أوهى البيوت – بيت الشاعر أم بيت الروائى. . . . ؟

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 41
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

"إلى أين نحن ذاهبون؟ دائما إلى البيت." نوفاليس.

يتخذ هذا الموضوع شكل الشذرات، والفقرات المُرقمة، ربما تهرباً من ضرورة الاسترسال، والبناء، وإحكام جدران المعانى والاستنتاجات، وغرف المنطق المقبضة، أى هرباً من البيت المُغلق على ما فيه ومن فيه. 

 عملت لسنوات بشركة نشاطها الأساسى الترجمة وطباعة الكتب، يحمل اسمها كلمة البيت. بعد عملى فيها ببضعة شهور، وانطلاقاً من إيمانى وقتها بقيم الابتكار والتجديد بداخل الأبنية العتيقة، اقترحت على صاحب العمل إصدار مجلة داخلية للشركة، يساهم فيها العاملون طوعاً، بمقالات وقصص وتحقيقات، ثم نصوّر نسخ أعدادها على ماكينة تصوير الأوراق، ونوزعها فيما بيننا أول كل شهر، قبل أو بعد قبض الرواتب، وبطبيعة الحال شرفت برئاسة تحريرها لمدة تقترب من العام: كنتُ رئيس تحرير مجلة البيت.

يفترض نوفاليس، فى عبارته السابقة، أننا فى حالة عودة دائمة إلى الأصل، سواءً أكان هذا الأصل جذورنا الشخصية أو أمنا الأرض أو حتى أصلنا السماوي الغامض. كأنه يقول أننا مهما ابتعدنا نعود فى النهاية إلى نقطة البداية، وكأننا نسافر على محيط الدائرة الكونية الكبرى، لا أول لها ولا آخر. أسأله الآن وأسأل نفسى وأسأل الدائرة الكونية الكبرى: من هو الذى يعود دائما إلى البيت؟ أهو الشخص نفسه الذى خرج منه قبل دقائق أو سنوات أو دهور؟

بينما أنكش عقلى بحثا عن مدخل مناسب، أو باب موارب لهذا الموضوع، تصفحتْ الديوان الذى صدر حديثا للشاعر المصرى أحمد يمانى، ووجدت فيه مفاجأتين سارتين. الأولى أن الديوان ممتلئ بقصائد النثر المكتوبة جيداً، وأنا لا أفهم فى الشعر أصلاً، أستطيع أن أتكلم دائماً وفى أى وقت عن السرد، عن القصص والروايات، أما فى الشعر فإما أحبه أو لا أطيقه، وأنا لم أحب الديوان السابق ليمانى، أو لم أحب أغلب قصائده على الأقل، لكن هذا الديوان ، وعنوانه بالمناسبة أماكن خاطئة، فقد أحببته واستمتعت به. أما المفاجأة الثانية السارة فكانت هى أن الديوان مفعم بالإشارات إلى البيت، وبالقصائد التى تحوّم حول البيوت، وهكذا وجدتُ فيه مدخلاً واقتربت.

المكان عمود أساسى من أعمدة السرد، وخصوصا الرواية، هو الشقيق الملتصق للزمان، بدونهما لا تقوم قائمة لأي حكاية، أو هكذا علمونا. فى الرواية المصرية، لكى نضيّق مجال البحث قدر المستطاع، أذكر على الأقل بيتين، كل منهما مثل علامة فارقة فى علاقتى بالبيوت – أقصد هنا البيوت التى نجدها بداخل الروايات والبيوت التى نعيش فيها ونحن نقرأ الروايات على السواء. البيت الأول والذى قد يفلح فى تخمينه الكثيرون دون أى مشقة هو بيت عائلة السيد أحمد عبد الجواد، فى ثلاثية نجيب محفوظ. أما البيت الثانى فأشك فى أن قليلين حتى يمكنهم تخمينه وهو بيت رامة فى ثلاثية إدوار الخراط، إن كان يمكن لنا اعتبارها ثلاثية بالمعنى التقليدى وإن كان باستطاعتنا فصلها – عسفاً وعنتاً – عن مجمل أعمال الأستاذ الكبير، وهي رواياته الثلاث: رامة والتنين، الزمن الآخر، يقين العطش.

ليست هذه هي المرة الأولى التى أكتب فيها عن البيت، فمادمتُ قد اعترفت بمجلة البيت التى رأستُ تحريرها على مدى أكثر من 12 عددا على ما أذكر، فلا بدّ لى أن أذكر أن مقال رئيس التحرير الأول كان بعنوان معنى البيت. وكما هو متوقع كتبتُ عن معانى الألفة والمودة التى يجب أن يبنى عليها البيت، وعن الهواء الجديد الذى يجب أن يدخل إلى غرف البيت، بما أننى كنت موظفاً جديداً هناك. وهكذا؛ الوصفة المعتادة حول التماسك والتعاضد والوقوف بقوة فى وجه العواصف، فكلما كان البيت راسخ الأساس بدت العاصفة فى الخارج أروع وأبدع.

فى أولى قصائد ديوان أحمد يمانى الأحدث، واسمها الصرخة، يقول: “أختى صرخت فى الليل: خذونى إلى بيت أخى، وهناك صرختْ فى الليل نفسه: لا  لا أعيدونى إلى بيت أبى – أعادوها وعندما همّت بالصراخ ثانية كان الليل قد مضى والرجال ذهبوا إلى العمل. أختى صرخت فى الليل: خذونى إلى بيت أبى أخذوها.”

 وكأن انتقال الأخت من بيت إلى بيت طريقة للهروب من كابوس يطاردها، أو الهرب من سند إلى سند مختلف، من الأخ إلى الأب إلى الزوج – بيوت مختلفة لرجال مختلفين، يتركونها إلى أعمالهم فى الصباح – ما أن تصل إلى بيتٍ من البيوت حتى تصرخ طلبا لبيتٍ آخر: “لا لا أعيدونى إلى بيت زوجي” –وفي نهاية القصيدة لم تعد الأخت تصرخ فى الليل، ولا هم عادوا يأخذونها ويعيدونها فى طريق لا أول ولا آخر له، فى نهاية القصيدة: تصرخ “خذونى إلى الطريق” ، وفى الطريق ـ قبلها بقليل ـ  تلقي نظرة على كل بيت يقابلها وتحلم أنها تصرخ فى الليل، وأنهم يأخذونها ويعيدونها فى طريق لا أول له ولا آخر.”

نتعرف على بيت العائلة الكبير الواسع المهيب، فى الثلاثية، مع تعرفنا على أهل البيت أنفسهم، فى ثنايا الفصول الأولى من بين القصرين، بما يوحى أن البيت – هنا وغالباُ وربما على الدوام – لا يمكن فصله عن ساكنيه، فكأن البيت هو هؤلاء الناس، أو هو أمينة – على وجه التحديد – عمود الثلاثية وعمود البيت، التى تكاد تكون قوسين كبيرين يحيطان بعالم الثلاثية من سطرها الأول: “عند منتصف الليل استيقظت” إلى المشاهد الأخيرة فى السكرية، جيث ترقد محتضرة، وحيث يُسائل كمال نفسه: “إن الأم تموت وقد صنعت بناءً كاملًا فماذا صنعت أنت؟.

 الأم – ناهيك عن أمينة – هى بيت بصورة أو بأخرى، أول مكان نقيم فيه على ظهر الأرض، ويبدأ حساب وجودنا فى قيد الحياة من لحظة مغادرتنا لهذا البيت الأول. وإن كانت كلمة البيت مذكرة، فلا بأس، رغم أني سمعتُ أهل تونس يقولون البيتة، ويقصدون الغرفة، أحببت الكلمة على الفور، ويقولون “البيتة السخنة” قاصدين غرفة البخار بحمامات البخار التقليدية، وفى المغطس، يُمكننا أن نستعيد والماء الساخن يحيط بنا تمام الإحاطة، ذكرى قديمة للبيت الأول: الرحم. الانعزال التام عن الآخر، والاتصال التام به، لا ينقض أحدهما الآخر، هل هذه هى الجنة المفقودة كما ادعى البعض؟

عندما نعود ـ يا نوفاليس ـ إلى البيت من جديد لا يكون هو البيت نفسه، يكون قد ناله التغير. الرحم يحوي حياة من نوع ما، والأرض تحوي جثثاً وتوابيت وقوارض ونفطاً وجذوراً  تهب الحياة من بعيد لبعيد فى نكران للذات ينم عن جهل بما فوق الأرض. عندما نعود – يا بيتى – لا تصدق ابتسامة الطير المسافر التى نرسمها على وجوهنا، لقد تغيرنا كما تغيرت أنت، فلم لا نعترف بهذا ونستريح؟

فى القصيدة المعنونة بالبيت، بديوان يمانى، يكتب:

“صنع بيتاً

 من الرمل

 ثم داسه بقدميه.

 من الكرتون

 ومزقه بيديه.

 من الخشب

 شمعة كان يتدفأ بها كادت تحرقه.

 من الصفيح بمساعدة أحد أصدقاء الحىّ

 اختلفا على ملكيته

 فحطمته العائلتان دون هوادة.

 صنع آخر من الحجر

على طرف المدينة

 احتله حاملو الأسلحة.

 من الجبل

 دكوه لإقامة أتوستراد. 

عاد ليلا إلى حيث سقطت رأسه

 ولم يجد البيت

 فقط تعرف على بضع حمامات

 كانت تتطلع إليه

 ليلقى إليها حبة قمح أو شربة ماء.”

لعبة بناء البيوت وهدمها هنا تتراءى جادة للغاية، على الرغم من المواد الطفولية التى تصنع منها البيوت، فى البداية على الأقل، فاللعبة، مع الوقت، تتحول إلى حرب وإلى طاحونة حقيقية ندور فيها، أو بداخلها. وعند العودة، فى نهاية الأمر، كما اقترح نوفاليس، لا يجد أثراً البيت الأصلى، بيت الطفولة والأحلام ، بل يجد بضع حمامات تتطلع إليه فى انتظار حبة قمح أو شربة ماء، هو الذى ربما عاد طمعاً فى  حبة قمح أو شربة ماء.

“استقبلته على موعد الثامنة مساء فى بيت درب الشعرى اليمانية الذى كانت قد قالت له: بيتنا” إنه البيت الذى تسكنه رامة وتستقبل فيه رجلها وحبيبها ونصفها الغريب المدهش المكمل لها ميخائيل. بيت بقدر ما هو حقيقي وواضح المعالم، مثل بيت الثلاثية تماما، فهو أيضا بيت من صنع الحلم والشغف وشطحات الهوى. فى لحظة يمكن أن يحلق هذا البيت فى الهواء ليصير سحابة عابرة، وكأنه كان محض حلم يقظة عبر سريعاً.

أظن أن المسافة بين البيوت التى عشنا بها، مهما اختلفت ومهما تعددت غرفها أو اقتصرت على غرفة واحدة، وبين البيوت التى نطمح للعيش بها، هى نفسها، بصورة أو بأخرى، المسافة ما بين بيت بين القصرين، بجبروته الواقعى المهيمن شأن رب البيت نفسه سواء بسواء، وبيت الشعرى اليمانية حيث اللقاءات السرية بين الرجل وامرأته، بين النفس وأشواقها الخرافية وأسئلتها الموجعة، إنه – على الأرجح – الفرق بين بيت السارد وبيت الشاعر، أو هكذا أظن.

فى أحد الأفلام الأمريكية سأل البطل المؤمن البطلة غير المؤمنة عن تصورها للجنة، فقالت ما معناه “سبعة نجوم، خدمة غرف” مما يذكرنى بالفنادق وسحرها الخلّاب وسُمعتها السيئة، مهما ازدانت بالنجوم. الفندق بيتٌ قصيرُ الأجل، لا يسمح لك بإقامة علاقة حميمة معه، وهناك – مع ذلك – من يفضلون سُكناها طوال حياتهم، أذكر فى هذا السياق الروائى المصرى ألبير قصيرى الذى عاش معظم حياته فى فندق صغير بباريس. الفندق أيضا – على عكس البيوت – متاهة متحررة من الوظائف الاجتماعية، إلى حدٍ ما، وواعدة باحتمالات لانهائية، فلم لا يكون الفندق أحياناً فردوس الهاربين من دفء البيوت وطعم البيوت، فردوس مُكلف للقادرين على الهرب، لمن يملكون ثمن الابتعاد عن البيوت ولو لبعض الوقت، سواء فى بلادهم – البيت الكبير – أو خلال أسفارهم.

فى قصيدة: “بيتنا القديم” يقول يمانى:

من كوة فى الحائط

ينسل خيط شمس مرتين فى العام

 لينير وجه الأب الممدد على الكنبة

 مرةً يوم زواجه ومرة يوم عمله بالحكومة.

 هنا يتحول البيت القديم إلى كيان تاريخى، يكاد يكون أسطورياً، مثل معابد الفراعنة، المصممة بحيث يتعامد شعاع الشمس على وجه تمثال الملك الإله لمرة أو مرتين فى العام، وفقا لتقويمات فلكية شديدة الانتظام، الأب هنا لا هو ملك ولا هو إله، وهو يتمدد – لا يقف منتصبا وشامخا مثل تماثيل الفراعنة – على الكنبة، كأنه لا يملك من حطام الدنيا إلا استعادة الذكريات، وتنير الشمس وجهه مرتين فى العام، وكأنه يبتسم فيشرق وجهه فى هاتين المناسبتين اللتين لم يتواريا بعد طى النسيان، ذكرى زواجه وذكرى توظيفه بالحكومة. العنوان – بيتنا القديم – يحيلنا إلى بيت العائلة بقدر ما يحيلنا إلى معابد الفراعنة، لكن القصيدة تنحاز بوضوح للأب العادى المستكين، على الكنبة، متخذة من وجه الفرعون فى ثباته وخلوده الجامد مجرد خلفية مضحكة.

كانت نهاية مجلة البيت مأساوية بدرجة ما، حيث احتدم خلاف بينى وبين رئيس قسم الكمبيوتر حول التعطيل الذى أتسبب فيه لأفراد القسم، بعملهم على إنجاز تنسيق المجلة كل شهر، وقررت أن يكون ذلك العدد – الذى احتدم الخلاف بسببه – هو آخر أعداد المجلة المجيدة. وكنت قد بدأت أشعر أنه عبء زائد على كاهلى دفعتنى إليه حماقة البدايات وحماس المستجدين الأخرق، فى الأثناء تكشف لى الوجه الحقيقى للبيت، والذى لا داع لرسم ملامحه الآن، بعد شهور استعاد زميل لى فكرة البيت، وحولها تقريبا إلى مجلة رياضية، كروية تحديداً، لم تستمر لأكثر من أعداد ثلاثة، كتمت شماتتى وشجعتهم على استكمال المشوار، مثل الثوريين القدامى.

دون إضافة المزيد، يمكننى أن أتوقف هنا، مختتما بهذه الفقرة من آخر قصائد ديوان أحمد يمانى:

كان يجوب المدينة نهاراً

 على أمل أن يتفهم تناقض طرقاتها وبيوتها

كان يحلم أن ينتقل البيت، بقدرة قادر، إلى شارع الأجانب وقد رحلوا جميعا

 بضعة مترات يتزحزح البيت ليستقر بين بيت أمين أفندى وبيت توفيق بك

 فى الهدوء القاتل ونسمات الياسمين

بضعة مترات وبعدها سيكون روائياً

 يقضى بقية عمره فى تفصيص الأحداث واستدعاء الراحلين

وبث المزيد من الرعب فى البيوت المهجورة.

 

عودة إلى الملف 

 

مقالات من نفس القسم