1919 بعدسة أحمد مراد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد الزلوعي

تجول عين مراد اللاقطة فى القاهرة 19 ترصد تراكم الشحن الشعبى الذى أدى الى ثورة 19 . وطن يرزح تحت نير احتلال راسخ , وسياسيين يجربون حلولا تتأرجح بين الصدام والمهادنة , وقصر قُدم على أنه موال للبريطانيين , وصحافة تركزعلى وصف عمليات المقاومة الفدائية بالتطرف , وأمن يلاحق الفدائيين فى كل مكان .

تبدأ الرواية فى درب طياب بالازبكية بمشهد احتضار سيدة أرمينية جاءت هاربة من مذابح الأتراك فى سوريا ,  تقضى السيدة بوباء منتشر آنذاك تاركة ابنتها الجميلة ( ورد ) وحيدة فى مواجهة حياة لا ترحم فتقع فريسة سهلة لجارتها ( بمبة ) التى تدير شقة مرخصة للدعارة .

  ( عبد القادر)  شاب لا تهمه إلا مصلحته ويعمل بتوريد البضائع إلى معسكر الانجليز فى التل الكبير , وهذا هو سبب الخلاف بينه و بين أبيه الفتوة ( شحاته الجن ) الذى يرفض سلوك ابنه رغم أنه هو نفسه كان يتعامل مع ضابط انجليزى ليحتفظ بسطوته كفتوة للمنطقة .

   أما (أحمد كيرة) الذى يمكن اعتباره بطل الرواية الرئيسى فشاب ناشط فى منظمة اليد السوداء التى تنفذ كثيرا من العمليات الفدائية ضد الانجليز وكبار الموالين لهم , وكما مهد الكاتب لشخصية ( عبد القادر ) بشخصية أبيه الفتوة .. مهد كذلك ل ( أحمد ) بشخصية والده الذى كان ضابطا فى جيش عرابى وتم اعدامه  فنشأ ( أحمد ) على تصميم قديم على الانتقام رغم أنه لم ير والده وإنما التقط  سيرته من حديث أمه ولاحقا من سعد باشا وعبد الرحمن فهمى .

   تعتقل السلطات سعد باشا وتنفيه خارج البلاد فتكون الشرارة التى تفجر الثورة و التى تدفع بيت سعد باشا ( بيت الامة ) إلى مركز الاحداث .. ففيه تنمو العلاقة بين ( أحمد ) وعبد الرحمن فهمى , وفيه يتعرف على الرقيقة الارستقراطية نازلى , واليه  يأتى جثمان  الفتوة شحاتة الجن الذى يستشهد فى مظاهرة للطلبة انساق اليها بدون تقرير حتى قتله بالرصاص ذات الضابط الانجليزى الذى كان يتعامل معه , وإلى بيت الامة يأتى ابنه عبد القادر من بيت ( بمبه ) مذعورا حين سمع نبأ مصرع والده  حيث يكون تعارفه مع ( أحمد ) .

وفى بيت الامة تظهر دولت الفتاة الصعيدية التى تعمل مدرسة بالقاهرة والتى تعجب بحماسها  صفية زغلول والتى مهد المؤلف لظهورها  بشخصية ( لا أعلم مبرر وجودها  )  وهى شخصية أخيها ياسين القروى الصعيدى الذى اقتيد للحرب و الذى اضطره الانجليز الى قتل رفاقه من أهل بلدته  ليثبت ولاءه قبل الدخول فى معركة مع الاتراك .

   حتى هنا تتميز الرواية ببناء محكم للشخصيات وتصاعد متسق للاحداث مع بعض الحبكات الجانبية التى تؤجج التشويق الذى سيظل سمة الرواية كلها  بعد ذلك تبدأ مرحلة المنعطفات الحادة فى مسار أغلب الشخصيات .

فعبد القادر السكير صديق الانجليز ينقلب فدائيا مناضلا ضد الانجليز حتى أنه يترك جثة أبيه وينطلق من فوره بنية تدمير معسكر الانجليز بدافع الانتقام الشخصى  الذى هو تقريبا ذات الدافع عند ( أحمد كيره ) ! ..

نازلى البنت الرقيقة التى أحبها ( أحمد ) يطلبها السلطان فؤاد فنكتشف انها نازلى ام الملك فاروق الراسخ تاريخها – الذى لم تذكره الرواية –  كعاهرة ملكية فيما بعد والذى يتناقض مع صورة الفتاة العاشقة الرقيقة الحالمة .

  وكانت الرواية قد مهدت لشخصية كمثال للإخلاص والبطولة وهى شخصية ( نجيب الاهوانى) الذى قبض عليه فى أحد العمليات ورفض الاعتراف على( أحمد ) تحت صنوف التعذيب وكاد يحكم عليه بالاعدام وخفف الى المؤبد ، هذه الشخصية  سيقابلها الفدائى ( عبد القادر ) بعد أن يقبض عليه عقب عملية فاشلة اشترك فيها مع ( أحمد ودولت ) .. تشتعل البلاد بالثورة حتى يعود سعد , وبعد فترة تتولى وزارة وفدية تفرج عن المعتقلين السياسيين ومنهم (عبد القادر) و البطل ( الاهوانى )

فجأة  ينقلب الاهوانى بعد تاريخه كله  خائنا  رخيصا  متعاملا مع الانجليزلا لشيىء الا لأن النحاس رفض اعطائه منصبا  يليق بكفاحه !!  . لم يُبرر هذا التحول روائيا وبدا متعسفا الى أبعد حد بغية خلق مزيد من المفاجأت حتى ليعتبر خطأ فى ( الإعراب الروائى ) اذا جاز لنا التعبير .

   شملت النهايات التراجيدية دائرة كبيرة من الشخصيات وجاءت استكمالا لأجواء حافلة بالمبالغات , فالوباء الذى ماتت بسببه أم ورد هو باء نادر , و تحول الفتوة الكبير الى متظاهر  ثم شهيد  مفارقة نادرة , وانقلاب عبد القادر من شخص سعيد بحظوته لدى الانجليز وأرباحة الماليه من تجارته معه الى راغب فى الانتقام و مناضل وطنى أمر نادر , وأن يكون غريم البطل هو السلطان شخصيا أمر نادر , وأن ينقلب المناضل الصامد الى خائن هو انقلاب من النقيض الى النقيض وهو أمر  يتعدى الندرة إلى الغرابة .. عبر سلسلة مبالغات قد تبدو الرواية مثل أغنية زاعقة زاد تعمد التطريب فيها عن حده وهو ما يضع الاغنية على محك الزمن بعد زوال أثر التلقى الاول .

   تجلى حرص المؤلف على الاحتفاظ بالتشويق ليس على مستوى الرواية إجمالا  فحسب وإنما على مستوى الفصول نفسها التى بدت نهايتها كنهايات حلقات المسلسلات التلفزيونية التى تحرص على جذب مشاهدى الحلقة التالية .

   أفضل قراءة للرواية هى التى تعتبر الزمن بطلها الرئيسى . حيث جسد الكاتب المظاهرات الكبرى فى العاصمة ورصد مظاهرات قرى ومدن عدة وردورد الافعال الشعبية الغاضبة  كما برع فى استخدام التوثيقات من البيانات السياسية الى نصوص الرسائل والبرقيات والتصريحات وغيرها بما وفر اضاءة واسعة على اجواء الثورة   .  وقد نجح الكاتب فى استدعاء سياقات  تحيل الى ثورة يناير  خاصة فيما يتعلق بمواجهة المظاهرات وموقف الصحافة ورؤية السلطات وتصرفها حيال الاحداث وتحدث عن انقسام الثوار وأنصاف الثورات .

  أما القراءة عبر البطل فالرواية تقدم أربع شخصيات رئيسية  أحمد كيرة  وورد  و عبد القادر ودولت . كما شغلت شخصية الاهوانى حيزا هاما فى الجزء الاخير . فاذا تفهمنا ما تؤديه شخصية (أحمد) من تمثيل لحركة المقاومة وشخصية (عبد القادر) من انحياز الشعب الى الثورة وشخصية دولت  التى ( قد ) تمثل درو المرأة المتعلمة فى الثورة فإننى لم اتوصل الى مغزى شخصية ( ورد ) الارمينية المهاجرة  فى سياق الرواية ككل رغم أن الغلاف جاء حاملا صورتها بالذات !..

  ولو اعتبرنا شخصية سعد باشا  الذى هو رمز الثورة ومثابة أحلام الامة البطل الرئيسى للرواية  لبدت الرواية أفضل كثيرا خاصة و قد اهتم الكاتب بعرض صدى شخصية الباشا لدى الجماهير ولدى القصر والانجليز وتعرض لفكره فيما يخص يخص القضية ورؤيته فى  التعامل مع كافة الاطراف  , ولو عمد الكاتب إلى تعظيم العمل على هذا المسار وتقليل جرعة المبالغات السينمائية الشعبية لكان للرواية شأن آخر .

  تتميز الرواية بمستوى تخييل عال اعتمد تقنيات السينما المختلفة , فتبدت الأماكن حية فاعلة من بيت بمبة بدرب طياب إلى بار كافيه اجيبسيان إلى معسكر التل الكبير إلى بيت الامة إلى قصر البارون امبان وغير ذلك .  وتجلى ذلك  فى ابتداء الفصول غير المعنونة ولا المرقمة  ببيان للمكان تارة  ( فيلا  عبد الرحمن باشا .. الجيزة ) , وللزمان تارة (  7.15  صباحا ) , ولكليهما  أحيانا  ( السبت  8 مارس حى الانشا  المنيرة ) ,  ورسمت الشخصيات بحرفية لا تقل عن ذلك  عبر الملامح والملابس وطريقة التعبير وإن انعطف نمو بعضها حادا كشخصية (عبد القادر ) وشديد الحدة كشخصية ( الاهوانى) كما أشرنا .

 أتى وصف مراد شيقا  بعدسة سينمائى محترف , وحفلت اللغة بمشهدية عالية

( تتخلل أمطاره أخشاب السطح المتداعية فتتسرب القطرات بالحاح الى طبق على ارض غرفه اضاءها قنديل بائس )

( ترجرجت السيارة ..تحفر وراءها خطين متعرجين )

( يسلمه الى حسناء يونانية او ايطاليه ترتدى ديكولتيه ساتان و شراب شبك يشعل ساقيها فوق كعبين لهما طقطقات تدغدغ الاعصاب )

( اغصان وجذوع متناثرة فى الوادى منذ ملايين السنيين صنعت طرقا و حواجز و مغارات  تتخلل الرياح بينها لتحدث صفيرا وسط ضباب يهيم قرب الارض ليخفى نصف السيقان )

  جاءت الحوارات الكثيرة بطول الرواية مؤدية فاعلة تتراوح بين العامية على ألسنة المصريين والفصحى البسيطة على السنة الانجليز كأنها ترجمة وفيما جاء المونولوج الداخلى بفصحى الراوى نفسه . لغة الحوارات حاولت مراعاة العصر قدر الامكان و لو أنها  اضطربت فى مواضع قليلة من أمثال  عبارة (  ديك أمك ) غير المناسبة لذلك العصر التى وردت كسباب أكثر من مرة على لسان شخوص ..

اللغة فى العموم سلسة شيقة و مؤدية وإن كانت الغاية الاساسية منها خدمة الحبكات و بلورة المفاجآت لصنع تشويق أكثر حرارة .

   يتسع الكادر أحيانا ليشمل الميدان الملىء بالمتظاهرين و يضيق أحيانا  مركزا على رعشات الانامل  وارتجافات الشفاه , تتابع الفصول / المشاهد عبر الرواية حية زاهية مفعمة بالحياة مصحوبة بالاصوات والحركة مما ينقل القارىء فورا إلى مكان الحدث وهو مستوى لا يصل اليه الا روائى متمكن من أدواته مهتم بجمهوره فى نفس الوقت .  امتاز الكاتب  كذلك  بقدرته الفائقة على الاحتفاظ بأجواء التشويق فى مداها الاقصى  عبر حبكات ( سينمائية ) أيضا  , لكن ذلك أتى على حساب العمق سواء على مستوى الرواية ككل او على مستوى مسارات شحوصها المختلفة . ونحن لا نخص  بالعمق فى هذا السياق أفكارا بعينها وإنما نعنى به العمل على بلورة فكرة – أيا كانت –  وإعطاء ذلك اهتماما كافيا عبر دروب العمل الروائى .

تنوعت  بنية التشكيل من المشهدية للاسترجاع  للمونولوج الداخلى للرسائل والنصوص وأحلام اليقظة وغير ذلك ,  حاول كسر جاجز اللغة  باستخدام مفردات شائعة فى الحوار وتوخى ما يناسب كل شخصية باعتبار العامل الزمنى  و غيره .

لا ينزلق  مراد بالطبع الى دائرة الروايات البوليسية المباشرة رغم غلبة الاكشن على عمله  ولابد أن نثبت له فضيلتين  ثمينتين : أولاهما عنايته الجيدة بالبحث و التوثيق فيما يتعلق بعمله الروائى وهو اتجاه أوروبى لم يظهر فى الرواية العربية إلا حديثا وهو ينجز ذلك بحرفية عالية ,  وثانيهما قدرة أعماله على جذب جماهير واسعة  من القراء على مختلف ثقافاتهم  مما يعد تكريسا للقراءة عامة فى زمن يشكو فيه الكتاب من هجران طويل ..

ــــــــــــــــــــــــــ

قاص وناقد مصري

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم