت لها مشجعا ومطمئنا إياها بأنني ذاهب إلى جنة المسيح.. وبدأ شعوري بالتلاشي.. أغوص في دوامة الوعي التي تسحبني بعيدا خارج حدود الزمن.

…………………

ألغاز الروح

مزقني بكاؤك الصامت يا نادية، بينما تقودين سيارتك، منطلقة من شارع طلعت حرب، في طريقك إلى «مستشفى الكلى» على امتداد سور الجامعة. لم ينقطع بكاؤك سوى للحظات أثناء مرورك من مدخل المستشفى الأنيق، وسرعان ما أجهشت بالبكاء مرة أخرى، لا تجدي المناديل الورقية التي كانت تتحرك بالتتابع بين مآقيك، شيئا.

أنقذتك المكالمة الهاتفية التي استدعوك بها لطارئ يستلزم دخولك غرفة العمليات. ربما أنني وحدي الذي يعرف ما يجيش بصدرك. الصمت المفزع الذي تشعرين به الآن بعد تلك السنوات الطويلة من الصخب الداخلي، الذي تصنعه افكاره، ليترك لك بدلا منها حنينا.. فماذا ستفعلين؟

***

أمسكت حنين بنسخة من مجلة «Voici» كانت قد أخرجتها من حقيبتها. قلبت صفحاتها وهي مشتتة الذهن. توقفت للحظة أمام إحدى الصفحات التي ضمت مجموعة صور لاثنين من نجوم المجتمع الفرنسي: «جان باسكال» و«إلودي»، يفترشان منشفتين على رمال الشاطئ بهاواي. ترتدي إلودي «مايوه» بيكيني أحمر مزركشا بورود بيضاء صغيرة، بينما جان باسكال يرتدي «شورت» كحليا. الصفحة المقابلة تضمنت صورة واحدة ضمتهما معا وهما يتعانقان في وسط مياه البحر. قلبت الصفحات مرة أخرى. توقفت أمام صورة لسيدة ضخمة تشى ملامحها بأنها في أواخر الأربعينيات. شقراء. تقف عارية. لا ترتدي سوى النصف السفلي من مايوه «بيكيني» اسود، تستعرض جسدا استعاد رشاقته بعد ترهل طويل. ترفع ذراعيها عاليا لتعطي الفرصة للرجل الخمسيني ذي الشعر الفضي الواقف خلفها لتوزيع الكريم على امتداد ظهرها، قبل حمام شمس على ظهر أحد اليخوت.

الصفحة التالية ضمت صورا «لبريتني سبيرز» مع عائلتها أثناء إجازة بلوس أنجلوس، ترتدي ثوبا أبيض شفافا لا يخفي النصف العلوي من مايوه «بيكيني» أزرق و«شورت جينز» قصير.

توقفت أمام صورة «كاميرون دياز». تأملت مجرى النهر الضيق بين نهديها. قارنت حنين بينهما وبين نهديها لتعيد التأكيد لنفسها على ضآلة حجم نهديها. استعادت للحظة الإحساس بكفي «ديفيد» وهما تعبثان بصدرها. أغلقت المجلة. دخلت الغرفة. التقطت الحقيبة السوداء التي تخص جهاز الكمبيوتر الشخصي الذي أهداها «ديفيد» إياه. أخرجت الجهاز من الحقيبة، ووضعته أعلى المنضدة، التي تشبه مكتبا صغيرا، المستقرة بجوار الحائط المجاور للباب وأوصلت القابس بالكهرباء. فتحت بريدها الإلكتروني. وجدت رسالة واحدة تحمل اسمه، فتحتها في لهفة، ولم يكن مضمونها سوى كلمة واحدة: Salut. انتابها شعور خانق بالضيق. هل يحاول اختبار رد فعلها عقب المشادة التي سبقت سفرها إلى مصر بيومين؟ سألت نفسها قبل أن تعيد إرسال نفس الرسالة إليه بلا تعليق وأغلقت الجهاز بسرعة.

أشعلت سيجارة بعد أن خرجت إلى الصالة. التقطت «الريموت كونترول» من على الأريكة بجوارها. ضغطت على زر تشغيل التليفزيون. كانت القناة الأولى تعرض فيلما قديما بالأبيض والأسود، وشاهدت اسم الفيلم على ركن أسفل الشاشة «عائلة زيزي». فتابعته بشغف طفولي، ولم تكن قد شاهدته قبل ذلك.

عندما انتهى الفيلم لم تجد ما تفعله. تحركت باتجاه الصالون. تأملت الأسطوانات والاشرطة المحيطة بجهاز الـ (Hi Fi) وابتهجت عندما وقعت عيناها على أسطوانة لفريق Enigma.

وضعت الأسطوانة في الجهاز، وسرعان ما فاضت الموسيقى الغامضة والمستدعية لأساطير الروح أرجاء المكان، دون أن تفقد الإيقاع المميز على عكس الكثير من موسيقى الـ New opera. عادت إلى غرفة النوم مرة أخرى. التقطت من حقيبتها كتابا لبودلير وهي تتجه بتثاقل صوب الفراش.

وقبل أن تغفو ظلت تقرأ.. توقفت عند فقرة بعينها أعادت قراءتها مرتين متعاقبتين «يقول المغنون إن السعادة تسمو بالروح وترهف القلب. كانت الأغنية على حق في ذلك المساء، بالنسبة لي، فعائلة العيون هذه لم تجعل قلبي رقيقا وحسب، بل إنني شعرت بالخجل إلى حد ما من كؤوسنا ودوارقنا التي تفوق ما نشعر به من ظمأ. حولت نظري إلى عينيك، يا حبي العزيز، لكي أقرأ فيهما فكري. غرقت في عينيك رائعتي الجمال والملهمتين بالقمر فإذا بك تقولين لي: (هؤلاء الناس لا يمكنني تحملهم بعيونهم المفتوحة كأبواب العربات! ألا يمكنك أن ترجو من رئيس الخدم إبعادهم من هنا؟) ما أصعب التفاهم يا ملاكي العزيز، وما اصعب تواصل الفكر حتى بين الاحباب!…».

وغالبها النعاس، فاستسلمت للنوم، وتركتني لأحلق بعيدا صوب نادية وروحها التي كنت أسمعها تناديني من بعيد.

***

فتحت عينيها. وكلما استعادت وعيها أصبح صوت جرس الباب أعلى صوتا. وضعت كتاب «سأم باريس» على المنضدة بجوارها وهي تنهض من الفراش. فتحت الباب لتفاجأ بابنة عمتها نسرين.. وجه طفولي مبتسم. شعر أسود طويل يحيط بوجه كامل الاستدارة. عينان عسليتان واسعتان تتوهجان بالحيوية والذكاء. بدا الشبه بين هذه الفتاة وعمتها نادية كبيرا. احتضنتها بقوة.

لم تكن أي منهما قد رأت الأخرى قبل هذه اللحظة، إلا عبر بعض الصور التي تبادلاها بالبريد. لكن علاقة وثيقة بدأت بينهما قبل عامين على شاشات أجهزة الكمبيوتر والبريد الإلكتروني، وهو ما جعل لقاءهما حميما كصديقتي طفولة، رغم السنوات الخمس التي تمثل فارق العمر بينهما.

أخبرتها نسرين بأن أمها ستتأخر في المستشفى، وأنها ستقضي الليلة معها. ثرثرتا طويلا، حول باريس والمنصورة، وأحوال كل منهما قبل أن تقترح نسرين على ابنة خالها الخروج للتنزه في شوارع المنصورة.

أبدت حنين دهشتها من الزحام الشديد، وتوسع المدينة بشكل كبير، الكورنيش الجديد على امتداد المشاية السفلية التي تبدأ من خلف «مسرح أم كلثوم» الملحق بقصر الثقافة، وحتى «نادي جزيرة الورد».. مصابيح الإضاءة ذات الطابع الإنجليزي الكلاسيكي المعلقة على أعمدة نحاسية مطلية باللون الأسود أشبه بالموجودة في شوارع لندن القديمة كما تصورها الأفلام. العمارات الحديثة العالية المتراصة على امتداد المشاية وحتى الجامعة.

قالت نسرين إن المنطقة سحبت البساط من حي توريل كحي ارستقراطي قديم، واجتذبت كل طبقات الاثرياء الجدد الذين كونوا ثرواتهم في السبعينيات والثمانينيات من الانفتاح والتجارة في كل شيء.

من بين تجمع المطاعم الأميركية المواجه لمدخل الجامعة الرئيسي اختارت حنين مطعم «تكا». حكت نسرين لابنة خالها عن حياتها في المنصورة، ودخولها الجامعة هذا العام لدراسة طب الأسنان.

– ما قدرتش أجيب مجموع كلية طب زي ماما ما كانت عاوزه. حاولت أقنعها إني أسافر فرنسا أدرس هناك بس طبعا ما وافقتشي.

– خسارة.. ياريتك جيتي عشتي معايا.. على الأقل كنت كسرت إحساسي بالغربة هناك شوية.

صمتتا للحظات كانت حنين تتأمل خلالها المكان ورواده من الشباب والعائلات.

– عدد المحجبات زايد شوية.. ولا أنا بيتهيألي؟!

– لأ عندك حق.. السنين اللي فاتت كانوا أكتر شوية كمان عن كده.. دلوقت فيه توازن شوية. فيه بنات كتير بيلبسوا على الموضة وبنطلونات ضيقة.

كانت حنين تشعر بدفء وجودها مع ابنة عمتها في المنصورة، مما فتح شهيتها للثرثرة. حكت لها عن حياتها في باريس، دراستها بالسوربون. اهتماماتها. سفرياتها إلى أوروبا. لكنها لم تتورط في الإشارة إلى ديفيد. كبحت رغبتها في الحكي عنه، واسترسلت في وصف إحساسها اللانهائي بعدم الأمان، رغم روابط العلاقات والصلات المستمرة ببعض مدرساتها منذ كانت في المدرسة، وصداقات الطفولة، وزياراتها الأسبوعية لصديقتها ناتالي أو أختها. تماما كما اعتبرتها الأم: سيسيليا وزوجها أحمد حسين.

وقبل أن تودعها أسفل باب العمارة.. مدت نسرين يدها إلى حنين تعطيها مجموعة من الأوراق في مظروف أصفر كبير، كانت حنين تظن أنه يضم أوراقا تخص نسرين التي قالت لها قبل أن تختفي:

– ماما عاوزاكي تقري الورق ده قبل ما تشوفك!

……………………

*فصول من رواية “ابتسامات القديسين”

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون