أبو سنة ونزهة في ربيع الكلمات

محمد إبراهيم أبو سنة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. رضا عطية

محمد إبراهيم أبو سنة شمس ساطعة في سموات الشعر، يتوهج إبداعه بـ”قصائد لا تموت”، لتضيئ وجدانات مستمعيه وقرائه على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان لتغزل أشعتها “مرايا النهار البعيد”. يقيم “حوار مع الصمت”، يتفقد “دون كيشوت على فراش الموت”، يطلق “طائر الغناء السجين” “بغير أجنحة” ليغني “أغنية لجا جارين” أو “لفيدل” يبعث بـ “رسالة إلى الحزن” بعد أن اكتشف “خيانة البنفسج”.

يعيش أبو سنة “ربيع الكلمات” فيقدم لنا “تأملات في الحديقة الشعرية” بعد أن يمضي بنا في “حديقة الشعر”، يدعونا إلى “نزهة في الربيع” في “رياض الشعر” لقطف بعض الأغاني التي أوشكت أن تضيع بعد أن يعزف لنا “موسيقى الأحلام”.

ويطل علينا شاعرنا الكبير محمد إبراهيم أبو سنة في أحدث دواوينه الشعرية (تعالي إلى نزهة في الربيع) ليرصد لنا بحس إبداعي مرهف وبوعي شعري مختمر حالات شعرية على تنوعها المتفاوت – إلا أنها تصب في قالب واحد، وتتضام فيما بينها متواشجة، فتنصهر في بوتقة تشكلها في سبيكة متجانسة فيرصد لنا ما يعتري الذات سواء على مستوى الوجود الفردي لها أو على مستوى وجودها الكوني وحضورها الجماعي والإنساني ككل من تحولات حادة تبدل خرائط الوجود وتغير كينوناته، فيصدر لنا شاعرنا حالة شعرية تلوذ بالدهشة المتأملة وتعتصم بالتساؤل المتفحص إزاء تيارات الحياة الهادرة وعواصف الزمن المجتاحة حياة الإنسان لتوقفه مذهولًا إذ هو يرى ما قد عايشه من ذكريات حميمة وما مر به من أوقات سعيدة يتبخر أمام عينيه رمادًا ينتثر بلا عودة.

مقولات النص وأبنيته الدلالية

تقف الذات الشعرية الناطقة في حالة دهشة من حركة الزمن المارقة وجموحه الراكض، مما يفجر تساؤلًا وجوديًا نفسيًا حول موقع الإنسان من تلك الأيام وأيهما صاحب الفعل الذي يحصر الآخر في دائرة رد الفعل، مثلما يبدو ذلك في قصيدة “وبحار تجري نحو بحار” التي يستهلها الشاعر بتساؤل وجودي ميتافيزيقي البعد    (أترى تسقط منا الأيام / أم نسقط منها / وتغادرنا / أم نمضي ونغادرها؟)، حتى يعاود التساؤل عن ماهية تلك الأيام في إيقاعها الجامح: (هل تلك الأيام خيول جامحة / أم تلك سيوف / سلت فوق / الأعناق؟ / ونراها … راكضة لبدايتها / دامية وسط سباق)، فترثي لنا الذات الشاعرة في (“مرثية حلم” – “مرثية غزالة”) حال الصباح وما يحيل إليه من معاني الأمل والتطلع المتوهج بعد أن هُتك غشاء برائته فتخضب بالدم: (كنت هنا في الصباح … وكان الصباح / بريئًا / … إلى أن تخضب بالدم)

ولا يقتصر رثاء الشاعر للصباح فقط، بل يمتد ليشمل الغروب الهارب بما فيه من قناديل تجف وأنهار تموت في مشهد جنائزي أسيف تولول فيه السحب وتصرخ الأقمار كما في قصيدة “وبحار تجري نحو بحار”: (ها هي مرآة نبصر فيها / ظل غروب هارب / حيث تجف قناديل / وتموت الأنهار / وتولول سحب خاوية … / إلا من ذكرى / تصرخ فيها الأقمار / نمضي وسط فجاج الأرض تلاحقنا / أشواك هواجسنا).

ويجسد لنا الشاعر فعل الزمن في الزمن ذاته بإيقافه مجئ الربيع / الازدهار ونمو الأمل وحصاد ثماره وكذلك فعل الزمن في الأشياء حيث العواصف لم تترك في جوف البحر إلا بقايا سفن مثقوبة. فكأنما الزمن بعواصفه قد أتى على السفن مستقل الإنسان ووسيلة تحركه إلى مبتغاه ووجهته: (ربيع لا يأتي / ونجوم تتلألأ / ساخرة في كف الأقدار / ليل من أسرار / ونهار من أكدار / وبقايا سفن / ثقبتها في جوف البحر / عواصف / تدفعها / نحو جنون الموج الأغوار).

كما يجلي شاعرنا أثر الزمن في تلك العلاقة الجدلية التي تجمع الإنسان / الشاعر بالمكان / قريته حيث جذوره وأصله، فكلاهما – الشاعر الإنسان والقرية، كلاهما اغترب بعد أن تساءل في حيرة يلفها الذهول: (من الذي اغترب؟؟ / يا قريتي التي أحملها / ما بين أضلعي / تفاحة من الذهب / أنا وأنت / قصة تبددت / يلفنا الذهول / وسط عالم / من الكذب / وجهان ذابلان / ذاهلان / في مواكب العجب)، فيرصد الشاعر تلك التحولات التي اجتاحت الريف فطمست هويته ومحت معالمه المائزة وأزهقت روحه النقية وبدلت فطرته البكر، فالقرية الصبية العجوز في رواقها القديم تنتحب كما في قصيدة “من الذي اغترب” التي أهداها الشاعر إلى قريته (الودي) كأنما تنعي ما ألم بها من تصحر وما أصابها من انحسار رقعة الأرض الزراعية الخضراء بعد أن امتدت إليها أيادٍ عابثة قامت بتبوير تلك الأرض الزراعية فأزالت الحقول كما يبدو ذلك في قصيدة “صدى للغبار” والتي تبدو وكأنها صدى للقصيدة السابقة عليها في الديوان (من الذي اغترب) وكأنها استئناف القول لما فيها من رؤى، فيصور الشاعر في “صدى للبغار” مشهد النهر المنحدر من أعالي الجبال باحثًا عن القرى التي زالت حقولها”: (أرى النهر منحسرًا / هابطًا من أعالي الجبال / يتلمس أين القرى / عبر عشب الحقول / التي صوحت / وأصطفاها الزوال) وفي نفس القصيدة “صدى للغبار” يوسع الشاعر من دائرة الاغتراب لتشمل الأرض التي باتت منفى منفرًا للأرواح التي أمست صدى للغبار في الريح:

أرى الأرض منفي / وأسرى / وأرواحنا / تتسلل منا كهذا البخار

هي الريح معنى / لما قد تبقى / وهل نحن إلا / صدى للغبار

بيد أنّ الأرض لم تكتف بأن صارت منفى للأرواح بل تتمادى في خصومتها مع الإنسان وتصعد من حدة لفظها له حتى تبلغ حد الجنون، كما ينقل لنا الشاعر في قصيدة “هل الأرض جنت؟” مشهدًا مأساويًا ينزف دمًا ويجتر ألمًا بعد ذلك الزلزال المروع الذي ضرب إندونسيا واكتساح أمواج البحر بوحشية للشواطئ والمدن فيما يعرف بكارثة (تسونامي)، فينقل الشاعر هذا المشهد الكارثي تكتنفه ظلال تأويلية تسعى إلى تفسيره تبدو ماثلة في خلفية ذلك المشهد تحاول أن تفلسفه، وكأن هذا الجنون المأساوي الذي أصاب الأرض إنما قد تمكن منها بعد أن ضاقت الأرض بأفاعيل البشر وقد تملكهم الشر، فخاضوا الحروب واقترفوا الذنوب، ونالتهم سهام الشقاق، فأهدروا ما أحرزوا من تقدم وبددوا ما حققوا من مكتسبات حضارية، وشوهوا ما صنعوا من جمال وسط دخان الخطر.

وإزاء ما لحق بالذات من تراجعات وما فاتها من أحلام والذي لا يجدي البكاء في استرداده، يدعو الشاعر القلب إلى تعلم الثبات في مواجهة أحداث الزمن العاصفة، مؤكدًا على أهمية صبر اللحظة الأولى الذي هو بعث لجميع اللحظات، مذكرًا بالأمنيات الراكضة في صباح أبيض عبر فجاج الفلوات، وكأنما أرادت الذات الشاعرة الثبات وتنشد الإمساك بأهداب الزمن والإفلات من قبضته القدرية، لتنسج مخيلتها بخيوط أحلامها زمنًا خاصًا بها، إنما هو زمن ميتافيزيقي مفارق، زمن الحلم الذي يوقظ المعجزات، فتعيش الذات الشاعرة حالة من النوستولوجيا تهفو فيها تواقة لبعث لحظاتها الجميلة من رقادها وإقامة نجم أحلامها من مثواه، حتى تقيم الذات الشاعرة زمنًا خاصًا بها هو الربيع لتدعو الآخر إلى نزهة معها في الحدائق الجميلة والحقول البديعة كما في قصيدة “تعالى إلى نزهة في الربيع”: (تعالي إلى نزهة … / في الربيـع / لنقطـف بعـض الأغاني/ التي أوشكـت / أن تضيـع / ونطلـق في الأفـق … / … ضوء الفراشات … / فوق مرايا الجداول / عبر الفضاء الوسيع / نحلق مثل الطيور / التي ألهمتها الحدائق / هذا الجنون البديع)

إنها دعوة عذبة تحلق في آفاق من الرومانسية، دعوة لاستعادة الحس الجمالي واسترداد شعورنا الطفولي الأولي بالأشياء والكائنات بدافع من الحب الذي يبعث مشاعر الإنسان ويقيمها من رقادها، فيعيد خلق عوالمه الشفيفة وتشكيل لوحاته الكونية، فالتواصل مع الآخر يمنح للكائنات كينونتها ويمكنها من أداء وظائفها، فيطلق ضوء الفراشات ويشعل نجمًا ثوى، فهي محاولة للتمثل بتلك الكائنات في جنونها البديع المتدفق.

ضمائر القصيد: حوامل الخطاب الشعري

تضطلع الضمائر في الخطاب الأدبي عمومًا والشعري خصوصًا بدور هام في بناء النص وفي بث خطاباته وحمل أطروحاته وتوليد دلالته النصية، إذا تنهض الضمائر بدور (الفواعل) في النص الأدبي، إذ يتجاوز الضمير مستوى البيان النحوي إلى تحسس ما يفضي إليه من بيانات جمالية، بأن يظل دائمًا على حافة اللغة، في تلك المنطقة التي تتجلى فيها أدبيتها وشعريتها على وجه الخصوص، ومن ثم فهو دائم المغازلة لبقية مستويات التشفير والترميز في النصوص التي يقاربها وربما يقع لذلك إلى حد ما في دائرة سيمولوجيا جماليات التلقي(1).

وبمطالعة قصائد الديوان السبعة نجد أن كل قصيدة منها جاءت لتحمل أكثر من ضمير، حيث تتنوع ضمائر القصيدة عند أبي سنة بين ضميري المخاطب المذكر والمؤنث وضميري المتكلم المفرد والجمع وضمير الغائب، وتنوع الضمائر داخل القصيدة الواحدة إنما هو سمة غالبة في شعر أبي سنة، هذا التنوع ينعش القصيد، وينتشله من رتابة اعتماد القصيدة ضميرًا موحدًا في بنائها، كما يضطلع هذا التنوع غالبًا بدور درامي يتمثل في توزيع شحنات الخطاب الشعري وبثه عبر أكثر من ضمير في القصيدة الواحدة.

وتشترك قصائد الديوان جميعها في احتواء كل منها على ضمير الغائب يصاحبه ضمير آخر أو ضميـران، وغالبًا ما يقوم ضمير الغائب بوظيفة السرد وعملية الوصف داخل اللوحة الشعرية بينما تبث بقية الضمائر الرؤى الشعرية المتأملة، كما تستخرج مكنونات الشعور ودخائل الذات المضمرة في النفس والمنظوية عليها، وأحيانًا يستخدم الشاعر في تنويع ضمائره داخل النص الواحد تقنية (الالتفات) وهي استخدام أكثر من ضمير للتعبير عن نفس المضمر إذ نطالع هذا الالتفات في قصيدة (هل الأرض جنت؟) حيث تتراوح إشارة الشاعر إلى الأرض بين ضميري الغائب والمتكلم، حيث يتبادل الضميران بث الخطاب الشعري وإن كان ضمير الغائب يغلب عليه القيام بدور الوصف كما يقوم أحيانًا بدور التعليق على ذلك المشهد المأساوي الذي ينضح ألمًا وينزف دمًا. فيما يشبه دور تقنية الكورس في النص المسرحي لما تحمله من دور استجلاء النص وإضاءة مشاهده: (أرى الأرض تسعى خلال العناكب / هائمة في الظلام / مسربلة بالذنوب / تفكر في حزنها)

ثم تنتقل الإشارة إلى الأرض من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم: (أنا الأرض … / يارب مذنبة / بالدماء التي كم / تراق / وهم يذبحون الحياة)

هندسة القصيد وبناه الموسيقية

نجد أبا سنة في هذا الديوان وكعهدنا بشعره عمومًا يحتفي بموسيقى شعره ويعتني بإقامة بناء شعري محكم الأنساق؛ دعائمه موسيقاه البارزة وركائزه إيقاعاته المنضبطة وأساساته نغماته العذبة، فيضطلع هذا الأساس الموسيقي بحمل أبنية المعنى وطبقات الدلالة.

وتأتي القافية عنصرًا بالغ الأهمية وشريكًا رئيسيًا ووسيطًا محوريًا في عملية صناعة الشعرية وإنتاج الدلالة النصية إذ تستلزم القافية بالضرورة علاقة دلالية بين الوحدات التي تربط بينها، حيث تقف بتعبير (جان كوهين) كتمثال صوتي خارجي يقوم شاخصًا ليبتوء موقعه الذي يسهم من خلاله في تحديد مراكز الثقل الدلالي التي تتمحور حولها وحدات المعنى بالنص.

ويأتي الشطر الأعظم من قصائد أبي سنة ذا قواف شبه موحدة تعتمد حرفًا واحدًا للروى يحتل المساحة العظمى من رقعة التقفية.

وأكثر الحروف التي جاءت لتكون رويًا عبر قصائد هذا الديوان حروف العين والراء والجيم والباء واللام من الأصوات المجهورة التي تمتاز بأنها أوضح من السمع مما يؤكد حرص أبي سنة على أن يكون إيقاع النهاية في شعره واضحًا جليًا ومميزًا في السمع، بينما يأتي من الأصوات المهموسة رويا حرف التاء التي يحتاج بذل مزيد من الجهد في نطقه ليتضافر مع إنتاج معنى دلالي خاص في قصيدة “علم القلب الثبات” وهو بذل الجهد نشدانًا لبلوغ هذا الثبات.

كما يغلب على إيقاع النهاية المقطع الزائد الطول المنتهي بساكنين يسبقهما متحرك (/55) ويعد هذا المقطع وسيلة هامة من وسائل ضبط إيقاع النهاية في الشعر العربي المعاصر بعامة، بعد التخلي عن القافية الموحدة والضرب الموحد، ومما أهله لهذا الدور كونه يقترن – دائمًا – بالنبر مما يؤدي إلى علو درجة الصوت في نهاية السطور، ولهذا المقطع – أيضًا – وظيفته التي تتنوع بين إحداث الوقفات الحادة عند نهايات السطور، وإحداث التوتر التنغيمي ما بين التوقف واستمرار القراءة في حالات التضمين(2).

كذلك فمن العمليات التي تسهم في تشكيل البناء الموسيقي للشعر وضبط أنساقه الإيقاعية هو التكرار، ويعد تكرار الوحدات المتناظرة من الوسائل الناجحة لتحقيق تماسك النص / الحديث، حيث يفرض تكرار الوحدات النغمية نظامًا من التوحدات النحوية والمعجمية، أي أن التكرار يخلق أنماطًا من التوازيات الموزعة داخل النص الشعري (فبنية الشعر تتميز بتوازٍ مستمر) منشاؤه عودة نفس الصورة الصوتية وعودة الوحدات العروضية المنتظمة بها تلك الصورة الصويتة.

ونجد خمسًا من قصائد الديوان تتضمن جملة محورية مكرورة، فيما يعرف بتقنية الأنافورا (Anaphora) التي تتمحور كمرتكز إيقاعي ذي بعد دلالي، كذلك نجد في قصيدة (هل الأرض جنت؟) حيث يكرر جملة (هي الأرض جنت) وكأنها إجابة للعنوان السؤال تؤكد على العنوان / السؤال، إلي أن الشاعر أخذ في تضمينها بدءًا من منتصف القصيدة، بعدما يورد مشاهد ماساوية لجنون الأرض.

ويتنوع التكرار بأشكال متنوعة منها تكرار كلمة القافية وهو ما يعرف بـ (الإيطاء) الذي يؤدي إلى خفوت القافية، بينما يعمل على شد انتباه المتلقي، كما في قصيدة مرثية حلم مرثية غزالة

كنت في الصباح

وكـــان الصباح

بريئــًا

وكذلك في قصيدة (تعالى إلى نزعة في الربيع)

تعالى … فما عاد ضوء

يجيــئ ســـوء ضـــوء

عينيــــك

وكأن الشاعر يوقف كاميرته الشعرية عند نفس نهاية المشهد المكرورة مرتين، فيما أشبه بتقنية المزج السينمائية، ومن أشكال التكرار التدرج وهو يعتمد على تكرار اللفظ والانتقال به إلى لفظ ثان ثم تكرار هذا اللفظ الثاني والانتقال به إلى لفظ ثالث فيما يعرف فى البلاغة العربية القديمة بالترديد مثلما يبدو ذلك في قصيدة “وبحار تجري نحو بحار”: (فإذا الأشجار هي الأحجار / وإذا الأحجار هي الأسوار) فيما هو أشبه بتسلسل حلقي تقوم فيه الأحجار حلقة وسطى تصل بين حلقتين الأشجار / الأسوار.

كذلك تأتي الكثير من أسطر أبي سنة الشعرية ذات سيمترية ناجمة عن التماثل التركيبي بين الجمل مما يدثر موسيقى شعره بإيقاعات موسيقية متوازية كما يبدو ذلك في “مرثية حلم … مرثية غزالة”: (ولم يبق إلا النواح / ولم يبق إلا العذاب وكذلك في هل تلك حديقتنا / موحشة/ لا تأتيها الأمطار / لا تبصرها الأنظار / ولا تعرفها الأطيار)، وفي قصيدة “صدى للغبار”: (هي الريح ورد … / يهدهد حزن المرايا / وينثر هذى البقايا).

وأحيانًا يأتي مع تماثل التركيب تكرار لفظ بعينه فيما يعرف بـ (التدويم) كما في قصيدة “هل الأرض جنت؟”: ولا لون للشمس / ولا لون للماء / ولا لون للنجم

ولا لون إلا لهذا الجماجم / عبر الخرائط / عبر المحيط المهيب / ولا لون إلى لهذا الفزع

حيث يأتي التدويم بإيقاع مكرور يتمثل في التكرار الملحاح لـ (لا لون) مما يؤكد دلاليًا على انطماس الألوان ومحو هوية الأشياء.

وبالنظر لهندسة الأسطر الشعرية نجد أنها يغلب عليها قصر السطر الشعري حتى تكاد تأتي نسبة غير قليلة من الجمل في أكثر من سطر شعري إذ توزع الجملة الواحدة على سطرين أو أكثر من سطر فيما بشبه (التضمين) كذلك نجد نسبة غير قليلة من الأسطر الشعرية تحفل بتكرار حروف العطف الأمر الذي يضمن طول احتضان الذاكرة للنص وسهولة استرجاعه كما في قصيدة “من الذي اغترب”: (من الذي اغترب؟ / أنا أم الأحجار / والأنهار والأشجار / والأحلام في سرابها / تموت وهي تقترب).

بناء الصورة وصناعة التخييل:

يبقى الأدب عمومًا والشعر خصوصًا هو عملية رسم الصورة وصناعتها بريشة الكلام المعتمد على فاعلية التخييل، وتمتاز عملية بناء الصورة عند أبي سنة بالثراء والتنوع، والملاحظ لديه في بناء صوره أن نسبة غير يسيرة من صوره تعتمد على تجسيده المعنوي ليبدو ماثلاُ للعيان في مشهد حركي، كذلك يغلب عليها صناعة المشاهد الممتدة، كذلك تقوم صناعة الصورة لديه أحيانًا على إقامة توازٍ بين الصور فيما يشبه تقنية المونتاج إذا تستدعي صورة ما حضور صورًا أخرى بالتآني معها كما في “مرثية حلم مرثية غزالة”: (لماذا … إذا ما ذكرتك … / أبصر سربًا من البحعات / التي تنتقل … بين الشواطئ / تبكي)، كذلك يرسم الشاعر في بعض صوره صورًا سريالية، يعتمد فيها إعادة تخليق المشبه عبر المشبه به، كما في قصيدة “مرثية حلم مرثية غزالة”: (صوتك يأتي من القلب / مثل رنين اللآل / ومثل العناقيد … تبرق تحت الدوال)، إنه سحر الفن وعمله في كسر الألفة كما يذهب “شكلوفسكي” بأن التعود يلتهم الأعمال …، والفن موجود لمساعدة الإنسان على استعادة الحس بالحياة، ولتمكين الإنسان من الإحساس بالأشياء ليجعل الصخر صخريًا، فتكنيك الفن يقوم على جعل الأشياء غير مألوفة، على جعل الأشياء صعبة، على إطالة صعوبة الإدراك الحسي، والزمن الذي يستغرقه. فعملية الإدراك الحسي غاية جمالية في حد ذاتها ومن ثم يجب إطالتها. والهدف من الصورة ليس هو تسهيل وجود المعنى أمام إدراكنا بل خلق إدراك حسي خاص بالشيء، خلق مشاهدة الشيء وليس مجرد معرفته، ومن هنا تجيء العلاقة بين الصورة وعملية “جعل الشيء غريبًا”، وكذلك في “هل الأرض جنت؟”: (هي الأرض جنت/ تسوق العواصف … وتنهش لحم الحقول التي تتقيأ / فيها المدارات).

وأحيانًا تقوم صناعة الصورة على صياغة الواقع المادي في قالب مؤدلج يحمل تفسيرًا له دون الوقوع في النبرة الخطابية مثلما يتجلى ذلك في قصيدة “هل الأرض جنت؟” والتي يصور فيها حال الأرض المأساوي عقب احتياج إعصار تسونامي بها وما أحدثه من دمار فادح”: (أرى الأرض تسعى خلال العناكب / هائمة في الظلام / مسربلة بالذنوب / تفكر في حزنها / وتسأل رب السماء / النجاة من الهول / مما تأجج من حقد / بعض القلوب)، فيبدو لنا أن الشاعر قد استطاع أن يمسك بأطراف الحادث الواقعي ليحيله من واقع عادي مبتذل إلى لحظة باهرة من التماع الحكمة والبصيرة التاريخية، إنها عصا الإبداع السحرية وسحر الكلمة الذي يحول الواقع المادي إلى خبرة جمالية من خلال التشكيل الجمالي له اعتمادًا على فاعلية التخييل.

ودعونا ننتقي من باقة ديوان أبي سنة وردة بهيجة “علم القلب الثبات” نستنشق عبيرها الجمالي وأريجها الطيب بالتحليل.

علم القلب الثبات

دعوة يطلقها الشاعر للثبات. تطل علينا مرتدية ضمير المخاطب، وكأن الشاعر يوجه خطابه للذات وللقارئ المتلقي معًا في آن، مما يوجد أجواءً من الألفة يخلقها استخدام ضمير المخاطب المفرد الذي يجعل الحديث وسطًا بين النجوى الداخلية والبوح والنصيحة، فتأتي قصيدة أبي سنة لتشعير موقف وجودي للإنسان يستحضر فيه الثبات أرضًا صلبة يقف عليها في مواجهة ما يعتريه من عواصف الأزمات التي تجتاحه.

  • علم القلب الثبات / فالذي لا شك يأتي / هو آت / والذي فات / أبكه ما شئت – فات

إن نهرًا جف / لا تغريه أشواق النبات

  • علم القلب الثبات / حين تأتي العاصفات / أو تدوي الزلزلات

واطرح الخوف من الليل / وحدق في ظلام عابر / وتأمل / كيف تنمو الأمنيات

في صباح أبيض / مثل جواد / راكض عبر فجاج الفلوات

والقصيدة مكونة من ثمانية مقاطع يستهل كل مقطع منها بجملة مكرورة وهي (علم القلب الثبات) التي تتبوءر في فضاء القصيدة محورًا شمسيًا تنبثق منه خيوط المعاني التي تتوازى وتتقاطع لتغزل لنا شبكة متواشجة الدلالات، ويجسد الشاعر لنا لوحات كونية تحفل بمشاهد تموج بما هو أشبه بتفاعل كيميائي للأضداد في ديمومية سرمدية، فتلتقط عدسته الشعرية صورًا ديالكتيكة لحالات وجودية مشتجرة تعلم القلب الثبات، فتأتي بنية المعاني عبر مقاطع القصيدة الثمانية ذات بنية دائرية الحركة حلزونية متلولبة.

وفي مقطع القصيدة الأول يقر الشاعر بضرورة الثبات أمام ما هو قادم ومحتوم لا يرد قضاؤه وماض تولى لا يعيده بكاء، ثم يدعو في المقطع الثاني إلى التأمل مبشرًا بنمو الأمنيات في صباح أبيض بعد عبور ليل مظلم، فتلمح تحولًا حادًا في الصورة المرصودة من ليل مخيف يأوى ظلامًا عابرًا ثم ما يلبث إيقاع المشهد أن يأخذ في التبدل المتسارع من ظلام عابر إلى صباح أبيض والحلم مثل جواد ومن خوف ينقلب إلى أمنيات نامية.

  • علم القلب الثبات / فالعصافير تغني / وهي تبني عشها / وسط هدير الدمدمات
  • علم القلب الثبات / كل ما يبدو ولك مات / هو يصغي لحرير الهمسات / لانبثاق الموج في الصخر / وميلاد الحياة.

ثم يواصل الشاعر في المقطع الثالث دعوته الملحاحة إلى الثبات تأسيًا بالعصافير التي تغني وهي تبني عشها غير عابئة بتشويش الدمدمات وهديرها ليجسد لنا حالة هارمونية متباينة النغمات بين دمدمات حزينة وعصافير تغني أو بالأحرى تتزود بالغناء وقودًا يعنها على مواصلة البناء، فالشاعر يقيم عربي وثيقة بين الفن / الغناء والناء وهذا المشهد يحيلنا لمشهد آخر أثير في الوجدان الشعبي المصري في الريف والحضر وهو مشهد عمال التراحيل وهم ينشدون الأغاني والأهازيج استعانة بها على الشقاء أثناء قيامهم بأعمال البناء، ثم يجلي لنا في المقطع الرابع أمرًا هامًا وهو أن كل ما يبدو مواته إنما هو في حالة سكون مما مصغ يترصد انبثاق الموج في الصخر وميلاد الحياة.

ولكأن الشاعر يلح على مسألة تفاعل المتناقضات الذي هو أشبه بتفاعل كيميائي يتمخض عنه مركب جديد، وكأن الثبات المنشود إنما يدرك من ديمومية الكون وحركيته، وكأن حال شاعرنا في ذلك حال الشاعر التشيكي كارل سابينا الذي يقر بأن (التناعم) يولد من التناقض والعالم كله يتكون من عناصر متعارضة، والشعر الحقيقي يعيد صياغة العالم بطريقة جوهرية ومدورية، يتم فيها ميلاد الأسرار من خلال التقاء المتناقضات، وهذا هو عين ما ذهب إليه الشاعر في المقطع الخامس.

  • علم القلب الثبات / إن سرًا غامضًا / يمطر حلمًا / في ضمير الكون / تصحو المعجزات

فيصل بنا الشاعر إلى حالة أشبه بحالة كشف إشراقي تهتك فيها حجب السر الغامض عبر حلم يسقط مطرًا في ضمير الكون فتصحو المعجزات ويصحو معها … 6) صبح كان يغفو / في كثيف الظلمات.

فالحلم / الخيال المتوثب إذا لهو مفتاح سحري لعالم الأسرار وجسر مفضٍ إلى الثبات، إنه الأمل الذي تدور بفلكه الحياة وهذا ما يعاود الشاعر تأكيده في مقطعى القصيدة السابع والثامن.

  • علم القلب الثبات / كي يعود الحلم / مزدانًا / بفيض الذكريات.
  • علم القلب الثبات / إن صبر اللحظة الأولى / هو بعث لجميع اللحظات.

فبالحلم يستعيد الذكريات إلا أن الحلم لا غنى عن الصبر بغية تحقيقه / فصبر اللحظة الأولى هو بعث لجميع اللحظات.

وباستجلاء بنية المعنة في القصيدة نجدها تحفل بمشاهد جدلية تكتنفها ظلال درامية، كذلك نجد بعض المعاني التي سبق وأن أطلت من نافذة أبي سنة الشعرية من خلال قصائد أخرى فيما يمكن أن بعده تناصاُ داخليًا بالنظر إلى الخطاب الإبداعي الكلي للشاعر، فذهاب الشاعر إلى معنى عدم إمكانية استعادة المفقود وعدم جدوى البكاء عليه.

والذي فات / ابكه ما شئت / فات. نجده في قصيدة “البحر موعدنا”: جازف ولا يأمن لهذا الليل أن يمضي / ولا يصلح الأشياء تالف، كذلك فتصويره مقدم الأماني والحلم تقطع الفلوات في سرعة الجياد: (وتآمل / كيف تنمو الأمنيات / في صباح أبيض / مثل جواد راكض عبر فجاج الفلوات) نجده في قصيدة “وحده الشاعر يبكي”: (عل حلمًا / يركب الآن جوادًا / تقطع الريح ظهور / الفلوات).

ولئن كانت الموسيقى وجهًا من وجوه الشعرية، ومظهرًا مائزًا لشعر أبي سنة عنايته بموسيقى شعره وبقوافيه وتشيده آينيته الإيقاعية تشييدًا محكمًا متنوع الأشكال، ونجد في هذه القصيدة لا يقف عند حد ضبط المستويات الصوتية بل ينهض ليضطلع بدور في إنتاج الدلالات النصية، فعناية الشاعر بموسيقى بشعره تسهم في تشيد جسور الألفة بين القارئ والقصيدة، ونجد الشاعر يستهل قصيدته بجملة (علم القلب الثبات) التي يكررها في كل مطلع من مقاطع القصيدة الثمانية, فيما يعرف بتقنية الأنافورا Anaphora، فيتخذ من هذه الجملة متكأ إيقاعيًا ودلاليًا ثم ما يلبث أن يعتني بقوافيه التي يعتمد لها حرف التاء المسبوق بحرف الألف كإسناد والتاء صوت مهموس يستلزم جهدًا في النطق مما يتوازى دلاليًا مع بذل الجهد وصولًا للثبات المنشود والألف صوت مد حلقي مما يجسد معنى التمادي في الثبات والإصرار عليه، وهذا ما أكده “شتايجر” من أن تكرار القافية سواء كان منتظمًا أو منتظم يلعب دورًا في إبراز الخطورة الدلالية لبعض الكلمات، وتسوير حدود الجملة الشعرية في أحيان كثيرة، ولا تكون القافية في شعر التفعيلة مجرد تنشيط للتيار الغنائي في القصيدة وإسهام في تحديد إيقاعها الخارجي المتنوع بل تجاوزت ذلك إلى وظيفة دلالية هي تحديد مركز الثقل بين الدوال.

كذلك نجد الشاعر يدثر بعض سطور قصيدة بشيء من السيمترية الناجمة عن بنية الشاكل الصوتي بين الجمل: (حين تأتي العاصفات / أو تدوي الزلزلات – وسط حزن الأغنيات / وسط نوح النائحات)، كما جاءت سطور القصيدة قصيرة مبثوث عبر بعضها حرف التاء لتقفيتها مما يسهم في ضبط مسافات بنيتها الإيقاعية، حتى يختتم الشاعر قصيدته بنفس الجملة المحورية لها: (علم القلب الثبات / علم القلب الثبات) فيكررها مرتين وكأنها صيحة يرجع صداها.

ولا تقف عناية الشعر في خطب ود قرائه ومستمعيه عند حد العناية بموسيقى قصيدته، بل تمتد عنايته بالتقاليد الشفاهية المتوارثة  للشعر العربي إلى تضمين قصيدته حكمًا تكون مثلاُ سائرًا كما يبتدي ذلك في: (إن نهرًا جف لا تغريه أشواق البنات / إن صبر اللحظة الأولى هو بعث لجميع اللحظات).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مجلة الهلال عدد نوفمبر 2011

  • د / صلاح فضل – شفرات النص
  • مستويات البناء الشعري عند أبي سنة – شكري الطوانسي.

 

 

مقالات من نفس القسم