إسود وردي مصطفى ذكري

بضع كلمات عن مصطفى ذكري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الفقي

كتب مصطفى ذكري (إسود وردي) في البداية كسيناريو سينمائي، لكنه لم يغير حرفاً فيه عندما نُشر كرواية، وكل ما فعله أنه قام بحذف الترويسة في أعلى كل مشهد (ليل/نهار - عنوان الديكور)، مستبدلاً إياه برقم للمشاهد/الفقرات. وللقارئ أن يعجب من المستوى الأدبي الرفيع االذي كُتب به السيناريو، وهو ليس استثناءً في (إسود وردي)، فذكري سبق له كتابة "السيناريو الأدبي" في فيلميه السابقين (عفاريت الأسفلت)، و(جنة الشياطين)، فضلاً عن العمل الذي لم ير النور كفيلم سينمائي: (ما يعرفه أمين).

تَعد (إسود وردي) القارئ في مستهلها برحلة بوليسية، لكنه في الحقيقة وعد كاذب، فالحبكة البوليسية لا تهم ذكري، ولا هو يسعى وراء خيوطها، بل يستخدم الأجواء البوليسية بنفس استخدام هيتشكوك لما كان يُطلق عليه “الماكجوفين”: أي كطعم لاصطياد القارئ؛ وإدخاله مملكته الإسلوبية الخاصة، وبدخول القارئ تلك المملكة، يسقط في سلسلة من الاستدراجات التي لا فكاك منها، في نفس الوقت الذي لا يُجدي نفعاً المنطق العادي؛ فذكري يستبدله بمنطق آخر حاكم للرواية: منطق الأحلام والكوابيس، وذلك لا يعني أن الشخوص تعيش داخل كابوس ستفيق منه عاجلاً أو آجلاً؛ فالحقيقة أنها لن تفيق أبداً، والقارئ الذي يتورط في دخول مملكة ذكري، يكون منذ البداية قد وافق على أن يحكم العالم منطق الكوابيس.

يبدو منطق الحلم الكابوسي في (إسود وردي) مُجسداً في قول خالد:

– “ما فيش كومة قش من غير إبرة.. وإللي ها يجي بعد كدة كله واضح.. والواضح دايماً يتفهم من غير تفسير.. إزاي.. أقول لك.. في ناس.. زي العبد لله.. بيدوَّر على الإبرة دايماً في إللي بيلاقيه قدَّامه.. وبالصدفة.. وإللي بلاقيه قدَّامي مش دايماً بالضرورة كومة قش.. بس من ناحية تانية المبدأ على رقبتي زي السيف.. ما فيش كومة قش من غير إبرة.. طيب نفرض إني ضيَّعتْ المحفظة بتاعتي في حتة ضلمة.. وقعدتْ أدوَّر عليها ساعات طويلة.. لغاية ما شافني واحد عاقل وقال لي يا ابني إنتَ بتدوَّر ليه في حتة ضلمة تعالى ندوَّر على إللي وقع منَّك في حتة نور.. قمت قايل له.. ما فيش كومة قش من غير إبرة.. وما فيش إبرة من غير كومة قش.”

معمار (إسود وردي) مُؤسس على منطق الحلم، ويستخدم ذكري الألعاب السريالية لتحقيق ذلك: تشويه المنظور الدرامي والبصري، لعبة المرايا المتقابلة التي تعكس الصورة إلى ما لا نهاية، لعبة العروسة الروسية التي تحوي عروسة أصغر منها (حكايات تتوالد من حكايات)، الغرائبية التي هي أكبر من مجرد شذوذ في شكل وسلوك الشخصيات، فهي منطق كامل وصلد، يستطيع الصمود والدفاع عن نفسه في وجه المنطق المألوف، وهو ما يستدعي إلى الذهن عوالم كافكا، خصوصاً في روايتي “القصر”، و”المحاكمة”، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن ذكري يقدم عدة تحيات لكافكا؛ من أهمها مشهد قطة العدوي وخاله في بيت الأستاذ زاهر المحامي.

هناك ثلاثة خطوط رئيسية يتم عكسها باستمرار خلال لعبة المرايا التي يلعبها ذكري؛ هي: (1)- رحلة بحث خالد عن من قام باستعارة كتاب (خسوف كلي)، تأليف (جاليليو جاليلي)، ترجمة الفقير لله (عبود شيخ الأرض) من المكتبة العامة. (2)- رحلة الحقيبة الغامضة التي تعهد الهيئة أو المؤسسة أو التنظيم لأشخاص معينين بتسليمها لأشخاص آخرين. (3)- رحلة قطة العدوي لإثبات براءته من القضية التي لا يعلم ما هي، ولا من هو الذي يتهمه بها، ولا بأي تهمة، ولا أمام من يقف ليدافع عن نفسه؟! والخطوط الثلاثة تحمل دائماً شكل ونَفَسْ الرحلة.

لحسن حظ بعض القراء، ولسوء حظ البعض الآخر، لن يجد القارئ في (إسود وردي) الصعوبة المعتادة الموجودة في كتابات ذكري، والتي تتطلب نوعاً من القارئ المثقف فلسفياً وأدبياً وسينمائياً ولغوياً، فالقارئ هنا مواجه فقط بغرابة الدراما في شكل جديد على السرد العربي؛ فائق الحدة والنزاهة؛ يجمع بين خصائص الكتابة الروائية والسينمائية.

في (إسود وردي)، وعلى عكس عمل مصطفى ذكري الأسبق (مرآة 202)، نلحظ ثراءً وتنوعاً في الحدث الدرامي، واختفاءً تاماً لصوت الراوي، وإذا كان القانون الأعلى للكتابة السينمائية ينص على: “كل ما يُرى ويُسمع يُكتب، وكل ما لا يُرى ولا يُسمع لا يُكتب”، فإن حرفية وصنعة ذكري تلتزم بذلك. لن يكون هناك بوح أو وصف لما في دواخل الشخصيات (والملاحظات الداخلية إن كُتبت فهي توجيهات لأداء الممثل)، لن يكون هناك تعليق على الأحداث، لن يكون هناك وصف للروائح، لن يكون هناك رطرطة جمالية في استعراض المهارات اللغوية للكاتب.

من ناحية أخرى سيكون هناك وصف لحركة الشخصيات في كل كادر سينمائي، ووصف مختصر وممشوق للديكور، ووصف في مقتل للشخصيات، وكثافة في التعبير، ولغة قادرة مسيطرة لا تسمح بالفكاك من أسرها ولا بأي نوع من الاعتراض؛ لغة موحية تضيف دوماً لمخيلة العالم، وشكل للفقرات منفصل متصل، ومهارات للكتابة الروائية الممزوجة بهموم الكتابة المهنية للكاتب نفسه؛ فذكري لا يذهب إلى أي مكان دون أن يعود إلى الذات، ولو في صورة تجربة ذهنية تأملية، أو حتى في صورة شذرة من كتابة سابقة يبني عليها (كالبناء مثلاً على نصي: “ساق صناعية”، و”أجندة”، من رواية “مرآة 202”). إن ذكري هو آخر شخص يمكن أن نلمس لديه شيئاً من التظاهر أو الادعاء، فهو لا يسمح بافتعال أي شيء، ولا يسمح بالخروج عن حدود أناه الخاصة، ومن خلال معرفته الدقيقة بذاته يلمس الأوتار التي تحرك أبطاله.

الحوارات في (إسود وردي) أقرب للحوارات المسرحية، والمونولوجات الداخلية العابثة والعدمية، والمدققة في متناهي الصغر من ناحية (أشد التفاصيل تفاهة، وهامشية، وبُعداً)، ومتناهي الكبر من ناحية أخرى (الوجود والروح والعالم)؛ حوارات تحمل استحالاتها ومغالطاتها بداخلها، وكأنها تنفي نفسها بنفسها، وكأنها تنفي قيمة الكلمات. وفي كل مونولوج تقريباً، هناك طاقة شعرية كامنة، والمفارقة، أن هناك أيضاً ذهنية وبروداً يوازيان هذه الشعرية، والغريب، أن الشعرية والذهنية كلاهما متجاوران متعايشان في شكل فصامي سلمي نزيه، بعيداً عن تصنع الصراع وافتعاله في الكتابة الدرامية. المفارقة الأغرب أيضاً، أن إسلوب حياة مصطفى ذكري، وطقوس حياته الشخصية اليومية، المشيدة وراء أسوار العزلة العالية والصارمة، والخالية من الإثارة أو السخونة؛ حياة الضجر تلك لا تقدم أي مُوَّلد لتلك الطاقة الشعرية أو حتى الذهنية الكامنة في نصوصه، وكأن عبقريته تخلق نفسها بنفسها دون الحاجة لمولدات. إن مصطفى ذكري هو الوحيد الذي تتوقع منه دائماً شيئاً رائعاً وفائقاً ومفاجئاً رغم نمطية ورتابة حياته اليومية الخالية من الصدمات؛ وكأنه يراكم الضجر حتى يبلغ حداً من القوة ينتج معه من اللامفيد جمالاً.

على المستوى المكاني، تجري معظم أحداث (إسود وردي) في الداخل، وفي القليل الذي تخرج فيه الشخوص للخارج يكون الموت حاضراً بكثافة. على سبيل المثال: مشهد دفن الساق الميتة لسعد الدين عمران، مشهد قطة العدوي وخاله في سيارة الأجرة مع شبح الفتاة التي ماتت منذ 15 عاماً، حتى مشهد أكل الكابوريا على شاطئ البحر هو أقرب إلى مشهد القتل: ضرب الكابوريا بالشواكيش وتمزيق أوصالها، وحضور القتل أيضاً في الحوار الذي يدور بين خالد ومريم حول قتل الروح وتصفيتها في مكان معزول.

حافظ ذكري على إسلوب عمله، فلم يشرع في العمل على (إسود وردي) ببطاقات درامية صارمة للشخصيات، ولا بحبكة صارمة للأحداث، فالكتابة هي التي تملك ذكري، لا هو الذي يملكها، ولذلك فهي عرضة للأهواء الفنية، وللمفاجآت التي تُفاجئ ذكري نفسه قبل أن تُفاجئ القارئ، فذكري من المغرمين بخيانة الشكل الفني، وخيانة الأبطال، وخيانة الحبكة، بل وبخيانة القارئ نفسه؛ ناقضاً العقد المبرم بينه وبينه، لصالح مفاجآت مغامرة الكتابة.

إذا كان مصطفى ذكري يُسيَّح كل شيء تحت الإسلوب، فإنه يتجاوز المطلب العسير في إكساب إسلوب لكتابته، إلى تحقيق الهدف شبه المستحيل ألا وهو إضفاء الإسلوب على كل ما يفعل؛ ومن هنا لن يندهش القارئ العارف بمملكة ذكري إذا ما قرأ له سيناريو سينمائي فوجده يناطح باقي أعماله الروائية والأدبية. ورغم أن ذكري يستبعد دائماً السياق السياسي والاجتماعي من أعماله، فاصلاً إياه عن عمله الفني، نافراً منه نفوره من أدب الوصفات الجاهزة والأدب الشعبوي؛ بكل بؤسهما التعبيري وفقرهما الجمالي، ورغم تعامله في (إسود وردي) مع مستوى أعلى عابر للسياسة والاجتماع، عازلاً إياه عن اللحظة التاريخية بكل واقعيتها المبتذلة، إلا أن المفارقة تظل أن هذا العزل عن اليومي والمؤقت؛ عن التاريخ والسياسة والمجتمع، لا يفعل في الحقيقة سوى أن يشدد على وعيه العميق بالإنسان، وانغماسه المُكثف في العالم الحقيقي بعد نزع العابر والمؤقت والمزيف عنه، فكما قال شوبنهاور يوماً عن دانتي: “من أين جاء بجحيمه إن لم يكن من عالمنا الحقيقي!”

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم