إحياء التراث الأدبي..وتجاوزه معًا في رواية”أبناء الجبلاوي”

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد حسن المعيني

أرأيتَ لو أنّ جزءًا كبيرًا من الأدب العماني، ولنقل المجموعات القصصية مثلا قد اختفت فجأة دون مقدّمات من كلّ المكتبات وكل مكانٍ آخر حتى رفّ مكتبتك وكأن فيروس حاسوب هجم عليها كلها والتهمها مرة واحدة، فماذا سيحدث؟ تخيّل أن يتبع ذلك هرجٌ ومرجٌ كبير ومبادرات لاستعادة ما فُقد، وشائعات لا آخر لها، وأشخاصٌ يدّعون أنهم رأوا شخصيات من تلك القصص على أرض الواقع. وتخيّل أن تظهر فعلا تلك الشخصيات ثائرة على ما يحدث، فتجد في أنحاء مسقط (عبدالفتاح المنغلق) و (عارف البرذول) [من قصص سليمان المعمري]، و (الكابتن حمدان) [من قصة لمازن حبيب]، و العمّة الثرثارة التي لا تعرف نجيب محفوظ [من قصص عبدالعزيز الفارسي]. فكرة فانتازية مُدهشة، أليس كذلك؟ هذا ما استخدمه بصورةٍ رائعة الروائي (إبراهيم فرغلي) في روايته الأخيرة "أبناء الجبلاوي" التي صدرت عام 2009 عن دار العين للنشر في مصر في 470 صفحة. قيل الكثير عن الرواية وتقبلها النقاد والقراء قبولا حسنًا، حتى دعا الدكتور جابر عصفور إلى عقد ندوات خاصة لتحليلها وقراءتها على أكثر من مستوى، وأيده في ذلك الناقد الدكتور خالد عزب. جدير بالذكر أنّ أمسية كاملة خُصصت في الكويت في يناير الماضي لمناقشة أوراق نقدية حول الرواية. باختصار، نحن أمام عملٍ فريد جريء يستحق وقفة تأمل ودراسة.

المؤلف (إبراهيم فرغلي) صحفيٌ وقاص وروائي مصري، صدرت له سابقًا مجموعتان قصصيتان هما “باتجاه المآقي” عام 1997، و “أشباح الحواس” عام 2001، كما صدرت له ثلاث روايات هي “كهف الفراشات” عام 1998، و “ابتسامات القديسين” عام 2004، و”جنية في قارورة” عام 2007، بالإضافة إلى كتاب يحتوي على يوميات سجّلها في رحلةٍ له إلى ألمانيا. ومن المعروف عن هذا الروائي حبّه للتجريب والتجديد، وآراؤه الصريحة الجريئة فيما يتعلق بحال الثقافة والنقد الأدبي في مصر، وهذا ما نراه حاضرًا بقوة في الرواية التي نحن بصدد الحديث عنها.

في الحقيقة يصعب جدًا استعراض هذه الرواية دون “حرقها” على القارئ وإفساد متعته، لذا سنكتفي بذكر إشاراتٍ بسيطة إلى قصتها. تنقسم الرواية إلى أربعة أجزاء يحتوي بعضها على أكثر من قسم. أما الجزء الأول فيسرده البطل (كبرياء) ليحدثنا عن علاقته الغرامية بـ(نجوى) الفتاة ذات الشخصية المركبة الفريدة جدًا، وعلاقته بـ(رفيق فهمي) العجوز في دار المسنين، والذي يقوم (كبرياء) بتدوين مذكراته. ومنذ الصفحات الأولى نعرف الحدث الكبير الذي تدور حوله أحداث الرواية، وهو اختفاء كتب نجيب محفوظ من جميع المكتبات التجارية والعامة والشخصية، مما يسبب بلبلة هائلة في البلد، وتشكيل لجان وهيئات رسمية وشعبية لإحياء تراث محفوظ والبحث في قضية اختفاء كتبه. وفي أجزاءٍ لاحقة نكتشف ظهور الشخصيات المحفوظية إلى الواقع، فنجد (عاشور الناجي) [من رواية الحرافيش]، و (الجبلاوي) [من أولاد حارتنا]، و (السيد أحمد عبد الجواد) [من الثلاثية]، وتعاون (كبرياء) معها في مهمةٍ خطيرة ربما لاستعادة كتب محفوظ. من ناحيةٍ أخرى تتحدث الرواية عن طبيعة العلاقات بين شخوص الرواية وتطورها وتعقيداتها الاجتماعية والنفسية.

ما يميّز “أبناء الجبلاوي” ويجعلها في مصافّ الروايات المهمّة هو بناؤها الروائي الجديد المبدع الثائر على الأشكال التقليدية في كتابة الرواية. وإن شئنا التصنيف فهي رواية تنتمي إلى أدب ما بعد الحداثة، ذلك الأدب المتمرد على الأشكال والموضوعات التقليدية التي سار بها وتناولها الأدب الحداثي. فمن ناحية البناء الروائي، لن تجد في هذه الرواية بداية وحبكة ونهاية خطية كما هو المعتاد، بل رواية داخل رواية تتداخل أحداثهما، وتتقاطعان أيضًا مع عددٍ من الروايات والشخوص من روايات أخرى، فبعد أن تعيش مع شخصيات الجزء الأول، يفاجئك المؤلف بأن هذه مجرد رواية غير مكتملة كتبها مؤلف آخر، ثم يكتشف هذا المؤلف أن ما كتبه ظهر حقيقة على الواقع! هذا وقد يستمتع القارئ بذلك التداخل السردي بين الرواية وروايات نجيب محفوظ، حيث نجد مقاطع كاملة من روايات محفوظ استُخدمت لصالح الرواية وسير أحداثها. أما السرد فجاء مختلفًا أيضًا، يعتمد على تعدد الأصوات، ولكن ليس بالطريقة التقليدية، فالساردون أحيانًا بشر وأحيانًا كائنات أخرى. ويبدو في الرواية تأثرٌ كبير بروايات ما بعد الحداثة والواقعية السحرية لدى كبار ممثلي هذا التيّار مثل ماركيز وبورخيس وأورهان باموق وبول أوستر. ومما تجدر الإشارة إليه نجاح المؤلف في إحياء شخصيات محفوظ وتقديمها بصورةٍ تتماشى مع وظيفتها في النصوص المحفوظية، ولكنها تؤدي دورًا خاصًا لهذه الرواية، فنجد مثلا الحرافيش وهم يحرسون الحارة، ونجد الجبلاوي زعيمًا وأبًا روحيًا، وعاشور الناجي رئيسًا منفذًا، وزينات لعوبًا مثل ما ظهرت في رواية “الحرافيش“.

ومع قراءة الرواية يكتشف القارئ أنّ هذا العمل عبارة عن نقد ساخر لاذع للأوضاع الثقافية والأدبية والسياسية في مصر، يأخذ أسلوب الرمز والإسقاط أحيانًا، والمباشرة في أحيان أخرى. أكثر ما ينتقده ويثور عليه المؤلف في هذا العمل هو الوضع الحالي للأدب السردي في مصر، فالرواية برمتها احتجاج على الرواية التقليدية. أما موضوع الرواية نفسه (اختفاء كتب محفوظ) فانتقاد واضح للمشهد الروائي المصري، فمن ناحية يرى المؤلف أنّ الجيل الروائي الحالي ضيّع تاريخ روائي عملاق ولم يستطع أن يُكمل مسيرة روائية عظيمة كان يجب أن يستفيد منها. ونرى في الرواية أنه بعد تضييع هذا التراث يُصاب المجتمع بوباء العمى، دلالة على التخبط الأدبي وغياب الرؤية الإبداعية. ومن ناحية أخرى يريد المؤلف أن يقول بأنّه رُغم روعة نجيب محفوظ لا يجب أن يقف أمر الرواية عنده، بل يجب تجاوزه، ولكن للأسف لا يوجد غير “كتاب يكتبون نصوصًا تدور في أفق مخنوق…لا يسببون دهشة، ولا يقدمون جديدًا” (ص197). وعندما يُصدم (كاتب الكاشف) بوجود شخصية من شخصيات روايته في الواقع يُصاب بالذعر مخافة أن تكون روايته مجرد “نص واقعي يرصد جانبًا من وقائع حياة أشخاص موجودين في الحياة، ويصبح ما كتبه مجرد نقل أمين لوقائع، بإمكان أي مدرس لغة أو “باش كاتب” أن ينقلها بلغته الركيكة العتيقة” (ص230). هذا ويستخدم إبراهيم فرغلي شخصية (كاتب الكاشف) لتقريع النقد الأدبي في مصر، والتعبير عن فشله في القيام بدوره على أكمل وجه، كما يعبّر عن وجهة نظره حول أهمية تناول الجنس أدبيًا، ويسخر من النقاد الذين يمتعضون منه ويصفونه بأنه “غير موظف فنيًا”، ولذلك نجد في الرواية قدرًا كبيرًا من الجنس الذي يعتبره المؤلف أساسيًا ومعبرًا عن الحياة الطبيعية. ومن جانبٍ آخر نجد الكثير من الرسائل الانتقادية، منها غياب الشفافية والمهنية لدى الجهات الحكومية في التعامل مع المصائب، ومنها جهل الناس بأدب محفوظ رغم التشدق بحبه. هذا و نجد نقدًا للواقع السياسي والاجتماعي عبر شخصية (زينب دياب) التي تظهر في الواقع من رواية “الكرنك” لنجيب محفوظ، ونقدًا آخر من شخصية (رادوبيس) الفرعونية التي تنتقد غياب حضارة “العلم، المعرفة، الحكمة، الفلسفة، الطب، التحنيط، وحتى قوة الأفكار والفنون” والتحول إلى مجتمع جاف فارغ حتى أنّ أفضل أهل البلد الآن “لا يرقى لأن يكون في قدر عامل من عمال حضارتنا، ألا تشعرون بالخجل من تفاهتكم وسخافتكم؟” (ص414).

من وجهة نظري أعتقد بأنّ المؤلف قد استهلك عددًا من المقوّمات وقذف بها في عملٍ أدبي واحد يحتاج إلى ترابط وتماسك أكبر يقاوم التشتيت الذي خلقه المؤلف، بينما كان بإمكانه استغلالها في أكثر من عمل. فمثلا قضية محفوظ والإرث الأدبي تصلح لرواية مستقلة بذاتها أيًا كان بناؤها السردي، والعلاقات العاطفية والاجتماعية بين كبرياء ونجوى ورفيق وكاتب الكاشف وجيسيكا وما يعتورها من عقد نفسية وقضايا تتعلق بالهوية والحرية تصلح بامتياز كي تكون مادة روائية منفردة. هذا وهناك فنّ الخط العربي الذي يتقنه “كبرياء” وتحدث عن أنواعه وأساليبه واستخداماته، كان من الممكن أن يتعمق فيه المؤلف ويتبحر حتى يُخرج لنا رواية تستخدم هذه الثيمة الجميلة كما استخدم أورهان باموق فن المنمنمات في رواية “إسمي أحمر”. ومن الملاحظات التي نأخذها على هذه الرواية أيضًا كثرة الأخطاء اللغوية المزعجة التي لا تليق بكاتب رواية، وأتمنى أن يتداركها المؤلف في الطبعات اللاحقة، ولكن يجب أن نشهد للمؤلف بدقة الوصف وسلاسة اللغة ومناسبتها للشخصيات. من ناحيةٍ أخرى نعترف بأن الرواية مبدعة غير تقليدية، إلا أن اللعبة السردية التي اختارها المؤلف تُدخل القارئ في متاهات سردية ليست دائمًا ممتعة.

أخيرًا نقول بأن الرواية لا يكفيها هذا العرض، فهناك الكثير جدًا ليُقال عن تقنيات السرد، والثيمات التي تتناولها الرواية، وعن مدى نجاح التوظيف الجنسي والفني فيها. وأعتقد شخصيًا أن قراءة واحدة للرواية لن تكفي لالتقاط جميع الرموز والإسقاطات والرسائل التي تضجّ بها. هناك مواضيع عديدة لم أتطرق إليها بالتفصيل هنا، كشخصية نجوى وما ترمز إليه من قيم التحرر والانطلاق من قيد المجتمع، وعلاقة كبرياء وكاتب بأبويهما كرمزٍ للبحث عن الذات والهوية. هي رواية جميلة يتضح فيها المجهود الكبير الذي بذله إبراهيم فرغلي، تستحق القراءة ولكن بشرط أن يكون لك عقل متفتح متسامح مع التجريب الروائي والمتاهات السردية.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم