أبناء الجبلاوي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 فصل من رواية: إبراهيم فرغلي

يقال أن كل دخان أصله نار، لكن احدا لم يستطع معرفة سر الجمرة التي أشعلت نيران الشائعات التي عمّت البلاد؛ عن رؤية شخصيات روايات نجيب محفوظ، في أنحاء متفرقة من القاهرة.

 ردد بعض مطلقي الشائعات أنهم رأوا بعيونهم “كمال عبد الجواد”، ليس كما صورته أفلام حسن الإمام، وإنما كما وصفه محفوظ نفسه في الثلاثية. بينما انطلقت شائعات أخرى تناقلت أن “حميدة” كانت تظهر ليلا في “زقاق المدق”..

انتشرت شائعة أخرى عن تعالي صوت صراخ يقارب العويل، لإمرأة تقاوم الغرق في مياه النهر، في وقت متأخر من الليل، بجوار أحد الكباري المطلة على النيل. قال مطلقوا تلك الشائعة أنهم شاهدوا”نفيسة” تتخبط في النهر، لاهثة، تنادي على المارة أن يأتوا لينقذوها من مصيرها المروع. وتناسوا أنها قد غرقت منتحرة، وفقا لرواية محفوظ في “بداية ونهاية”؛ امتثالا لرغبة شقيقها الأصغر “حسنين” الذي القى بنفسه في النهر بعدها مباشرة، خلاصا من دنس العار الذي لحق بعائلتها بسبب تعهرها.

تناقل آخرون وصفا دقيقا لشخصية “السيد أحمد عبد الجواد”، يسير في شوارع وأزقة حي الجمالية ليلا، يتأمل أحوال الحي الذي عاش بين ربوعه، عمرا طويلا، ومنه أطلق، ولعقود، نموذج الرجل الشرقي، إيجابا وسلبا على السواء. أكدوا أنه بدا طويل القامة، حتى أن رأسه، في حي “خان الخليلي” كادت توازي ارتفاع الطوابق الأولى في البنايات العتيقة الموجودة في المكان.

إزاء هذا الوصف لتلك الشخصية العملاقة، انتشرت شائعات مضادة؛ أكدت أن ذلك العملاق ليس سوى “الجبلاوي”. لكن مجموعة من سكان المقابر نشروا في اليوم التالي إشاعة مغايرة تقول أن العملاق الذي شوهد في الجمالية، وخان الخليلي هو”عاشور الناجي”.

ولأن تلك الشخصيات، وفقا للحكايات التي ذاعت، لم تظهر إلا ليلا، فلم يكن ممكنا للكثيرين، التيقن من صحتها.

بمرور الوقت، اختلطت الشائعات، ولم يعد أحد يستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال، خاصة بعد أن بدأت بعض المرويات تُقحم، عن جهل، شخصيات، لم يتناولها محفوظ في أي من أعماله، ومنها ما زعمه أحد المتطوعين بالشهادة، في مقابلة تليفزيونية، مؤكدا رؤيته لمن أسماها ” آمال”، التي جسدت دورها النجمة “لبنى عبد العزيز” في فيلم “الوسادة الخالية”، مع عبد الحليم حافظ.

قدّم الشخص وصفا دقيقا لملامح النجمة الشهيرة التي كانت أحد ملامح فتنتها هي أنها سمراء، بعينين خضراوين. بينما أصر ثالث على أنه شاهد شخصية “ميرفت” ترتدي فستانا أحمر عاريا في أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من “شارع الهرم” بصحبة شاب وسيم، في طريقهما إلى منزله. ثم أردف ضاحكا أن هذه الشخصية هي في الأصل اسمها “ناهد”، وأنها فتاة طيبة، لكن عفريتا يتلبسها في الليل ويحولها من فتاة رومانسية حالمة، إلى داعرة لعوب، تمنح جسدها بسخاء لمن تهوى؛ من عشاق تنتقيهم من الملاهي الليلية.

قاطعه المذيع قائلا أن هذه الشخصية لم تكن شخصية من شخصيات نجيب محفوظ، وإنما هي النجمة الراحلة “سعاد حسني” بطلة فيلم “بئر الحرمان” الذي أخرجه صلاح أبو سيف في نهاية الستينات، وموضحا أن القصة لإحسان عبد القدوس وليس لنجيب محفوظ. لكن المواطن أصر على أن ما يقوله هو الحقيقة، وأنه رأى السيدة اللعوب بعينيه، فاضطر المذيع للانتقال إلى شخص آخر.

آثرت القنوات الفضائية التريث في إذاعة البرامج الخاصة بالشائعات؛ خصوصا بعد أن بثت إحدى القنوات الفضائية مقابلة مع واحد من الجمهور، زعم أنه شاهد “ياسين عبد الجواد”، الإبن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد من زوجته الأولى.

شوهد ياسين، وفقا لشهادة الرجل، في منطقة الجمالية، يسير خلف امرأة، تلف حولها الملاية السوداء وتتمايل بدلال. قدم الرجل وصفا لياسين يختلف عن وصف “عبد المنعم ابراهيم” كما ظهر بالفيلم، فقال:”كان شأنه إذا سار أن يسير متمهلا في هوادة ورفق، مختالا في عجب وزهو، كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه صاحب هذا الجسد العظيم، وهذا الوجه الفائض حيوية وفحولة”.

ابتسمت المذيعة؛ إعجابا بذاكرة الرجل وفصاحته. ويبدو أن الرجل كان صاحب ذاكرة استثنائية؛ إذ كان يحفظ ما ورد على لسان ياسين في “بين القصرين”، كما كتب محفوظ، وليس كما جاء في الفيلم، فأضاف بسرعة؛ أنه سمع ياسين وهو يسير خلف تلك المرأة يقول:

” اللهم لا تجعل لهذا الطريق من نهاية، ولا لهذه الحركة الراقصة من ختام.. يا لها من عجيزة سلطانية جمعت بين العجرفة واللطف، يكاد البائس مثلي يحس بطراوتها وشدتها معا بالنظر المجرد”. (بين القصرين ص80).

اختلط الأمر على المذيعة لوهلة، وتصورت أن الرجل يغازلها، ويتفنن في الإطراء على عجيزتها، فظلت صامتة تبتسم له بخجل، واستحال وجهها ذو البشرة شاهقة البياض إلى اللون الوردي، بينما حل صمت مرتبك لم يقطعه سوى تدخل المخرج بالقطع إلى فاصل إعلاني.

قبل الفاصل، مباشرة، وفي أثنائه، تشتت تركيز المذيعة، لأن ما اعتبرته غزلا من ذاك الرجل جعلها تستدعي عبارات الإطراء التي تلقتها من العشاق العارفين، ومن المارة العابرين على السواء، وبالتحديد ما اختص منها مدح عجيزتها؛ بالفجاجة التي تطلقها رغبة الانتهاك غير المبررة؛ في الشوارع والطرقات، من مكبوتين جنسيا، مقموعين، ومخصيين نفسيا ومعنويا؛ لا يشعرون برجولتهم المزيفة إلا إذا انتهكوا عرض امرأة.

في النهاية يبدو أن القناة الإعلامية الرسمية قد تلقت أوامر مباشرة بصرف اهتمام الناس عن تلك الشائعات؛ لأنها ركزت في الفترة اللاحقة على إذاعة برامج خبرية ومنوعة، محورها موضوعين أساسيين: الأول تعلق بامتيازات تحسين دخول الموظفين والعمال، في قطاعات الأعمال الحكومية والخاصة. أما الثاني فهو وقائع تحرش جنسي، وحالات اغتصاب تتعرض لها الفتيات في بعض أحياء القاهرة النائية، وعدم قدرة رجال الشرطة من الوصول لسفاح المناطق النائية، بسبب تعدد الأوصاف التي قدمتها الفتيات والسيدات المتحرش بهن، والمغتصبات، بما يثير الشكوك بوجود أكثر من سفاح واحد.

تراجع الاهتمام، مرة أخرى، بقضية اختفاء روايات نجيب محفوظ، والظهور الغريب لشخصيات الروايات ليلا في العديد من أحياء القاهرة، لصالح الشغف بالأحداث الجديدة.

لكن الأمور سارت على غير ما يشتهي المسؤولون، إذ تناقلت الهواتف المحمولة للأفراد واقعة، لم يتم بثها في أي قناة تليفزيونية، أو مطبوعة، عن رؤية شخصية تدعى “سناء”، وهي تتعرض لحالة اغتصاب جماعي في خرابة من الخرابات المهجورة، لكن سرعان ما انتشرت “إضافة” ألحقت بمضمون الرسالة التليفونية، تفيد بأن “سناء” كانت تغتصب بإرادتها، لأن كل من اغتصبها كان يفترض أنه من أصدقائها المقربين. ومنهم شخصيات أشارت الشائعة لهم بالأسماء وهم أحمد صادق، وجاء وصفه مثلما ظهر بطل فيلم “المذنبون” الأشقر الوسيم، وأنيس البحراوي، وممدوح فريد، وحافظ بك، وفهمي، وحسن، ود.تحسين.

ثم ألحقت بالرسائل المتداولة، لاحقا، “إضافة” زعمت أن “محجوب عبد الدايم” شوهد قريبا من موضع الحدث، وأنه ضليع بتدبير تواجد كل تلك الشخصيات مع سناء في تلك الليلة، لكن، عدم قدرته على تنظيم المواعيد، بشكل جيد، جعل الأمور تخرج من بين يديه، وتتحول المسألة إلى ما أطلق عليه حفل “اغتصاب” جماعي، بيما بثت رسائل أخرى، استبدلت فيها كلمة “جنس” بكلمة اغتصاب.

أصبحت هذه الشائعة، على نحو خاص، مثار اهتمام وتعليقات الجميع، في الجلسات الخاصة والعامة، وفي المقاهي والحافلات، بل وحتى بين الفتيان والفتيات، والأزواج والزوجات؛ الذين كانوا يرون في تفاصيل الواقعة ما يغذي خيالاتهم الجنسية، ويفعل بهم ما يفوق تأثير المنشطات، وهو ما جعل من هذه الشائعة واحدة من أقوى الشائعات على الإطلاق.

لم تنجح كل وسائل التشتيت الإعلامي التي مارستها أدوات الإعلام الرسمي كلها، في تقليل درجة الاهتمام بها وانتشارها، مزودة، من رسالة لأخرى، ببهارات متنوعة، بعضها أضاف أفعالا صريحة، أقل ما توصف به هو التهتك، بوصفها بعضا مما مارسته سناء في تلك الليلة، أو مواصفات خاصة لبعض الشخصيات، أو إضافة أسماء لم ترد في قصة محفوظ. وبعضها أسماء شهيرة في المجتمع، مما جعل من هذه الشائعة كرة ثلج مخيفة فقد الجميع القدرة على السيطرة عليها. إلا أن أحدا لم يستطع أن يعرف مصدر جمرة النيران التي أشعلت كل تلك الوقائع الغريبة، بالرغم من كل هذا الدخان الكثيف

 

عودة إلى الملف

 

  

مقالات من نفس القسم