أحمد عبد المعطي حجازي.. حارس المدينة

عبد المعطي حجازي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

استحق أحمد عبد المعطي حجازي منزلة رفيعة في تاريخ شعرنا العربي المعاصر بما أضافه لشعر الحداثة العربي من تعبيره الجمالي عن الهموم الكبرى للإنسان بعامة والشخصية المصرية العربية بخاصة مع تطويره الفني للقصيدة العربية وأثره الفعال ودوره المساهم في تأسيس القصيدة التفعيلية الجديدة في خمسينيات وستينيات القرن العشرين.

تتردد في خطاب أحمد عبد المعطي حجازي الشعرية موضوعة صورة الشاعر وعلاقته بالشعر كما في قصيدة “دفاع عن الكلمة” من ديوانه الأول، مدينة بلا قلب، الذي يبين عن تصوُّر حجازي لدور الشاعر بوصفه فارسًا مدافعًا عن الكلمة، حيث يقول في مقطع بعنوان “أغنية”:

فرسي لا يكبو

وحسامي قاطع

وأنا ألجُ الحلبة

مختالاً ألج الحلبة، أثني عطفي

أتلاعب بالسيف

لا أرتجف أمام الفرسان!([1]).

يُقدِّم حجازي صورة “الشاعر الفارس”، بما يكشف عن رؤيته للشعر مرتبطًا بمفاهيم الفروسية وقيمها، كالتحلي بالشجاعة والاتسام بالقوة والقدرة على المنازلة والمواجهة وكذلك الجسارة والإقدام والمخاطرة، وتبدو هذه الصورة للشاعر الفارس سليلة الوعي الشعري التراثي، واستعادة لصورة من الشعر العربي القديم للشاعر الفارس، تكريسًا لقيم الحماسة، وإبرازًا للوضعية التي يتسنمها الشاعر وتمكنه من أدواته وثقته البالغة بنفسه في تنافسه مع دونه من فرسان الشعر.

د. رضا عطية وأحمد عبد المعطي حجازي

تبدو بنية النص الحجازي محكمة ومكثفة لغويًّا في اكتناز الأسطر الشعرية، وحتى في التكرارات التي يتعاضد فيها الأثر الصوتي الموسيقي مع المقصد الدلالي كما في: (ألجُ الحلبة/ مختالاً ألج الحلبة) في تدوير تكراري مُتضمنًا حالة الذات (مختالاً) إبرازًا لزهوها النفسي بممارستها الشعر كفعل فروسية، وكذلك تأكيدًا على استمرارية وتكرارية فعل ولوج حلبة الشعر والحياة في وضعية الفارس، كما تكشف صورة مثل: (أتلاعب بالسيف) عن تمادي الثقة بالنفس وكأنّ السيف معادلاً لقلم الشاعر، والإبداع هو فعل لعب، فتبدو هذه الصورة المشهدية للفارس هي بمثابة موازاة استعارية للشاعر المتمكن من شعريته.

ثمة وعي لدى حجازي بوضعيته كشاعر يخوض غمار الشعر بمن سبقوه من الشعراء الأسلاف:

“فخر”

أنا أصغر فرسان الكلمة

لكني سوف أزاحم من علمني لَعِبَ السيفْ

من علمني تلوين الحرفْ

سأمر عليه ممتطيًّا صهوة فرسي

لن أترجلَ

لن يأخذني الخوفْ

فأنا الأصغرُ لم أعرف بعدُ مصاحبة الأمراءْ

لم أتعلمْ خُلُقَ الندماءْ

لم أبع الكلمة بالذهب اللألاءْ

ما جردتُ السيفَ على أصحابي، فرسان الكلمة

لم أخلع لقبَ الفارسِ يومًا

فوق أمير أبكمْ!([2]).

يتمادى اعتداد الشاعر بالذات واعتزازه بشعريته،على الرغم من حداثته العمرية، رافضًا اتباعية الأسلاف، معلنًا تحديه للسابقين ورغبته في تجاوزهم. وكأنَّ ثمة قرانًا ما بين روح الفروسية والوعي الطليعي والإرادة التجاوزية في الشعر، وكذلك تقترن الفروسية في تجرُّد الشاعر من الدوران في فلك الأمراء ومنادمتهم، تأكيدًا لاستقلاليته، أو التخلي عن شرف الكلمة لقاء مكاسب مادية، أو استعمال الشعر التصارع مع الرفاق من فرسان الكلمة. فيتجلى هيمنة الوعي الرومانسي في رؤية العالم لدى حجازي، خصوصًا في أشعاره الأولى، تلك الرومانسية قرينة التصوُّرات المثالية لدور الشعر وصورة الشاعر، الفارس البطل القادر على مواجهة العالم وتغييره.

تعمل البنية اللغوية على تعضيد أنساق المقولات الدلالية، حيث يُظهِر الاعتماد على ضمير المتكلّم مركزية الذات في وعيها بتموضعها الوجودي الموسوم بفروسيتها، كما يعكس وفرة الفعل المضارع تقرير ثبات الشاعر على مبادئه وموقفه الفروسي، واستمراريته في التمسُّك بقناعاته، وحتى المضارع المسبوق بأداة نفي (لم) التي تحول الفعل لمعنى الماضي كما في: (لم أتعلمْ/ لم أبع/ لم أخلع) فإنّه يحمل معاني وفاعلية الماضي المستمر، بما يعني ترسخ الموقف والإصرار عليه.

ثمة ارتباط كبير وعلاقة خاصة لحجازي بالمدينة، حيث كانت المدينة هي الموضوعة الأبرز لشعراء الحداثة العربية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، مع تصاعد التيار الواقعي في الأدب والفكر الوجودي في الفلسفة، علاقة حجازي الأولى بالمدينة يشوبها القلق والارتياب، الشعور بالاغتراب، فيقول في قصيدته “إلى اللقاء”:

الليل في المدينة الكبيرة

عيدٌ قصيرْ

النور والأنغام والشبابْ

والسرعة الحمقاء والشراب

 عيدٌ قصيرْ

شيئًا.. فشيئًا.. يسكتُ النغمْ

ويهدأ الرقصُ وتتعبُ القدمْ

وتكنس الرياحُ كلّ مائدة

فتسقط الزهورْ

وترفع الأحزانُ في أعماقنا رؤسها الصغيرة([3]).

تبدو الذات واقعة تحت رهاب المدينة التي تحس بكبرها وضخامتها، فضاء اجتماعي متمدد، ليبدو هذا الشعور ناجمًا من الأصل الريفي الذي تكوَّن في فضاء قروي بسيط ومحدود المدى، كما يسفر الخطاب الشعري عن زيف المدينة وانقلابية أحوالها، فيبدو ليل المدينة بمظاهره الاحتفالية الصاخبة كأنّه عيد لكنه قصير ما يلبث أن ينقلب الحال بعده إلى النقيض، فتتسلل الأحزان إلى النفوس.

وتضطلع البنية التركيبة واللغوية بدور فاعل في إبانة أحوال المدينة المضطربة والمتناقضة في آنٍ؛ فيعمل العطف كما في: (النور والأنغام والشبابْ/ والسرعة الحمقاء والشراب) الذي يبرز إيقاع المدينة المتواتر وتداعياته المتدافعة على وعي الذات. كما يعمل التقابل بين (يهدأ/ وتكنس) على إبراز إجهاز المدينة على مظهر البهجة والزينة فيها مع التداعي الجسدي لذواتها، ويشي الفعل (تكنس) بعنفوان رياح الواقع المديني، ويأتي التقابل بين (فتسقط [الزهور]/ ترتفع [الأحزان]) لبيان الأثر العكسي لتمكّن رياح الهدم وقوى التخريب من النفس بتنامي الأحزان وتصاعد وتيرتها. كما يُمثِّل تكرارية الخبر (عيد قصير) وتدًا إيقاعيًّا يُجسِّد دلاليًّا أفول مظاهر البهجة الزائفة في المدينة، وأنّ مظاهر بهجتها وصخبها محكوم عليها بالانقضاء.

يرصد النص الحجازي دراما التحولات في الليل المديني واستبداد الأحزان بالأشخاص وأشياء المدينة:

وننثني إلى الطريقْ

صفان من مسارج مضبّبة

كأنّها عمدانُ قريةٍ مُخَرَّبَةْ

تنام تحت الظلالْ

وقد تمرّ مركبةْ

ترمي علينا بعضَ عطرها السجينْ

وساعة الميدان من بعيدْ

دقاتها ترثي المساءْ

وتلتوي أمامنا مفارقٌ ثلاثةْ

تمتد في بطن الظلام والسكونْ

وتهمسونْ:

“إلى اللقاء!”([4]).

تعمل الحساسية الفنية المرهفة لشاعر يملك وعيًّا جماليًّا متقدًا كحجازي على تشعير الأشياء التي تتموضع في الفضاء المديني، تلك الأشياء التي تبدو وليدة لانعكاسات مشاعر الذات بها، فكأنّ تسقط ذاتيها على الموضوعات المتمثَّلة، فيبدو لها (صفان من مسارج مضبّبة/ كأنّها عمدانُ قريةٍ مُخَرَّبَةْ) في طغيان آثار مكانها الريفي على وعيها بمكانها المديني، كما تبدو عناصر المكان المديني وأشياؤه مسلوبة الأثر أو منقوصة الفاعلية، فالمسارج (أعمدة الإنارة) مضببة، والمركبة التي قد تمر (ترمي علينا بعضَ عطرها السجينْ) وكأنّ ثمة شعورًا ما لدى الذات بكون المدينة سجنًا للحريات والأشياء، فانعكس هذا على شعور الذات بالعطر النافذ من المركبة. ويخيم الحس العدمي في تمثل دقات ساعة الميدان ترثي المساء، بما يجلي الشعور التشاؤمي الحزين المهيمن على وعي الذات بعالمها، وإذا كانت مفارق الطرق قد ترمز إلى تحول ما مفصلي في مسار الذات، فإنّ امتداد مفارق الطرق في بطن الظلام والسكون قد يشي بمجهولية مصير الذات ورهبته في المدينة، لكن مع ذلك، يبقى الوعد والأمل في اللقاء.

  وفي قصيدته “شفق على سور المدينة” من ديوانه طلل الوقت، يرثي حجازي الكاتب التنويري فرج فودة الذي اغتالته يد الإرهاب:

دمُه الذي أُهْرِيقَ في أقصى المدينةِ, وردةٌ

قامت من الرملِ الذي مَطَرَ البلادْ

دمُه دمُ الطَّمْيِ المعَذَّبِ تحت عصفِ الريحِ,

صرختُنا الأخيرةُ,

جرحُنا المفتوحُ في هذا السوادْ

دمُه من الشمسِ الأسيرةِ خُصلةٌ من شَعْرِهَا

شفقٌ على سورِ المدينةِ راعفٌ قانٍ

يردُّ ظلامَ يأجوجٍ ومأجوجٍ,

تألُّقُ جمرةٍ ياقوتةٍ

ستظلُّ تشهقُ في الرمادْ

إلى نهايةِ ما يكونُ من الخرابِ،

إلى القيامةِ والمعادْ!([5]).

في تمثُّل حجازي لدم الكاتب التنويري فرج فودة الذي هو رمز للتضحية وعلامة على خسة أيادي الإرهاب وتغول الظلاميين الذين يسعون لتخريب المدينة يبرز الأخطار الداهمة التي تحدق بالهوية المصرية بعد استفحال الرجعية وتمدد الخراب الفكري في أرجاء المجتمع. فيرى دم المفكّر التنويري الذي يثمِّل الثمن الباهظ الذي دفعه لقاء أفكاره معبِّرًا عن ذاتية الجماعة الإنسانية المنتمية للبلاد ومدافعًا عن هويتها.

يبين هذا المقطع الشعري الذي يتكون من ثلاثة جمل عن شعرية النفس الطويل التي يتسم بها البناء الشعري لحجازي، كما تتبدى تنويعات التصوير بتعدد إحالات المشبه به للمشبه (الدم)، لنمسي كأنّنا إزاء صرخات متتابعة منددة بتمكُّن القوى الظلامية من المجتمع وبسطها أيدي الإرهاب تخريبًا للمكتسبات الحضارية للأمة المصرية. وينبني التشكيل الصوري على جلاء الصراع المحتدم بين قوى التنوير الممثلة في دم المفكر المراق في مواجهة قوى الشر، فتضع الصياغة التصويرية الحجازية الدم المشبّه بوردة في مواجهة أو في كنف الرمل الذي هو رمز للبداوة والتخلف الفكري والرجعية، كما تربط الدم بالطمي الذي هو رمز الخصوبة والنماء في مواجهة عصف الريح الذي يرمز لاجتياح الخراب وفعل الهدم، كما يشبه دم الكاتب بخصلة من شعر الشمس بما ترمز إليه الشمس من كونها كتلة للتنوير تأكيدًا على المرجعية التنوير للكاتب، أما وصف الشمس بالأسيرة فيكشف عن تكبيل الأجواء الظلامية ومحاصرتها لقوى التنوير. أما نسب القوى الظلامية إلى يأجوج ومأجوج اللذين يمثلان أهل الشر في نبوءات آخر الأيام ونهاية فيشي بتمادي هذه القوى المفسدة في شرها إلى حد يداني النماذج الأسطورية للشر في ذروته واستفحاله، كما يأتي تصوير دم الكاتب بجمرة ياقوتة متألقة أبديًّا إلى القيامة، بما تحملة الياقوتة، التي من الأحجار الكريمة، من سمات صغر الحجم وتعاظم القيمة فيعكس أبدية أثر التضحية التي قدمها المفكِّر التنويري في مقاومة الخراب الذي تبثه وتشيعه القوى الهدامة.

……………

*نقلاً عن جريدة “الأهرام” عدد الجمعة 12 يونيو 2020

[1]– أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان مدينة بلا قلب، مصدر سابق، ص91.

[2]– أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان مدينة بلا قلب، مصدر سابق، ص ص91- 92.

[3]– أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان مدينة بلا قلب، مصدر سابق، ص35.

[4]– أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان مدينة بلا قلب، مصدر سابق، ص ص35- 36.

[5]– أحمد عبد المعطي حجازي، الأعمال الشعرية الكاملة، ديوان طلل الوقت، مصدر سابق، ص 536.

مقالات من نفس القسم