تراب الماس.. بين الأدب الشعبي وطموح سينما النخبة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 14
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

هل دور الفن محاكاة الواقع بكل ما فيه من مسالب و تقيحات وتشوهات أم هو محاولة لمحاكاة المثل الأعلى والتسامي  بالوعي الإنساني، محاولا الارتقاء بالواقع نحو عالم مثالي، يناضل لأجل الوصول إليه، ومحاولة دفع الناس لاعتناق الإيمان به. وهل روح الفنان” مرآة مستوية” تعكس الواقع كما هو، أم هي آلة خلق تبصر ما يجب أن  يكون عليه العالم من خير وجمال وحق؟

تواردت تلك الأفكار بعدما شاهدت فيلم “تراب الماس” وقد سبق لي قراءة الرواية التي تحمل ذات الاسم من سنين للكاتب الشهير الفنان “أحمد مراد”، والذي يمثل اسمه أيضا محل خلاف شديد بين النقاد وأهل حرفة الكتابة؛ ما بين معجب ومبشر بمولد روائي عملاق، وبين مسفه ومنكر لموهبته في الكتابة من الأصل، وحينما عاودت قراءة الرواية صدمتني عبارات من قبيل “يفرد ابتسامته…بعض(التلييط) قبل عرض يصعب رفضه” أو “(عبط ) فيه زميله مواسيا” أو “ماسحا ( برابيره ) بكفه..” ومثلها عشرات العبارات، فعلمت أن  “أحمد مراد” من نوعية “المرايا المستوية” لا يهتم كثيرا باختيار مفردات كتابته، فتجده يُقْحِم في نصوصه مثل هذه العبارات السوقية المثيرة للغثيان. نعم ينتمي نص “تراب الماس” إلى نوعية ” The pop art” الفن الشعبي، ولكن ليس معنى كونه فنا شعبيا أن يغوص هكذا في قاموس الألفاظ التي لاتليق بفن أو أدب.

رواية “تراب الماس” من روايات “الديستوبيا” الصادمة لما تصوره من قبح وصل إليه المجتمع، فارتطم بالدرك الأسفل، لتتعجب كيف مازال يدب على الأرض حَيًّا بهذه الصورة التي تختلط فيها مشاهد القتل، والبلطجة، والشذوذ، والفساد بشتى صوره المتخيلة، والغير متخيلة من جهة، ومن جهة أخرى محاولة الإصلاح بصورة لا تقل قسوة وشذوذا عن عالمها المحيط؛ إذ يتحول “طه حسين حنفي الزهار” الصيدلي الوديع إلى قاتل بعد حادثة قتل أبيه “حسين حنفي الزهار” معلم التاريخ العاجز القعيد، بدس مادة حيوية ليس لها أي أثر  كيميائي تؤدي إلى أورام  تشبه السرطان لتسبب آلامًا مريعة وقتلا  بطيئا مخيفا، تُسَمَّى ” تراب الماس” وفي حقيقة الأمر فقد بحثت كثيرا على هذه المادة فلم يسعفني “الجوجل “بشئ يقرر وجودها في الأصل،  فلعلها من خيال الكاتب ولا بأس في ذلك.

كان يدس “تراب الماس” في فناجين شاي السادة الكبار الذي طالما راقبهم بعدسته المكبرة من خصاص نافذته، ومتابعة أخبارهم بالجرائد وحينما يثبت فسادهم يصدر أحكام الموت الرهيب وينفذه بحيلة واحدة، وبأداة واحدة، فلن يشك أحد في شيخ قعيد تملأ ابتسامة المسالمة والوادعة وجهه.

ما بين السياسي الفاسد، والمحامي المطوع ثغرات القانون لإطالة أمد الفساد وحماية رجاله “الرواية”، الكاتب المزور للحقائق “الفيلم”، وتاجر المخدرات المتخفي، ورجل الأمن الممارس للجريمة بدم بارد ووجه باسم، وسيدة المجتمع النسوية والحقوقية، والمومس القوادة في ذات الوقت، وتخوم عالم من الشذوذ المتخلل لكل طبقات المجتمع، لتكون نقطة التحول مقتل الأب القعيد،  لتركن وداعة وبراءة الابن إلى رغبة جامحة للانتقام والقتل بعد تيقنه من كون القانون لن ينتفض إلا لحماية الأقوياء فقط، ليمارس الابن”طه” نفس دور الأب ليكون القاضي والجلاد في حين واحد.

عالم سوداوي بامتياز لا ينيره سوى علاقة صداقة بصاحب عمره “ياسر” وحب لجارته “ساره”.

ليمارس” أحمد مراد” الكتابة على ذات النص ” تراب الماس” ليس كروائي هذه المرة بل كسيناريست لفيلم يحمل اسم الرواية ذاتها. فهل ينجح في كتابة سيناريو ناجح لروايته…يقع ” أحمد مراد” في إشكالية الزمن، فتدور أحداث الرواية والفيلم في ثلاث مستويات  زمانيه؛  زمن الجد ” حنفي الزهار” بداية الخمسينات حيث العهد الملكي ثم اندلاع حركة “الضباط الأحرار” نهاية بالعدوان الثلاثي 1956   وزمن  الأب ” حسين الزهار” ومعاصرته لموت أبيه بائع العطور بحارة اليهود، تبني صديق أبيه “لييتو” صانع الماس اليهودي له، وحدبه الزائد عليه، حبه لابنته “تونا” ورحيلهما من الحارة خوفا من اضطهاد الضباط وبطشهم باليهود، دراسته للتاريخ بعد فشله للالتحاق بالكلية الحربية لعجزه الحصول على واسطة  ثم تجنيده في الجيش، وخوضه لحرب الأيام الستة 1967، رجوعه سيرا على قدميه من سيناء للجمالية،عمله معلما للتاريخ،زواجه،رحيله لبلاد الخليج ،إنجابه لوحيده” طه”،ضياع ثروته إثر إفلاس “شركة الريان”، إصابته بشلل في الجزء السفلي ثم هجران زوجته له ليقوم “طه” الطفل والشاب برعاية أبيه، ثم زمن “طه” الابن وتكشف الحقائق  من خلال قراءة مذكرات أبيه، صحيح أن زمن الجد و الأب يأخذ صورة “الفلاش باك” مصحوبا بصوت “الأب ” ممارسا دور” the narrator ” الراوي العليم،والتي لاتخلو قراءته من أخطاء نحوية قاتلة من قبيل رفع المضاف ونصب الفاعل، فماذا عليهم لو جاءوا بمصحح لغوي لفيلم ميزانيته بالملايين، ثم أحداث الحبكة الرئيسية التي تدور في زمن الابن وإن كانت الرواية التي تزيد عن الثلاثمائة والسبعين صفحة تستوعب ذلك المدى الزمني الطويل فهل يستطيع الفيلم ذو الساعتين ونصف ” زمن طويل نسبيا” استيعاب ذلك ؟ مع ملاحظة أن زمن الابن ” طه” يبدأ في الرواية عام 2008 وفي الفيلم يبدأ عام 2018، لا أدري لم قدم السيناريست ” أحمد مراد ” الزمن عشر سنوات كاملة إلا أن تكون محاولة منه لإقحام المشاهد ليتوحد مع ما يتابعه على شاشة السينما.

غير السيناريست  في شخصياته التي كتبها كروائي فحذف وأضاف وعدل ف”سارة” في الرواية صحفية شابة بجريدة معارضة وضيفة دائمة على مظاهرات الشارع في ذلك الزمن “2008” تقع في حب جارها “طه” وهي في الفيلم معدة برنامج ” talk show” لأحد مقدمي البرامج فائقي الشهرة والنجومية، يتبني مطالب الجماهير  والتي تتوق للحرية والعدل ذلك في العام “2018 ” زمن الفيلم!!، السيناريست لم يعدل في شخصية  بطلة روايته ” سارة” فقط،  إنما خلق شخصية جديدة لم توجد في الرواية وهي  شخصية الإعلامي الشهير ” شريف” ولكن ” شريف” كان متورطا لأذنيه في علاقات غير شرعية مع سيدات المجتمع بل كان يقوم بتصوير ما يحدث بينه وبينهن على الفراش بدون علمهن، وفي ذات الوقت وقعت “سارة” لأذنيها في حب “شريف”،   ولما اكتشفت “سارة” ذلك اغتصبها وصور ذلك لابتزازها أيضا. لم تكن تلك الشخصية ولا هذه العلاقة مسطورة بالرواية ولم تضف هذه الشخصية قليلا أو كثيرا للفيلم، وإذا كان السيناريست غير الروائي لفسرنا ذلك باختلاف وجهة النظر في التطور الدرامي للفيلم، ولكن لما كان السيناريست هو ذاته كاتب الرواية كان حتما علينا أن نتساءل لم أضيفت، هي محاولة لإحداث التوازن وتخفيف حدة النقد الصوري للنظام  فكما أن  بعض رجال الدولة فاسدون كذلك فبعض رجال المعارضة لا يقلون فسادا، والسر في ذلك تقدم الفيلم عن الرواية بعشر سنين. لو كان السيناريست أبقى على الزمن وظلت الأحداث تدور بالعام 2008 لكان أكثر حرية في تقديم رؤيته السياسية والنقدية.

وكما أضاف في الشخصيات فقد حذف، فأحد أبطال الرواية كان “ياسر” صديق “طه ” الوحيد، تميز ياسر بشخصية مرحة مخلصة جدا كان يستخدمه الروائي “أحمد مراد” كعامل مخفف  حينما تصل المشاهد الدرامية لذروة عالية من الكآبة أو العنف ليخرج المتلقي من لحظات  التأزم الحاد للتسرية والتلطيف فلما حذفه السيناريست ” أحمد مراد “أصبح الفيلم سلسلة من المآسي والفظائع الداعية للاكتئاب، والتشاؤم الشديد. فالفيلم يدور في أجواء بلغت من السوداوية غايتها القصوي فتصاب حتما كمشاهد بحالة اكتئاب مؤقت بعد مشاهدة الفيلم، هذا ما حدث لي على الأقل.

نجح الروائي ” أحمد مراد” في تقديم شخصيات مثل رجل المال والسياسة ” محروس عبد الحكم برجاس” وأبيه رجال كل العصور نجاحا جميلا في روايته عن طريق عرض منشتات الجرائد من العام 1947 إلى 2008 فنعلم نشأته وأسرته كأجيال من مصاصي الدماء ممن أثروا عن طريق صفقات الأغذية الفاسدة والغش في مواد البناء والتشييد، ولكنه في الفيلم لم ينجح في تقديم الشخصية نجاحه في الرواية ف”محروس برجاس” مجرد ترزي من ترزية القوانين بالبرلمان.

تظل “سارة” عامل حب و نضال وتحرر في الرواية تحاول إبعاد حبيبها و إقصائه عن دائرة الانتقام التي لا تعرف شبعا بينما تتحول في الفيلم لقاتلة  بنفس سلاح “طه” و “أبيه” للانتقام من مغتصبها الإعلامي الشهير ومن ثم عدم المنطقية في علاقة الحب التي ربطت بينها وبين “طه” في نهاية الفيلم .

شخصية أم “طه” في الفيلم مجتزأة جدا وناقصة هي مجرد أم لم تتحمل مسؤولية الزوج القعيد و طفلها فهربت لتتزوج بآخر بينما هي في الرواية تهرب من الزوج لاكتشافها أنه قتل صديقتها ” سميحة ” لوقوعها في علاقات جنسية غير مشروعة، فلم تعد تطيق الحياة مع قاتل، ولحادثة هروب الأم تأثيرها الكبير على شخصية الابن.

حبكة إجراء جرائم القتل في الفيلم واحدة من قبل الأب و الابن هي وضع سم”تراب الماس” خلسة في كوب الشاي من أول “لييتو” إلى  ” هاني  برجاس”، بدون أي مخاطرة كفيلة بإحداث جو من التشويق. فيما اختلفت وسائل القتل في الرواية وتنوعت ولم تخل من تشويق وإثارة ترفع نسب الأدرينالين لدي القارئ.

لا تخلو الرواية من “اقتباسات جريئة” لمشاهد مثل مشهد “سرقة القبر”،هو ذاته مشهد سارق القبر ” زيطة صانع العاهات” برواية ” زقاق المدق” لنجيب محفوظ وكذلك مشاهد الشذوذ الجنسي المتخيل المقتبس من قصة قصيرة ليوسف إدريس في مجموعة ” بيت من لحم”.

فلو ترك الروائي ” أحمد مراد” مهمة السيناريو لغيره لربما  شاهدنا فيلما من أروع ما قدمته السينما المصرية لجدية الممثلين  و المخرج وكل عناصر الفيلم من موسيقى وتصوير، نقطة الضعف الوحيدة كانت في السيناريو، فالروائي لاينجح في الغالب بتحويل روايته لسيناريو فكل عناصر الرواية لا تقل في أولويتها و أهميتها هي بمثابة فلذات كبده، كذلك  فالحميمية بين الروائي وروايته لا تمكنه الانتقاء كسيناريست فيود لو أقحم كل مشاهد الرواية وحواراتها ومشاهدها في الفيلم وهذا غير ممكن لمحدودية الفيلم زمنا وميزانيته.

وإذا قارنا فيلم ” تراب الماس” بغيره من الأفلام طيلة الخمس سنوات الماضية لرجحت كفة الفيلم وتفوقت تفوقا باهرا، ليظهر ذلك في حصيلة إيرادات الشباك في أسبوع عرضه الأول ليدلل على أن الجمهور يتشوق لعرض سينمائي جاد وما يجد الفرصة إلا ووهبها كل وجدانه وحماسته لنسلم أن ذائقة الجمهور مازالت بخير تنتظر الجيد بصبر وتلهف.

 

مقالات من نفس القسم