أن يحبك مكتئب!

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

نسمة سمير

وقعت على نفسي بمدخل العقار وسقط الكيس البلاستيكي الذي كنت أحمله وكان بداخله علبة تونة ورغيفي خبز وتفاحتين وزجاجة مياه غازية، جلست ألملم محتويات الكيس التي تبعثرت على الدرج، قاطعني رنين هاتفي برسالة " لن أكون يومًا سببًا فى إيذائك مهما حدث".

 

 كانت تلك المرة الأولى التي أشعر فيها بالأمان منذ خطت قدماي القاهرة، بعد قراري بترك الإسكندرية بحثًا عن عمل، وفي تلك الليلة كاد الخوف ينهش روحي، أعلم أن الخوف والقلق ليسا جديدين علي، فهما يلازمان قلبي منذ كنت فى السادسة من عمري، ذكرتني رسالته بكلام رضوى عاشور ” ثم يبعث الله من يحتضنك في قلبه كوطن صغير”.

يعشقها “جن”، هكذا كان يراني الكثيرون، بعد خذلان أصدقائي لي، وتجربتين عاطفيتين انتهوا بالفشل الحافل، ونظرتي المختلفة للأشياء، وتعلقي بالحبال المتهالكة، كنت لا أخاف بل ابتسم، وأقول ” لا بأس من تجربة مواعدة حبيب من عالم آخر”، تنهرني أمي وتهرول تشعل البخور وتفتح الكاسيت على محطة القرآن الكريم، وأنا أكمل قراءة فى إحدى روايات نجيب محفوظ التى كانت ترافقني فى مراهقتي.

كنا نسير بالطريق، ثم قام بدفعي برفق بكتفه وهو ينطر أمامه قائلًا “أخبريني ما أردتي قوله نطقًا لا كتابة.. أنا لا أنسى”، ضحكت وأنا أنظر إليه، أكمل حديثه “أتعلمين يعجبني جرأتك على البوح، وعدم الاختباء خلف الشاشات”، كانت كلماته كفيلة بمنحي جرعة من الثقة على البوح، هناك شخص يراني مميزة لا يرى ثرثرتي إزعاجًا ولا يمل الحديث معي والتسكع فى الطرقات”.

هناك فترات يتملك الاكتئاب منا، يتوغل إلى روحك بهدوء، تعاني من أمور صغيرة يراها البعض تافهة، تتجاهلها، ولكنها تصرخ كالطفل المزعج لتجبرك على سماعها، فى البداية تظن أنه مجرد دور برد ستتعافى منه قريبا، فقط يوم آخر لم يحالفك فيه الحظ، مثل “أسطورة يوم الثلاثاء”، ولكن مع الوقت تجد نفسك عالقًا بين خيوطه، كفراشة وقعت فى بيت عنكبوت، ترسم تلك الابتسامة الباردة على وجهك، وتكمل حربك التى لا يعلم أحد عنها شيئا.

 في الصباح، تذهب إلى عملك بكامل أناقتك، تمنح الأصدقاء الكثير من المحبة والود، لأنك تعاني فتريد أن لا يعاني الآخرون، تشعر بالذنب دائمًا والتقصير، ورغم الألم تواصل العيش لأن هذا ما يجب عليك فعله، ثم يلتهم الاكتئاب جزءا كبيرا من طاقتك، يبتعد عنك الجميع، تفقد الشغف والسعادة التى تحققها لك الأمور البسيطة، تنطفيء وتشعر أنك مجرد ثقل يطفو على سطح العالم.

فى تلك الفترات من الصعب أن نحب أحدًا لأننا لا نملك حب أنفسنا، ولكني أحببته، كان يرى فى نوبات اكتئابي مجرد صرخات غاضبة تعترض على عهر العالم، يراني مخلوق ضعيف يدافع عن حقوق الآخرين بحثًا عن حياة عادلة، يبتهج بحكاياتي عن ما شاهدته من أفلام وآخر الكتب التى قرأتها، عن مشاجرتي مع سائق الميكروباص وكرهي لعربة السيدات بالمترو، يخبرني دائمًا أني فتاة مميزة خُلقت لأحدث تغييرًا بالعالم.

حدثته عن وحدتي قائلة: “فجأة تستيقظ فى الصباح، تجد صديقًا أعلن الرحيل دون أن يراعي ما قد يفعله ذلك بك، وكأنه خبر بجريدة “اليوم.. رحيل صديق آخر”، ربما لأني كنت فاشلة في تكوين صداقات مع عدد كبير بسبب خجلي، فكان غياب أصدقائي ملحوظًا، هز رأسه يمينا ويسارا مجيبا “ربما لأنك أصدق”، أكملت حديثي “ولكن ما الذى يعطي البشر الحق في دخول حياتنا، لإسعاد أنفسهم والتغذي على أرواحنا ثم الاختفاء وراء حجج واهية متكررة، ظروف الحياة، الزواج، علاقات جديدة.

 وضع يديه على رأسي المتعبة من التفكير قائلا: السبب هو إننا كنا فئران تجارب، علاقات مؤقتة يتنقلون خلالها وعندما يريدون العودة ينتظرون منكِ أن تفتحين لهم الباب وتفرشين لهم الأرض رمل، لا يعلمون أن الوقت الذى تركونا فيه عندما كنا نحتاج إليهم، تغذى على مكانتهم بقلوبنا ولم يترك منها شيئًا، قلت له هل ستتركني يومًا مثلهم؟، ضحك ضحكته التى أحبها وبعد أن ركبت سيارة الأجرة، طرق على الزجاج ففتحت النافذة، نظر إلى قائلا: “ضعي فى بطنك “بطيخة”، أعلم إنكِ تحبينه، لن أتركك ما حييت، لن أتحمل خسارتك”، كانت تلك الليلة كافية لجعلي أرحل عن هذا العالم دون أن أشعر بالخسارة.

أن يحبك مكتئب، فقد الكثير، أمر صعب الحدوث، وإن حدث، عليك أن تعرف أنك شخص مميز، من يمنحك الحب وقلبه يعتصر من مرارة العالم،  من يثق به بعدما فقد الثقة حتى بنفسه، ليس أمرًا هينًا، أن يجعلك صديقًا له بعدما فقد الكثير فهو يطلب منك ضمنيًا ألا تتركه، فى الوقت الذى كان يعاني من نوبات هلعه، كان يمد لك يده ليخلصك من آلامك، يؤمن أنكما سويًا قادران على عبور هذا العالم دون أن تتلف أرواحكم، من الصعب أن يكشف لك عن ندوبه التى خلفها الزمن، وإن فعلها عليك ألا تفتحها له مهما حدث.

على كل منا أن يجد ملاذه، رفيق روحه، الذى يهرب إليه من الدنيا، معالجه وكاتم أسراره، جليسه النفسي، الذى يواري عثراته عن عيون الآخرين، من تبوح له بما فى داخلك آمنا مطمئنا دون خوف، وأنت تعلم أن هناك من سيغسلك من عثراتك وأخطائك، ويحتضنك حتى تغفو، ليس فقط حبيبًا أو صديقًا، بل أمانًا وطنًا صغيرًا لا يطردك بعيدًا أبدا.

“يتدثر بحزني”، قالها لي، ونحن نشرب الكاكاو الساخن خلف النافذة التى تتسابق قطرات المطر عليها، لم يشعرني أبدًا أني أعاني من الاكتئاب، بل كان يرى فى حزني دفئًا يتلحف به، وضعت رأسي على كتفه، ولملمني هو بذراعه، ما الذى أريده من العالم غير حياة هادئة، ورجل أحبني كما أنا بعيوبي وحزني، وفى الصباح التالي، قرر الرحيل، لم يغفر لي خطأ غير مقصود، لم يصدق أن المكتئبة التى أحبته فى وقت كان من الصعب أن تمنح أحدًا قلبها، قادرة على تصحيح خطأ تافة، ربما مل كالآخرين، وربما كان حديث السيدة العجوز التى جاءت لتتلو علي الرقية صحيحًا، “يعشقني جن”.

 

لا أعلم هل كان حلمًا، أم هلوسة اكتئاب، هل كان موجود؟، ولماذا رحل؟، وإن كان أحبني حقًا من المؤكد سيعود، هو من قال لي: “علينا ألا نقتل أحبتنا كمدًا، لا نتركهم يتجرعون كؤوس الفقد، وألا نجلد الخاطئين، الحب يجعل القلب لينا هينا يرحم ولا يقسو”، أيحب رجل امرأة على حافة الموت ويمنحها من روحه قبلة الحياة لتحيى من جديد، ثم يرحل؟!، هناك الكثير من الحكايات فى انتظاره لتروى، والكثير من الكاكاو لم يشرب بعد، الكرسي الفارغ خلف النافذة بانتظاره، الطرقات تسألني عنه، وقلبي أيضا يسألني عنه فاحتضن قلبي وأختبيء فى نفسي قائلة: اصبر حتى يعفو المحبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

قاصّة مصرية 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون